روسيا والعرب في مواجهة الدور الوظيفي العثماني

إبراهيم علوش

يشيع هراء في الخطاب الإسلاموي المعاصر أن «الخلافة العثمانية حَمَت العرب والمسلمين من الاستعمار الغربي»، وهو الخطاب الذي ما كان من الممكن له أن ينتشر إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما بادت الأجيال التي عاصرت تجربة الدولة العثمانية، وبعدما تعثّرت التجربة القومية واليسارية في الوطن العربي، وبعدما عاد هروب البحث عن ماضٍ ذهبيٍ مزعوم ليحل محل مواجهة تحديات الواقع المعاصر ومعضلاته بالعلم والعمل والأمل، أي بالمشروع القومي النهضوي بغضّ النظر عن مسمّياته وتجلّياته.

يمكن أن نقول الكثير عن أفول العرب وصعود الأتراك منذ تغلغل السلاجقة للخلافة لتبدأ معهم رحلة الانحطاط الحضاري للمنطقة وصولاً للسيطرة العثمانية على بلادنا التي لم تفعل شيئاً سوى تعزيز عناصر الضعف والتخلف وسلب عناصر القوة، مما جعلنا لقمة سائغة للغرب فعلياً، ومنه اختلال التوازن السكاني بيننا وبين الغرب الصاعد خلال فترة الحكم العثماني، حتى قُدّر مجموع سكان الوطن العربي في بداية القرن التاسع عشر بأنه لم يكن يتجاوز عشرة ملايين نسمة، فيما بلغ عدد سكان فرنسا وحدها عشرات الملايين، ناهيك عن الفارق في ميزان القوى العسكري والاقتصادي والتقني. ولو بدأنا من حملة نابليون على مصر، فإننا سنجد أن الدولة العثمانية طوال القرن التاسع عشر لم تكن أكثر من بيدق عسكري وعقائدي بريطاني في مواجهة خصوم إمبراطورية جلالة الملكة، وعلى رأسهم روسيا طبعاً.

يعادي الغرب روسيا كقطب دولي منافس في العصر الحديث منذ أيام القيصر، وعلى عكس ما يزعمه بعض المتأسلمين، حوّلت بريطانيا الدولة العثمانية إلى حاجز جغرافي – سياسي في مواجهة روسيا، فخاضت روسيا والدولة العثمانية حربين كبيرتين، حرب القرم العام 1856، والحرب الروسية – العثمانية العام 1876. أما في حرب القرم، فقد هزمت روسيا العثمانيين شرّ هزيمة، فدخل البريطانيون ميدان المعركة مباشرة، ومعهم الفرنسيون والبروس الألمان والسردينيون، ليقلبوا نصر روسيا هزيمةً وليفرضوا الاعتراف الروسي بـ»تمامية السلطنة العثمانية وتكامل أراضيها» في مؤتمر باريس من العام نفسه. أما في الحرب الثانية بين روسيا والعثمانيين العام 1876 فقد انتصرت روسيا على العثمانيين مجدداً، فتدخلت الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا وفرضت على روسيا إعادة الأراضي التي كان يحتلها العثمانيون وأخذتها روسيا للسلطنة في مؤتمر برلين.

لكن المثال الأكثر سطوعاً على الدعم الغربي بعامة، والبريطاني بخاصة، لاستمرار بقاء السلطنة، هو التدخل العسكري المباشر للبريطانيين في سورية ضد محمد علي باشا العام 1840، وانتبهوا جيداً، إعادة سورية للسلطنة العثمانية بعد إخراج محمد علي باشا منها. فليس هناك هراء مثل هراء القول إن العثمانيين حافظوا على بلادنا في مواجهة الغرب، بل دعم الغرب العثمانيين مباشرة في مواجهة المشروع القومي النهضوي لمحمد علي باشا، وفي مواجهة روسيا قديماً وحديثاً وصولاً لانضمام تركيا لحلف الناتو العام 1952، قبل ألمانيا، ومشاركة قواتها في الحرب الكورية التي استمرّت بين العامين 1950 و1953 في مواجهة كوريا الشمالية المدعومة آنذاك من الصين والاتحاد السوفياتي.

أدرك آباء الحداثة العربية، كما لم يدرك أبناؤها، أن العثمانيين، بفرْضهم التخلّف، وبإعادة إنتاجه على مدى قرون، لم يحموا الوطن العربي من الأوروبيين بمقدار ما أضعفوه ونخروه ونهبوه وأفقروه وأخّروه، فلما قرر الأوروبيون أن الدولة العثمانية قد استنفدت كل إمكانياتها التاريخية وحانت ساعتها، وأن فائدتها كحاجز جغرافي – سياسي في مواجهة روسيا القيصرية ومشاريع النهضة العربية قد نفدت، راحوا يلتقطون الأقطار العربية كما يلتقط الضبع خرافاً بلا راعٍ، الواحد تلو الآخر، فاحتُلت مصر العام 1882، واحتُلت السودان العام 1898، واحتُلت الصومال العام 1884، وفرضت إسبانيا وفرنسا الوصاية على المغرب العام 1906، وبدأ الاستيطان اليهودي وتأسيس المستعمرات الصهيونية في فلسطين في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. لكن في زمن أي خليفة احتُلت مصر والسودان وفقد المغرب استقلاله وبدأ التغلغل اليهودي الحثيث في فلسطين يا تُرى؟

السؤال موجهٌ أساساً لمن يُحبّون أن يهذروا في «تضييع القوميين» للجولان وسيناء في حرب الـ67، والجواب هو أن كل تلك الأقطار العربية ضاعت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، محبوب الإسلامويين، ولهم أن يتأكدوا من التواريخ بأنفسهم، إن رغبوا. والعبرة أن أفضل ما لديهم لا يرقى حتى لأسوأ ما لدينا… وكلاهما تمخّضَ عن احتلالٍ بغيض بالطبع.

أما قدر روسيا الجغرافي – السياسي، منذ القياصرة حتى بوتين، مروراً بالحكم الشيوعي، فهو المشروع أو التحالف الأوراسي، الذي يمسك بقلب العالم البري، من أوروبا الشرقية إلى الصين والهند، ولا يملك الغرب تكسير هذا المشروع إلا بتفعيل الورقة الإسلاموية من جنوب شرق آسيا والهند إلى القوقاز، مروراً بآسيا الوسطى، والسماح بسقوط سورية بالنسبة للروس يعني السماح بانتقال المعركة إلى دول آسيا الوسطى والقوقاز وإلى أرمينيا المنضمّة للاتحاد الأوراسي والتي تدعمها إيران أيضاً في مواجهة أذربيجان.

لقد دخلت الولايات المتحدة إلى العراق ودمرته العام 2003، بدعم ومباركة منظومة البترودولار، ودخلت جوياً على ليبيا بدعم ومشاركة الأنظمة الرجعية العربية، وقامت بأنواع التدخلات العسكرية المباشرة كافة في طول الكرة الأرضية وعرضها على مدى قرنين، أما روسيا فليس لها سابقة استعمار في وطننا العربي، وكانت دوماً حليفاً للأنظمة والقوى الوطنية الطامحة للاستقلال عن الاستعمار الغربي، ولا يمنع ذلك وجود اختلافات، كما هي الحال بين أي حليفين، لكن من المؤكد أن ثمة تقاطعاً كبيراً بيننا وبين روسيا في مواجهة الغرب وأدواته الوظيفية التركية والوهابية التكفيرية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى