تركيا تتحمّل تبعات السياسة الخاطئة لأردوغان

رضا حرب

التصريحات الروسية نارية، وخصوصاً أنّ الرواية التركية غير دقيقة لأنّ القاذفات لا تذهب للمواجهة من دون حماية طائرات مقاتلة، بمعنى، لو صحّت الرواية التركية بالتأكيد حادث غير مقصود وأمر متعارف عليه بين الدول. إسقاط القاذفة الروسية لم يأت بمعزل عن الحملة المسعورة التى قادها أردوغان بعد أن وصلت نيران القصف الروسي على جبل التركمان حيث يتواجد التنظيم الإرهابي «لواء السلطان عبد الحميد».

منذ اللحظة الأولى، اعتبر بوتين السلوك التركي «طعنة في الظهر» من دولة داعمة للإرهاب، وهدّد تركيا بعواقب «وخيمة»، ومن الواضح أنه يسير في اتجاه التصعيد، والتصريحات من الطرفين ستستمر لفترة غير قصيرة. هذا لا يعني الانزلاق نحو حرب مع تركيا أو «الأطلسي»، يملك الروس وحلفاؤهم أوراقاً وفي جعبتهم أكثر من خيار. ارتكبت تركيا جريمة مزدوجة، إسقاط الطائرة وقيام إرهابييها بقتل الطيار، وعليها أن تتحمل مسؤولية أي تداعيات.

لماذا الجنون الأردوغاني؟

أولاً: في مؤتمر مجموعة 20 وجّه بوتين اتهاماً مباشراً لتركيا والسعودية بدعم الإرهاب وعرض على المجتمعين صوراً لمئات صهاريج النفط التي كانت تهرب النفط عبر تركيا. كلّ الدول الحاضرة في المؤتمر على علم بدور تركيا خلال السنوات الخمس الماضية، كممر ومقر للإرهابيين ومعبر للنفط المنهوب، وبالتالي فإنّ عرض الصور لا يقدم شيئاً جديداً. التفسير الوحيد أنّ بوتين أراد إيصال رسالة مفادها أنّ الطيران الروسي سيقوم بتدمير المنشآت النفطية ومئات الصهاريج التي كانت تدر أرباحاً طائلة على تركيا والعصابات الإرهابية، وهذا ما حصل في اليوم التالي عندما بدأ القصف الجوي لمئات الصهاريج التي يبدو أنها ملك لشركات تركية مقربة من أردوغان وابنه بلال.

ثانياً: إنّ ما أصاب أردوغان بنوبة جنون، أنّ الرئيس بوتين وفور وصوله إلى طهران انتقل من المطار إلى مقرّ المرشد الأعلى حاملاً معه هدية لا تُقدّر بثمن واستقبل بحفاوة تليق بقيصر، ومن ثم عقد الزعيمان اجتماعاً مطوّلاً دام أكثر من ساعتين، وكانت له دلالات، ليس فقط على أهمية النقاط التي ناقشها الطرفان، بل أيضاً على عمق العلاقة الاستراتيجية بين القوتين. واستباقاً للرحلة وقع الرئيس بوتين قراراً ببدء نقل صواريخ أس أس ـ 300 إلى إيران قبل الموعد المحدَّد بأربعة أشهر، وتأمين كلّ احتياجات إيران لبرنامجها النووي، فجاءت التحية الإيرانية بأحسن منها.

هذا التطور في العلاقات بين القوتين أرسى قواعد تحالف استراتيجي قادر على أن يرسخ معادلات جديدة في المنطقة ويرسم حدود المجال الحيوي للقوتين، كما يرسل رسالة واضحة لكلّ من راهن على تحول في السياسة الإيرانية بعد الاتفاق النووي بأنه واهم.

ثالثاً: حرب الغاز. هناك توجه عالمي نحو الطاقة النظيفة، الغاز الطبيعي، ومن المتوقع أن يرتفع الطلب على الغاز بنسبة 30 في المئة خلال الأعوام القليلة المقبلة. وبما أنّ روسيا وإيران تملكان أكبر احتياطي من الغاز في العالم، حوالي ثلثي الاحتياطي العالمي، من الطبيعي أن يكون لهما الدور الرئيسي في رسم خريطة أسواق الغاز وخطوط الإمداد. هنا تبرز مشكلة أردوغان، حلم إقامة الخط القطري إلى تركيا عبر سورية لن يمر ولو قامت حرب لمئة عام.

رابعاً: لا يزال أردوغان مهووساً بإقامة منطقة «آمنة»، منطقة حظر جوي، بعمق يمنح تركيا حرية الحركة، ويتيح للإرهابيين استخدامها كقاعدة خلفية آمنة من الضربات الجوية ويكون جبل التركمان، حيث يتمركز التنظيم التركماني «لواء السلطان عبد الحميد»، خطاً أحمراً آخر يرسمه التركي بحكم العصبية القومية، وتكون المنطقة تحت النفوذ التركي وتقدم الدعم العسكري للإرهابيين تحت عناوين إنسانية.

حوّل تكثيف الهجمات الجوية وتقدم الجيش السوري حلم أردوغان إلى كابوس، وقد أراد إيصال رسالة إلى حلفائه الغربيين مفادها أنّ «المنطقة الآمنة» باتت ملحة أكثر من أي وقت مضى وعليهم دعمه حتى لا تتكرر حادثة طائرة «سوخوي».

ماذا بعد؟

أولاً: روسيا وحلفاؤها لا يعطون أي اعتبار للمعادلة الأميركية «إرهاب جيد وإرهاب سيىء» ولن يعطوا أياً من التنظيمات الإرهابية صكّ براءة. وستشهد المرحلة المقبلة ضربات جوية تكسر ظهر الإرهابيين وتقلم أظافر أردوغان في سورية، وعلى الأرجح سينال تنظيم «لواء السلطان عبد الحميد» نصيباً كبيراً من الانتقام الروسي.

ثانياً: مناطق الحظر الجوي والبري سيرسمها الطيران الروسي. القاذفات الروسية ستضرب كلّ شيء يتحرك من تركيا باتجاه سوريا وكلّ الشاحنات والصهاريج من سورية إلى تركيا. لذا، يمكن أن نشهد حشداً جديداً من المقاتلات والقاذفات الروسية، يرافقها حضور متزايد لإيران على الأرض.

ثالثاً: في حال قرّر الروس الردّ المباشر على إسقاط طائرة «سوخوي» فإنّ هذا الردّ سيأتي «تناسبياً»، لذلك قرّر الروس أنّ ترافق قاذفات «سوخوي» مقاتلات للحماية من الغدر العثماني، فمن غير المستبعد أن ينجرّ حلف «ناتو» إلى حرب مع روسيا لإرضاء جنون العظمة عند أردوغان. على العكس، يمكن أن يرفع مستوى التنسيق بين المعسكرين لتجنب أي مواجهة، وإنّ زيارة هولاند لموسكو وتصريح كاميرون يصبان في هذا الاتجاه.

رابعاً: طراد «موسكوفا» المجهز بمنظومة دفاع صاروخية من طراز «فورت» الشبيهة بـ»أس أس 300» سيرابط شرق البحر المتوسط مقابل اللاذقية، وصواريخ «أس أس 400» في القاعدة الجوية حميميم في اللاذقية وصواريخ «أس أس 300» في إيران إلى جانب الدرع الصاروخي في روسيا، ما يعني أنّ المجال الحيوي للتحالف الاستراتيجي يمتد من موسكو إلى شرق البحر المتوسط مروراً بطهران ودمشق. هذه المنطقة ممنوعة على «ناتو» والغرب وعليهم قبوله كأمر واقع رغم أنوفهم. روسيا وحلف المقاومة سيفرضان قواعد جديدة في الاشتباك الجيوسياسي.

خامساً: العداء لتركيا يجتاح الشارع الروسي. تركيا ستخسر عشرات المليارات إذا قرّر الشعب الروسي مقاطعة المنتوجات التركية والطيران التركي والشركات التركية على الأراضي الروسية وتغيير 4 ملايين سائح روسي وجهتهم، وخصوصاً باتجاه إيران وتشجيع السواح الإيرانيين على التوجُّه نحو روسيا.

الحرب الاقتصادية بدأت وستدفع تركيا ثمن جنون أردوغان.

المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية

www.cgsgs.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى