الجغرافيا بين ولاء عرقي يفتتها وولاء قومي وطني يحفظها
محمد ح. الحاج
بديهي أنّ المرء يولد في بيئة لها خصائصها بدءاَ من الجغرافيا، الدين والمذهب، الجنس، العرقية – العشائرية وحتى القبلية وغير ذلك، وهي أمور لا يختارها بالمطلق بل هي وراثية متداولة، خياره الوحيد عند اكتمال الوعي والنضج السياسي والمعرفي هو الخروج من عباءة هذه المواصفات واختيار الولاء الأكمل الوطني القومي، ويكون ذلك عبر انتماء إلى عقيدة هذه أهدافها وغايتها، وهنا يصبح الولاء للوطن الجغرافيا، وللقوم الذين يشكلون مجتمعه ويعرذفهم علماء الاجتماع بأنهم الأمة رغم تعدّد أعراقها أو دياناتها أو قبائلها وعشائرها، كما أنّ الكثير من أبناء المجتمعات المتحضّرة وإنْ لم يكن منتمياً إلى حزب أو عقيدة نراه يؤمن بأولوية الولاء للوطن ويقول بأنّ الدين علاقة مع الله هي شأن خاص علاقة باتجاه السماء بينما العلاقات الاجتماعية هي علاقات أفقية، وفي أدبياتنا أنّ الصراع على السماء يفقدنا الأرض، وعند العامة: الدين لله والوطن للجميع.
بالأمس أعلنت الحكومة التركية احتجاجها على قصف مناطق في الشمال السوري من قبل الطيران المشترك السوري الروسي، ومبرّر الاحتجاج أنها مناطق مدنية «تركمانية»! هذه المناطق الخارجة على الدولة وتغصّ برجال العصابات المسلحة الذين وفّرت لهم تركيا مقوّمات الخروج على الدولة السورية تمويلاً وتحريضاً لمصالح لم تعد سرية، ورغم أنهم سوريون من حيث المواطنة، شأنهم شأن كلّ الهجرات التي انصهرت في بوتقة الوطنية السورية من ألبان وأرمن وشيشان وداغستان وعرب وغيرهم منذ مئات السنين، وأنّ ادّعاء الحماية لهم خلافاً للأعراف والقوانين الدولية، هكذا تركيا تعطي لنفسها حقاً لا تقبل أن يكون لغيرها، فهي ومن باب ادّعاء حماية أمنها القومي تقصف الأكراد في الشمال العراقي والمناطق السورية المحتلة منذ أكثر من قرن في الجنوب والجنوب الشرقي ديار بكر وماردين وأورفه مما تقول إنه حدودها كما أنها تمارس الاضطهاد ضدّ سكان كيليكيا الصغرى من الأرمن وسكان لواء الاسكندرون، رغم أنّ أحداً من هؤلاء لم يحمل السلاح ولم يتمرّد على حكومة الاحتلال التركي، بل يطالبون بحقوق المواطنة وممارسة حقوقهم في المعتقد واللغة والعادات والتقاليد والطقوس، ونعلم أنّ الحكومات التركية المتعاقبة منعت عرب اللواء من التحدّث بلغتهم الأمّ، في الوقت الذي لم تمنع الحكومات السورية أياً من مكوناتها الاجتماعية من مثل ذلك، تركيا تعلن نفسها حامية التركمان وهم لا يحملون الجنسية التركية، وما كنا نعلم أو نبحث في المكونات الاثنية لسكان الوطن السوري، لكن، بسبب التحريض والضخّ الإعلامي المغرض تكشّفت لأبناء المجتمع الحالي هذه التكوينات وأماكن تجمّعها، ولو صحّ الادّعاء التركي وطبّقته دول العالم لدخلت البشرية في دوامة من صراع لا نهاية له، لقد عرفنا من تركمان سورية شخصيات أكاديمية واقتصادية تجارية وعسكرية أسماء ومشاهير لكننا كنا نعلم أنّ هؤلاء سوريون وليسوا أتراكاً، ومثلهم الكثير من العرب والأرمن، الأكراد والشيشان إلخ…، هل يتدخل العرب مثلاً على الطريقة التركية في دول العالم الأخرى لمجرّد أنّ تجمّعات من أصول عربية تتمرّد على الحكومات الشرعية في مناطق تواجدها…؟ هذا الحق لا يكون حقاً إلا في المناطق الواقعة تحت الاحتلال فقط، ومنها المناطق السورية المحتلة في الشمال، وفي الجنوب طبقاً لخريطة سورية الطبيعية.
إسقاط الطائرة الروسية فوق أرض سورية، وكانت تحلق فوق أراض سورية وإنْ كان ذلك التحليق فوق أجزاء من لواء الاسكندرون المحتلّ، وأستغرب أنّ أحداً لم ينتبه إلى هذا الأمر، الادّعاء التركي بأنّ الطائرة خرقت أجواءها أشبه بادّعاء العدو الصهيوني أنّ أجواء الجولان المحتلّ تشكل جزءاً من أجوائه مع أنّ أجواء فلسطين كلها أجواء أرض محتلة، العالم لم يعترف بأنّ الجولان أصبح جزءاً من الكيان الصهيوني، الأمر نفسه ينطبق على اللواء السليب الاسكندرون، لكن صمت العالم الغربي ونفاق الدول العربية دفع بموضوع اللواء والبتّ فيه إلى النسيان، مع أنّ الأمر ما زال في أدراج المجلس الوريث لعصبة الأمم، ويبقى أنّ الطيران في المنطقة لا بدّ له من استخدام أجواء اللواء للوصول إلى مراكز العصابات المسلحة، تركيا لا تدافع عن الحقوق الإنسانية لمدنيّين بل عن جماعات مسلحة أغلبها غير سوريين من جنسيات مختلفة وتتخذ من سكان تلك المناطق دروعاً بشرية تضحّي ببعضهم لتحقيق مصالح وأهداف مرسومة، اللواء السليب سوري باعتراف تركي ويمكن العودة إلى محاضر اجتماعات اللجان التي ناقشت موضوع اللواء حيث يلفت الانتباه تصريح وزير الخارجية التركي عام 1937 عندما قال: لا أطماع لتركيا في السنجق السوري وإنما نريد حفظ حقوق الأقلية التركية الأقلية التي انقلبت إلى أغلبية بعد عامين من التواطؤ التركي الفرنسي وتهجير أغلب السكان السوريين وضمّ اللواء…!
هل يختلف السلوك التركي اليوم عن سلوكه السابق، وهل تتخذ تركيا من مبرّراتها وسيلة لتقول أن لا أطماع لها في الشمال السوري ثم لتعمل لاحقاً على ضمّ محافظتي حلب وإدلب طبقاً لاتفاقية جوبيه أردوغان عام 2010؟
أميركا أكبر امبراطورية ديكتاتورية في العالم، وجهازها الأمني يحصي أنفاس كلّ الأميركيين في الداخل وحتى سكان العالم، وهذه سمة كلّ الدول فالدولة التي ليس فيها أجهزة أمنية لا تكون دولة وهذا شأن إنساني منذ كان العيون أيام الخلفاء والملوك وكان الجواسيس في الخارج وما زالوا، وإذا ما نحّينا جانباً بعض الدول الاسكندينافية وسويسرا حيث لأجهزة الأمن سلوك متميز عن باقي دول العالم فإنّ أصغر دولة أو إمارة فيها من أجهزة الأمن الكثير وهو فاعل، ولنأخذ دولة الكويت الأكثر ديمقراطية بين دول الخليج العربي… أليس فيها جهاز أمن دولة فاعلاً ويقظاً وله القدرة على إحصاء أنفاس السكان والمقيمين…؟ فلماذا التركيز الدولي على النظام الأمني السوري؟ خصوصاً من قبل الأعراب وبعض دول الغرب وهم ليسوا بحال أفضل، فكلّ أجهزة الأمن في العالم تعمل في الداخل والخارج وترتكب جرائم وخروقات بالحقوق الإنسانية، وتقوم الحكومات بالتغطية عليها وتبرير أعمالها لدواعي الأمن القومي، وأشهرها الاستخبارات المركزية الأميركية التي تقوم بتصفية خصوم أميركا عبر العالم، اقتصاديين وسياسيين، وعلماء وعسكريين، وحادثة الطائرة المصرية ما زالت في الأذهان ولم يمرّ عليها الزمن.
ليس من حق تركيا الدفاع عن أحد خارج أراضيها الفعلية كما لا يحق لها ملاحقة أحد خارج تلك الأراضي، ولا غيرها من الدول، المجتمعات البشرية أمم، وليس من أمة خالصة العرق أو الجنس، ولا الدين أو المذهب، ليس من حق السعودية التدخل للدفاع عن طائفة أو مذهب، وما تفعله السعودية أعطى المبرّر لتدخل غيرها على قاعدة الردّ من استهداف للآخرين، ولا نخجل كسوريين من القول إن لا حق لفرنسا لتتدخل لحماية الموارنة ولا لبريطانيا لحماية الدروز ولا لروسيا لحماية الأرثوذكس، ولا لإيران لحماية الشيعة… كل الادّعاءات باطلة، لأنها تندرج في سياق العمل على تفتيت جغرافية الأمم الحرّة صاحبة الحق في الدفاع عن نفسها، ما يحصل على الأرض السورية تتحمّل مسئوليته جهات داخلية وجهات خارجية على حدّ سواء، الداخلية بقبولها الوصاية والتبعية للخارج وطلب الحماية، والخارجية لأنّ ما تمارسه نفاق سياسي واجتماعي وهي ترفض ما تمارسه هنا على أراضيها وفي مجتمعاتها، الشرخ في البنية الاجتماعية السورية مسؤولية مشتركة وعوامله متعدّدة، أولها محاربة الفكر الوطني القومي الهادف إلى وحدة المجتمع وإخراجه من عباءة الولاءات البدائية المؤدّية إلى تفتيت الجغرافيا وليس الحفاظ عليها، السوري والعربي المهاجر ينال الجنسية بعد سنوات محدّدة في قوانين دول المهاجر فيصبح مواطناً ولاؤه حيث هو ومحبته للوطن الأمّ، أما ولاءات المواطن في الداخل لمكوناته الأولية فهي نقطة الضعف التي يستغلها الأعداء لشرذمة المجتمعات وتمزيق جغرافية الأوطان، التربية الوطنية القاصرة والممارسة الخاطئة على أرض الواقع وفّرت بيئات حاضنة على هوامش المدن، وتمّ استغلال عاطفة الانحياز الغريزي عند البسطاء وتوظيفها في تخريب سورية المجزّأة قبلاً على أيدي الانتدابين البريطاني والفرنسي لتحقيق المزيد من التجزئة على قاعدة فقدان الوعي والتضليل الذي يمارسه المأجورون والعملاء من أدعياء السياسة والديمقراطية وهم مجرد طلاب مناصب وكراسي وجمع ثروات…
متى يعي أبناء أمتنا الحقائق، وما هو دورنا كمثقفين لتحقيق الوعي المطلوب؟
هامش: ما من محافظة سورية تخلو من الاثنيات، جميعها، وليس الشمال وحده فيه تركمان، في حلب، في حماه، في حمص وحتى في دمشق وريفها، ومثلهم من الألبان والشركس والأرمن والشيشان، وعشائر البدو، والأكراد وهم قبائل سومرية سورية… وعديد من عرقيات واثنيات أخرى، المجتمع السوري المثالي فهل تكون تركيا صاحبة الحق في الوصاية أم تتقاسمها مع غيرها وخصوصا السعودية…! وهل أصبحنا كسوريين على الهامش؟ الكلمة الأولى والأخيرة لنا، فنحن أصحاب الأرض والحق، وما على هؤلاء إلا التزام الصمت والانسحاب… أدباً على الأقلّ.
سؤال: أما آن الأوان لإعادة البحث في قضية اللواء السليب وسحبه من أدراج المحفوظات الأممية؟