إسقاط الطائرة الروسية أم إسقاط إطار فيينا للحلّ!

سومر صالح

لم يكن التصعيد التركي الأخير في الأزمة سورية حدثاً غير متوقع أو مفاجئاً، ولكن المفاجئ هو أسلوب التصعيد والمتمثل بحالة الغدر بالطائرة الروسية في السماء السورية، فبعد سلسلة نكسات تعرّضت لها الاستراتيجية التركية في الحرب على سورية منذ 30/9/2015 أي بعد الدخول الروسي الحرب على الإرهاب وما تلاها من محاولة أطلسية لاحتواء الزخم العسكري الروسي السوري المشترك عبر نقل المعركة الجيو استراتيجية إلى الميدان السياسي الدبلوماسي والمتمثل باجتماع فيينا 1 و 2 بين 30/10 و14/11 الحالي، بدت تركيا وحيدة أمام مفترق طرق شرق أوسطي يتمّ رسمه بعناية في كواليس فيينا وسيكرّس بمؤتمر جنيف السوري، فالثابت أنّ النظام الإقليمي في الشرق الأوسط ستتمّ صياغته بعناية في ترتيبات الحلّ السوري وبين بنوده، وهذا الحلّ كما يبدو وضع ترتيبات للقوى لم تعجب السلطان الجامح الطامع في فرض نفوذه على كامل الشرق الأوسط بصفته حاكماً سياسياً لمنظمة «الإخوان المسلمين» وذراعها العسكرية «داعش» و»النصرة»، وحاكماً دينياً يريد سحب البساط من تحت أقدام السعودية ومصر عبر إظهار غيرته على الإسلام والمسلمين.

فالاتفاق الروسي ـ الأطلسي قرر وضع حدّ لطموحات أردوغان وتقليم أظافره في بياني فيينا 1 و2، باعتباره مصلحة مشتركة روسية – أطلسية، فمن جهة روسيا تمدّد أردوغان ونجاح استراتيجيته في سورية يجعله خطراً كبيراً في القفقاس وآسيا الوسطى عبر التشبّث بناصية الإسلام وعباءته، ومن جهة الأطلسي نجاح تركيا في سورية ووصوله جغرافياً إلى الخليج سيحوّل تركيا إلى قوة منافسة للأطلسي اقتصادياً وديموغرافياً، وهو ما لا تريده فرنسا وألمانيا اللتان تعيشان حالة الإسلاموفوبيا، فكان لزاماً عليهما تقليم أظافر تركيا الأردوغانية، بحيث تبقى شريكاً استراتيجياً للناتو لا عضواً أو منافساً استراتيجياً وإيديولوجياً على غرار روسيا، هذا التقليم للدور التركي اتخذ شكلين، أحدهما سياسي والآخر عسكري، فسياسياً تقرّر سحب الذراع والأداة السياسية لأردوغان في الأزمة السورية والمتمثل بمجلس اسطنبول والحكومة المؤقتة، لمصلحة إعطاء هذا الدور للملكة السعودية، وهو ما شرعت به الرياض فعلياً لجمع المعارضة السورية وتمثيلها بوفد موحد في جنيف 3 المزمع عقده مطلع كانون الثاني المقبل. أما عسكرياً فتقرّر في إطار اتفاق المجموعة الدولية منح الأردن تكليفاً بتصنيف المجموعات المسلحة بين إرهاب واعتدال.

وكما هو معلوم، فإنّ كلّ الفصائل الإرهابية العاملة في الشمال السوري تتلقى الدعم من مخابرات نظام رجب طيب أردوغان، وبالتالي هي إحراج لنظامه، وخطر على حلمه بفرض منطقة حظر جوي شمال سورية قوامها مجموعات عسكرية تأتمر بأمره، هذا الحلم إذاً تلقى ضربتين قاتلتين في أقلّ من شهر ونصف تمثلت بالبند الأول من إعلان فيينا 1 والذي نصّ صراحة على وحدة سورية واستقلالها وسلامة أراضيها وهويتها العلمانية أمور أساسية ، والضربة الثانية هي احتمال إعلان فصائل عسكرية عاملة بالشمال السوري ومتحالفة مع «جبهة النصرة» في إطار جيش الفتح الإرهابي على أنها إرهابية وتجب تصفيتها، ما يضيّع الفرصة أمام تكريس واقع عسكري شمال سورية يخدم الأجندات التركية.

هذه التغيّرات البنيوية في جسد الحلّ السوري ترافقت مع رغبة روسية بقطع الطريق على أيّ محاولة تركية للغدر في القفقاس عبر إطلاق عملية أمنية واسعة هناك منذ يومين، مترافقة مع التنسيق مع الجيش العربي السوري لتصفية المتطرفين القوقاز العاملين تحت مسمّى جيش التركمان في جبال اللاذقية، وتحويل مصر إلى شريك فاعل عبر شراكة نووية وعسكرية تضع حداً للأطماع العثمانية في الشرق الأوسط، وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة برز عاملان جديدان، هما أحداث فرنسا الأخيرة 13/11/2015 وما تلاها من إعلان حرب على تنظيم داعش في سورية وإرسال المدمرة شارل ديغول إلى شرق المتوسط، والعامل الثاني هو فتح قاعدة اكروتري العسكرية البريطانية في قبرص ووضعها تحت الإمرة الفرنسية، بما يوحي بأن مخططاً جديداً عنوانه محاربة داعش يخفي خلفه نية أطلسية بتطويق قاعدة حميميم عسكرياً ومنع التمدد الروسي في شرق المتوسط، ترافق هذا مع إرسال الولايات المتحدة لمقاتلات أف 15 إلى قاعدة انجرليك التركية العاملة بالإمرة الأميركية، الأمر الذي يعزز هذا التوجه من الناحية النظرية، وعلى ما يبدو هنا أن أردوغان قرأ الأحداث السابقة في إطار مخطط أطلسي لتطويق روسيا عسكرياً وإجهاض حملتها الجوية في سورية، وإذا ما أخذنا التصريحات التركية حول إمكانية فرض منطقة آمنة في الشمال السوري بالتنسيق مع بعض حلفائها، هنا تصبح لدينا قراءتان:

القراءة الأولى تقول إن أردوغان بإسقاطه الطائرة الروسية قد نفذ أمراً أطلسياً تحت ضغط انحسار خياراته وخسارته السياسية في فيينا من باب إمكان التعويض لاحقاً واسترضاء الأطلسي، وهو ما يفسر توجه الحكومة التركية إلى حلف الأطلسي عقب حادثة الإسقاط مباشرة لحمايته، وبالتالي يكون حادث الإسقاط بمثابة رسالة أطلسية مفادها أن الوجود الروسي في شرق المتوسط يجب أن يتحول إلى وجود دفاعي وإخراجه من الإطار الهجومي الذي بدا عليه في حملته الجوية ضد الإرهاب.

الرسالة الثانية هي أن الأطلسي قد بدأ باستراتيجية التطويق العسكري للوجود الروسي في شرق المتوسط عبر استخدام قواعد انجرليك وغازي عينتاب واكروتري وربما لاحقاً قواعد أخرى لتقليص نشاط وفاعلية الوجود الروسي في قاعدة حميم، طبعاً هذه القراءة تضمن سيناريوهات التصعيد الروسي المتوقعة والتي بدأنا نرى إرهاصاتها بنشر منظومات أس 300 و400 والطراد موسكو وغيرها، وبالتالي يريد الأطلسي دفع الأمور باتجاه التصعيد ونشر بطاريات الدرع الأميركية المضادة في تركيا، وحرق المراحل، ورسم حدود القوة والنفوذ بشكل مسبق عن نتائج الميدان السوري، وبالتالي هي التفاف على ميزان القوى الداخلية في سورية والإقليمية بعد صفقة الأس 300 إلى إيران بما يمنع أي قوة إقليمية من تحقيق تفوق جوي على حساب إيران وحلفائها، القراءة الثانية هي أن يكون أردوغان استغل جملة التطورات السابقة لا سيما فتح قاعدة اكروتري وانجرليك، وتعمد إسقاط الطائرة لخلط الأوراق مجدداً ورفع حدة التوتر والدخول بإطار جديد للمفاوضات يكون بديلاً من إطار فيينا 1و2 والذي حطم طموحاته وأجنداته الشرق أوسطية، وفي الحالتين كلتيهما حسابات أردوغان خاطئة لأنه وعلى افتراض سقوط إطار فيينا للحل في سورية، فالمتوقع أن موسكو لن تستبدله بإطار آخر، بل ستحتكم إلى الميدان لحسم المعركة خصوصاً مع المجموعات التي يديرها أردوغان ومخابراته.

إذاً، الشرق الأوسط قبل حادثة الإسقاط المتعمد للطائرة ليس كما بعده، ومعادلات النفوذ وحدود القوة في الشرق الأوسط بدأت ترتسم بالنار بالتزامن مع السياسة ودبلوماسية المؤتمرات الدولية، مع تأكيد أن الحل السوري بدأ بالتجاذب بين قطبي النار والسياسية، وأن أبواب الحل باتت مفتوحة على مصاريعها كما هي أبواب الحرب باتت مشرعة على مصاريعها. والنتيجة محكومة بالعقل وتوازن المصالح أو بالتهور والغطرسة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى