الثنائي أردوغان ـ أوغلو وأحلام السلاطين

وجدي المصري

كلّ الاستفتاءات التي أجريت في تركيا قبل الانتخابات الأخيرة التي جرت في الأول من تشرين الثاني الجاري أشارت إلى أنّ حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان لن يفوز بالأغلبية التي تخوّله تأليف الحكومة منفرداً، وبالتالي الاستمرار بتنفيذ مخططه الداخلي القاضي بتعديل الدستور لكي يتمكن من إحكام قبضته على مؤسسات الدولة من جهة، والإمعان من جهةٍ ثانية بدعم التكفيريين من خلال تسهيل دخولهم إلى الأراضي السورية وشراء البترول منهم لتأمين تمويلهم. وعند صدور النتائج تفاجأ الثنائي، على ما قال المعلّقون، وبدأت التحليلات لمعرفة أسباب عدم صحة التوقعات. ولكن ما لفت الأنظار مؤخراً هو تقرير لأحد مراكز الدراسات الأميركية الذي أكّد أنّ أردوغان تلاعب بالنتيجة بطريقةٍ أو بأخرى لكي يضمن عودته المظفرة. وسواء أكان ذلك صحيحاً أم باطلاًً فما يهمّنا هو تصريحات الثنائي بعد فوزهما مباشرة، إذ أتحفنا أردوغان بتصريحٍ يتوعّد فيه الأكراد بحربٍ شاملة للقضاء عليهم، تبعه أوغلو بعد أيام ليوسّع بيكار حربه ليشمل، فضلاً عن الأكراد، كلّ اليساريين مؤكداً بدوره أنه سيتمّ القضاء على الجميع. وهنا من حقنا أن نتساءل: هل نسيَ هذا الثنائي بأنهما يدّعيان ممارسة الديمقراطية في بلدهما، وانطلاقاً من هذه الممارسة لا يزالان يصرّان على دخول السوق الأوروبية المشتركة؟ وهل نسيا أنهما وبإسم إحلال الديمقراطية في «سورية» دعما التكفيريين الإرهابيين لإسقاط «نظام الاستبداد» الذي يمثّله الرئيس بشار الأسد؟

فكيف يكيلان بمكيالين تحت سماءٍ واحدة؟

تركيا هي جارة سورية، وهي التي احتلت سورية الطبيعية بأكملها باسم الخلافة الإسلامية ولقرونٍ أربعة، وهي التي حصلت، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية على جائزة ترضية أملاً بتغيير تحالفاتها، على لواء الاسكندرون الذي يشكّل جزءاً من الأراضي السورية. الرئيس السوري استجاب مع بداية الأحداث لرأي المعارضة السورية وبدأ بإحداث بعض التعديلات الدستورية التي لم تكن كافية ولكنها كانت الخطوة الأولى التي أظهرت استعداداً للإصلاح والتغيير. ولكنه، ومن موقعه كرئيسٍ للبلاد مؤتمن على المحافظة على مؤسسات الدولة وعلى حدودها ووجودها، سارع إلى مواجهة جحافل الارهابيين الذين استقدمتهم المؤامرة الدولية – الإقليمية إلى بلاده وما زال يفعل. فكيف تكون مواجهته لهذا الإرهاب المدمّر للحضارة وللقيم الاجتماعية منها والدينية استبداداً يستدعي تضافر جهود معظم دول العالم لإسقاطه بحجة دعم الثائرين عليه وصولاً إلى الديمقراطية حلم الشعوب المستضعفة، ويكون في الوقت ذاته تصرّف أردوغان – أوغلو مع الأكراد مقبولاً من دول العالم، وخاصة الأوروبية منها، وغير متعارض مع الديقمراطية التي بها يؤمنون؟

كنتَ قد تساءلت في مقال سابق حول موقف كلّ هذه الدول التي تنادت لإسقاط الرئيس الأسد عمّا يمكن أن تفعله داخل بلدانها إنْ قامت جماعاتٍ مسلحة بأعمالٍ إرهابية شبيهة بما يقوم به «داعش» بحجّة عدم اقتناعها بأنّ النظام القائم هو نظام غير ديمقراطي. وجاء الجواب مباشرةً من أردوغان – أوغلو بأنهما سيقضيان على كلّ مَن يسعى إلى الوقوف بوجههما. فإنْ قال قائل بأنّ حزب العمل الكردستاني يقوم ومنذ سنوات، وقبل دخول الثنائي المعترك السياسي، بأعمالٍ عسكرية تهدّد أمن الدولة، لقلنا بأنّ هذا ما حصل تماماً في سورية فلماذا ما هو مسموح في تركيا غير مسموح في سورية؟ والجواب بسيط وهو أنّ تركيا حليفة للغرب من جهة تسعى إلى تأمين مصالحه التي تتماهى مع مصالحها، ومن جهةٍ ثانية، وهي الأهمّ، لأنها لا تشكّل خطراً على الكيان الصهيوني الغاصب، بل هي حليفة لهذا الكيان أيضاً وإنْ كان أردوغان قد خدعنا في وقتٍ من الأوقات مظهِراً تعاطفه مع غزة المحاصرة، هذا الموقف الذي لم يكن ليظهر للعلن لو سارعت «إسرائيل» إلى الاعتذار عمّا حدث مع السفينة التركية التي حاولت كسر الحصار. الرعونة «الإسرائيلية» والعنجهية المستمدّة من التفكير اليهودي أشعلتا يومها حفيظة السلطان أردوغان، وسرعان ما عادت الأمور إلى مجاريها نتيجة الاتفاقيات العسكرية والتجارية بين البلدين.

إنّ المسألة الكردية ليست مستجدّة على الساحة الإقليمية، وهي ليست بعيدة عن مخططات الصهيونية العالمية التي ما زالت تسعى إلى زرع بذور الشقاق في الدول المحيطة، إضعافاً لهذه الدول لكي تستطيع تمرير مخططاتها التي تدعم وجودها الاستيطاني في الجنوب السوري أيّ فلسطين. وها هم الأكراد في العراق، وبدعمٍ من الولايات المتحدة التي تسير بسياساتها الخارجية بناءً على ركيزتين: الأولى تحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، والثانية ضمان أمن «إسرائيل»، يسعون إلى تجاوز الحكم الذاتي وصولاً إلى الانسلاخ عن العراق وإقامة دولتهم. إنه حلم لطالما راودهم لأنّ الأنظمة المتعاقبة على العراق، كما في تركيا، لم تستطع معالجة المسألة الكردية معالجة جذرية تزيل الغبن عنهم وتتعامل معهم كمواطنين أصليين.

المسألة الكردية تقوم على أساس عرقي ساعيةً إلى إقامة دولة واحدة تضمّ الأكراد في العراق وسورية وتركيا. وبغضّ النظر عن أحقية هذا المسعى والطرق المتّبعة لتحقيقه، لا يمكن أن يُطبّق على هذا التحرّك مبدأ حق تقرير المصير الذي أقرّته الأمم المتحدة، خاصة عندما يعتمد هذا الحق على الأصل العرقي لأحد مكوّنات دولةٍ ما.

وفي الوقت نفسه، لا يُعفي هذا الواقع الدولة التي تواجه مثل هذا المشكل من مسؤوليتها في عدم إيجاد الحلّ المناسب منعاً لاستمرار هذا المكوّن بمحاولاته الانفصالية. وحده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده أوجد الحلّ من خلال نظرته إلى وحدة الانتماء ووحدة الحياة للشعب في نطاق كيانه الاجتماعي. هذه الوحدة التي تشكّل ثقافة اجتماعية قومية لا يمكن أن تستقيم إلا بوعي كلّ أبناء الأمة الواحدة بانتمائهم القومي البعيد عن كل الانتماءات المجزِّئة لوحدة الأمة، أعني بها الانتماءات العرقية والطائفية والعائلية. إنّ وحدة الحياة من شأنها أن تنزع فتيل الشعور الديني بالغبن والمواطنية من الدرجة الثانية أو الثالثة. لو تمّ التعامل مع الأقليات الإثنية والدينية على وجهٍ مخالف لما هو حاصل لما كنّا نرى اليوم هذه النزعات الانفصالية، ولما كنّا نسمع الدعوات المطالِبة حيناً بحقوق الأقليات الدينية وحيناً آخر بحقوق الأقليات العرقية. في الدولة القومية الاجتماعية يذوب هذا الشعور ويتلاشى لصالح الانتماء القومي الوطني الواحد والموحِّد لمصالح الأمة التي إنْ تحققت أصاب منها جميع أبنائها. في القرن الحادي والعشرين، من العار على الجماعات النظر إلى وجودها من منطلقٍ عرقي أو ديني، وآن لنا أن ندرك أنهما يسبّبان شرذمة الأمة وتفككها خدمةً لأغراض أعدائها.

لقد قسّم الاستعمار بلادنا بموجب اتفاقية سايكس – بيكو وبدفعٍ من الحركة الصهيونية التي تسعى اليوم إلى تحقيق تقسيمٍ جديد يساعد على تجذّرها في بلادنا ويحرمنا حق الوحدة الحقيقية لمواجهة الاغتصاب والاستيطان.

إنّ نظرة سعاده القومية الاجتماعية ليست الحلّ الأمثل للأمة السورية فقط، لكنها يمكن أن تشكّل الحلّ أيضاً لتركيا ولأيّة أمةٍ تواجه مسألة عرقية كإسبانيا مثلاً. إنّ تفاعل أبناء المجتمع الواحد لا يمكن أن يتمّ في ظلّ عقلياتٍ رجعية تحنّ إلى عهد السلاطين وما رافقه من ظلمٍ واستبدادٍ وقمعٍ واستعباد. إنّ تحرّك الأكراد في تركيا لا يمكن أن يُعالج بالقوّة ولا بإدارة الظهر للمشكلة ولا بدفن الرأس في الرمال. الطائرات التركية دأبت على قصف مواقع حزب العمل الكردستاني منذ زمنٍ طويل، ودون رحمة، وجاءت أحلام أردوغان – أوغلو السلطانية لتنمّي مشاعر العظمة التي تسمح لأصحابها بالسعي إلى سحق كلّ مَن يقف بوجه السلطة وكأنهم بذلك يثبّتون نظرية ملوك القرون الوسطى القائلة بأنهم ظلّ الله على الأرض.

أردوغان الذي لم يكن يأمل بالفوز الكامل، كان قد بدأ بالتراجع عن مواقفه المتشدّدة تجاه سورية والرئيس الأسد. أما بعد فوزه، فقد عاد إليه شعور العظمة السلطانية، فإذا به يؤكد من جديد بضرورة رحيل الرئيس الأسد. هو يتساوى بذلك مع نظيره الفرنسي هولاند الذي انغمس حتى أذنيه بالممانعة إرضاء لبعض الأنظمة العربية المتشدّدة بغية المحافظة على بعض المكاسب التجارية، غير قادرٍ على استيعاب المعادلات المُستجدّة أو متهيّبٍ لمدى خطورة الإرهاب الذي دقّ أبواب عاصمته منذراً بالمزيد.

عندما تسيطر عنجهية الحاكم على عقله وتوازنه التحليلي يصبح من الصعب كبح جماح غرائزه، وتصبح عندها تحرّكات الطامحين إلى إرساء كيانهم الذاتي توازي طموحه السلطاني باستعادة الأمجاد الغابرة. فلماذا لا يقرأ السلاطين الجدد تاريخ سلاطينهم فيعرفون إلى أيّ منقلبٍ هم سائرون؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى