وعيُ الخاطفين يفشل «الإسرائيليين»
د. مصطفى يوسف اللداوي
يبدو أن عدم إعلان أي جهةٍ فلسطينية مسؤوليتها عن عملية اختطاف المستوطنين «الإسرائيليين» الثلاثة قد آتت أكلها على خير وجه، وخدمت المقاومة الفلسطينية خدمةً جليلة، في سابقةٍ نادرةٍ لم تعهدها من قبل، إذ مكّنت رجالها من الاختفاء والتواري بعيداً عن الأنظار، ومنحتهم الفرصة الكافية لتمكين أنفسهم، وتحصين صيدهم، والانتقال به إلى مكانٍ آمنٍ. وجعلت العدو الصهيوني يتخبط كالأعمى، ويتعثر كالكسيح، مرتبكاً مضطرباً، فلا يكاد ينهض حتى يسقط، وقد باءت جهوده المحمومة المسعورة كلها بالفشل، وجعلت نجاحه في الوصول إلى أهدافه مستحيلاً، إذ أعلن ضباطه وقادة جيشه أنهم يبتعدون عن الهدف، ويضلون الطريق أكثر، وأن أقدامهم بدأت تسوخ في الأرض، ولم يعد لديهم أدنى أملٍ في استعادة المخطوفين، أوالتعرّف إلى مكان وجودهم، وأن عمليتهم المحمومة لن تقود إلاّ إلى مزيدٍ من اللحمة والتماسك الفلسطيني، وستزيد في إحراج قيادة السلطة، وستخلق حول الخاطفين سواراً محكماً من الحرص والرعاية والحماية.
تعذر عليهم تضييق دائرة البحث والتحري، وتركيز عمليات الدهم والتفتيش، فاتسعت دائرة الاشتباه والتوغل، وبات العدو يزداد في كل يومٍ يأساً، ويبتعد أكثر عن الهدف، فبعدما داهم أكثر من ألفي بيتٍ فلسطيني، واعتقل نحو خمسمئة مواطنٍ، بينهم بعض الأسرى المحررين ونواب من المجلس التشريعي، وبعد أن داهم المغارات والكهوف، وردم الآبار والعيون، واجتاح المزارع والحقول، بمئاتٍ من الجنود المدججين بالسلاح، أعلن المسؤولون الأمنيون والعسكريون للكيان الصهيوني أن ما قاموا به من إجراءاتٍ قاسية في حق الفلسطينيين، لن تقود إلى نتيجةٍ مرضية، ولن تجد في استعادة المخطوفين أو الحفاظ على حياتهم، بل قد ترتد سلباً عليهم، وقد تدفع الخاطفين الى التخلص من المستوطنين وقتلهم.
لكن العدوّ الصهيوني لن يهدأ ولن يتوقف عن أعمال البحث والتحري، ولن يغلق ملف مستوطنيه الثلاثة، فقد عوّدنا أنه لا يترك جنوده ولا يتخلى عن مواطنيه، فهو ما زال يبحث عن الطيار المفقود رون آراد، ويستجدي كل معلومة عن رفاة الجاسوس إيلي كوهين ويريد أن يستعيدها من دمشق ليكون له قبر تبكيه أسرته وتزوره، مثلما يبحث عن جنوده الغرقى قديماً وغيرهم.
لذا لا ينبغي أن يخدعنا العدو الصهيوني، ولا أن يستغلّ طمأنينتنا، فهو لن يدخر جهداً في الانتقال إلى مرحلةٍ جديدة من البحث والتحري، فبعدما فشل ميدانياً وتاه في تلال الركام التي تسبب بها، سيعمد إلى العمل الاستخبارايّ، وسيبذل جهداً أكبر في جمع المعلومات، وسينشط وعملاؤه في البحث والاستقصاء وجمع كل معلومةٍ وقرينةٍ وأثر، ولن يفرط في صغيرةٍ منها ولا كبيرة، ولن يهمل البسيطة ولا العظيمة، بل سيخضع كل شيء للملاحظة والدراسة، وسيبدأ في التجسس على المكالمات الهاتفية، ومتابعة المراسلات الإلكترونية، وصفحات المحادثة الاجتماعية، وغيرها من وسائل التواصل وتبادل المعلومات.
عوّدنا العدو الصهيوني أن يبدأ متابعته من الأمور البسيطة التي لا ينتبه إليها الناس، ولا يشكون فيها، أو يعيرونها اهتماماً، كأن يقوموا بمراقبة المطاعم ومحلات الأكل السريع، التي تقدم الوجبات الجاهزة، ومعرفة كمية الطعام وأنواعها، وهل هي تفيض عن حاجة المرصودين والمتابعين. وقد يدققون في مجمعات القمامة ومكبات الزبالة، علهم يعثرون على شيء يتعلق بالمختطفين، وسبق لهم أن رصدوا أعقاب السجائر والأدوية الخاصة ببعض المرضى، إن كان أحد المخطوفين يشكو من مرضٍ قديم، ويلزمه علاجٌ محدد.
لا ينسى الخاطفون البصمة الصوتية التي يمكن من خلالها تحديد مكان صاحب الصوت عبر آلاف المجسات الإلكترونية البسيطة التي تلقى على الأرض، ولا يهتم بها الناس، فهي تشبه الحصى والحجارة ولا تختلف عن قطع الخشب أو البلاستيك، لكنها تحوي دوائر إلكترونية تعمل بدقة وتبحث عن بصمةٍ صوتية مطابقة وتعطي إشاراتٍ سريعة لأبراجِ المراقبة والمتابعة التي تحدد المكان بدقةٍ عالية.
سيبدأ العدو الصهيوني أكبر حملةٍ أمنية لتشجيع العملاء على جمع المعلومات، واقترح بعض المسؤولين «الإسرائيليين» رصد مكافآتٍ ماليةٍ كبيرة لكل من يدلي بمعلومات تخص الخاطفين أو تتعلق بمصير المخطوفين، أو تساعد في معرفة مكان اختبائهم، كما ستلجأ إلى طلب المعونة من الولايات المتحدة الأميركية لتفيد من أقمارها الاصطناعية في جمع المعلومات ورصد المشتبهات وتحليل البيانات ودراسة المعطيات.
ربما لا يعرف البعض قيمة المختطفين وأهمية الاحتفاظ بهم أنهم ما بقوا في أيدينا وبتصرفنا، بعيداً عن العين والقدرة «الإسرائيلية»، فإنهم سيشكلون ثمن أسرانا وبوابة الحرية لهم، فهم الوسيلة الأجدى لإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين ونيل حريتهم، لذلك لا نفرط في معلومة، ولا نتورط في تحليلٍ أو تفسير أو اجتهادٍ وتوضيح، بل علينا أن نصمت جميعاً وأن نترك لمن نفذ للعملية وخطط لها أن يفكر في إطمئنان، وأن يدبر بثقةٍ ويقين، من دون أن يعرقل خطتهم سياسي لا يعي أو مسؤولٌ يبحث عن دور أو عابثٌ لا يحسن التقدير وتعوزه الحكمة وحسن التدبير.
إن المخطوفين الثلاثة باتوا ملك الشعب الفلسطيني كلّه، وهم أمانةٌ في أعناق رجالها ونسائها، وجميعهم عنهم مسؤولٌ ومحاسب، ومكلفٌ بالحماية والتعمية والتمويه، فعلى الفلسطينيين جميعاً أن يحافظوا على سرية وجودهم، وخصوصية قضيتهم، فهم ثروة وطنية وقومية، وثمرة نضالٍ وصبر، ونتيجة جهدٍ وعمل، وإنّ كَشْفَ أمرهم سيكبدنا الكثير من الخسائر، وسيعرضنا للنقمة «الإسرائيلية» الغاشمة التي تحمّل الشعب الفلسطيني كلّه المسؤولية ولا تفرق في اتهامها وعقابها بينهم، كما أن كشفهم سيزيد في عدد المعتقلين، وسيمنع الإفراج عن السابقين، لذا الحذر الحذر، والحيطة والحكمة والوعي وحسن العمل.
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
moustafa.leddawi gmail.com