قاموس الشراكة الاستراتيجية الروسية الإيرانية… والمفردات الأميركية

د. محمد بكر

في طهران، فُتح قاموس الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران على أقصى دفّتيه تطبيقاً لما أعلنه نائب رئيس الوزراء الروسي روغوزين، قُبيل زيارة بوتين لجهة أنّ بلاده تسعى إلى شراكة استراتيجية مع طهران، إذ كاثر الجانبان كلّ مفردات التحالف الاستراتيجي التي من شأنها تعميق وتدعيم عوامل المصير المشترك، فكانت لهدية بوتين الثانية التي قدّمها هذه المرة إلى مرشد الثورة، وهي نسخة من القرآن، مدلولات عميقة أرست مؤشّرات التقارب والاحترام والتودّد الروسي لإسلامية الجمهورية الإيرانية، التي وازت في بعدها الوحدوي الأبعاد السياسية للهدية الأولى التي قدّمها بوتين إلى الرئيس روحاني في قمة قزوين الأخيرة، وهي درع من البرونز يعود إلى زمن الشاه عباس الأول. هذا التحالف الذي تجاوز حدود التعاون لمواجهة الإرهاب ليشمل الجوانب الاقتصادية أيضاً، وكذلك رفع الحظر الروسي عن توريد المعدّات إلى منشأة فوردو النووية، والتخطيط لافتتاح الوحدتين الثانية والثالثة في محطّة بوشهر، ونيّة الاتحاد الأوراسي إقامة منطقة تجارة حرّة مع طهران، حراكٌ روسي باتَ يستولد كلّ عوامل رفع «الضغط الأميركي» التي أخرجت أوباما من «ثيابه» ليُعلن البيت الأبيض اتّهامه لموسكو بتقويض جهود أميركا في سورية لناحية انخراط ما سمّاها المعارضة المعتدلة في العملية السياسية، مضيفاً أنّ على روسيا بلورة استراتيجية حقيقية بعيداً من دعم الأسد، ولا سيّما بعد كلام بوتين اللّافت الذي صاغ جرعة هيجان إضافية إلى خصمه الأميركي عندما صادق مع حليفه الإيراني على بقاء الأسد قائلاً: «نحن لا نخون حلفاءنا كما يفعل البعض».

في اعتقادنا أنّ المرحلة المُقبلة من مشهدية الاشتباك الروسي – الأميركي هي مرحلة خطرة للغاية، عنوانها الأبرز «حفر الأساسات» لصرح الحلّ السياسي في سورية. منبع هذه الخطورة يكمن في ثلاث نقاط رئيسة:

– البدء الفعلي لتطبيق الاستراتيجية الأميركية لجهة إفشال روسيا وتحالفها في سورية بأدوات ووسائل مختلفة، الأولى كانت عبر «داعش» في حادثة تحطّم الطائرة الروسية المدنية، والثانية عبر تركيا وبالتنسيق مع الناتو لجهة إسقاط طائرة السوخوي. هاتان الحادثتان اللتان تشكّلان رسائل واضحة المدلولات للروسي، خطّها في اعتقادنا القلم الأميركي بامتياز، فليس مجرد صدفة على الإطلاق أن تتزامن هذه الحوادث مع الحراك الروسي الطافح بالزّخم أعلن فيه بوتين من طهران، أنّ عملياته العسكرية في سورية تجري بالتنسيق التامّ مع إيران، والتي لولاها لكان من المستحيل تنفيذها. ومن هنا نقرأ ونفهم تصريحات مرشد الثورة خلال لقائه الرئيس بوتين حول وجود مخطط أميركي لاستهداف المنطقة، ولا سيّما مصالح روسيا وإيران، ما يؤّكد بدء استراتيجية الإفشال الأميركي للحراك الروسي – الإيراني.

– أنّ عملية التأسيس لمرحلة سياسية توافقية في سورية لا تجري مطلقاً بين المشتبكين على قاعدة «توافق الإرادات»، إنّما تُشكل في مشاهدها وصورها وحيثياتها كلّ أساليب التناحر وتناطح الرؤوس واستعار نار المواجهة المتلظّي الوحيد في آتونها وألسنتها، الشعب السوري وموارده ومؤسساته.

– أنّ اتساع دائرة وشكل الخيارات الصِّدامية في المواجهة الحاصلة في سورية، سيزيد العواقب الوخيمة لتبعاتها وأبعادها، ولا سيّما إن كان تدخّل قوات برية إيرانية في سورية حاضراً في أجندة الروسي والإيراني في المرحلة المقبلة كعامل مساعد للغارات الروسية، التي أعلن بوتين عدم كفايتها للقضاء على الإرهاب. هذا الخيار فيما لو حصل، سيعزّز من منطق الطائفية والمذهبية في المنطقة التي تُعدّ شعوبها مهيّأة لتلقّف و»الاقتناع» بطائفية المشهد، ولا سيّما في ظلّ وجود حملات إعلامية ممنهجة ومنظّمة تضخّ سمومها على مدى خمس سنوات. ومن هنا نفهم ما أعلنه مرشد الثورة خلال لقائه الرئيس العراقي في قمّة الدول المصدّرة للغاز، أنّ إثارة النعرات الطائفية بين القوى السياسية العراقية هو ما سمح للأميركي بالحديث العلَني عن تقسيم العراق، هذا الخيار الحاضر دوماً في الفكر الأميركي، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، عندما كان هنري كسينجر وزيراً للخارجية الأميركية وقدّم رؤيته، والتي هي رؤية بلاده في كلّ الأحوال، بأنّ السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وتقسيمها تتطلّب إشعال حرب سنية – شيعية.

نعم باتَ واضحاً مشهد بناء التحالفات الاستراتيجية الحاصل في المنطقة، ليس لإرسال رسائل الرّدع وتظهير القوة فقط، إنما لتفعيل المواجهة التي لا يستطيع أحد أن يتنبّأ بالمستوى الذي ستصل إليه ألسنة الحريق ودوائر انتشاره، فقاموس الشركة الاستراتيجية الروسية – الإيرانية قد شرح وبيّن ووضّح للملأ، ومن دون أدنى حرج، كلّ مفردات التحالف والتفوق والتعاضد و»التداعي بالسهر»، إلى سقوفٍ عالية وحدود بعيدة جداً فيما حال اللسان الأميركي يردّد «مفردات الإفشال والهزيمة وقطع الطريق» حاضرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى