مختصر مفيد

مختصر مفيد

أردوغان والتراجع تحت دخان الصراخ

يصرخ الرئيس التركي رجب أردوغان متحدّياً كلما سمع تجديداً روسياً، خصوصاً على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اتهامه بالتورّط في دعم الإرهاب والدخول في لعبة مافيا مع «داعش»، تبدأ من مكانة أسرته في تجارة نفط «داعش» المنهوب من سورية، ولا تنتهي بنيل قسط من الأموال المحوّلة إلى التنظيمات الإرهابية ضمن عملية تبييض أموال مكشوفة. فهل يعبّر الصراخ عن الحقيقة؟

قد يجد البعض تأكيداً لنيات التصعيد في كلام الرئيس الأميركي عن تذكير موسكو بتاريخ فشلها في أفغانستان ورهانه على تخلّي روسيا عن الرئيس الأسد، لكنه سيقف أمام دعوة باراك أوباما تركيا وروسيا إلى تهدئة الخلافات وحلّها سياسياً.

بالمقابل، وزّعت واشنطن تأييدها الروايتين التركية والروسية. فبينما أيّدت واشنطن رواية خرق الطائرة الروسية المجال الجوّي التركي وما تسمّيه حق تركيا بالدفاع عن مجالها الجوّي، أيّدت رواية موسكو عن سوق النفط التركية لمسروقات «داعش».

يلفت النظر كثيراً كيف غابت عن الكلام الأميركي، كما الأوروبي، أي إشارات للمنطقة الآمنة التي تحدّث عنها أردوغان ورئيس وزرائه داود أوغلو، حتّى تمت صفقة المليارات الثلاثة مع الاتحاد الأوروبي، فغابت المنطقة الآمنة عن كلام الأتراك أيضاً بعدما كان التهديد بتوسيعها حتى البحر المتوسط.

يمكن اختبار فرضية اعتبار مرحلة ما قبل بدء العقوبات الروسية مطلع السنة هي للعمل السياسي الذي تقوم به فرنسا ويدعمها أوباما، كما تقول تصريحاته.

هذه النتيجة تؤكدها التصريحات المعلنة بعد لقاء وزير الخارجية الروسي نظيرَه التركي في بلغراد، وما تضمنه من وضوح الوزير الروسي بالسعي إلى إغلاق تام للحدود التركية ـ السورية، وقد سبق ذلك اللقاء إعلان وزير الخارجية الأميركي عن تدابير لإغلاق الحدود التركية ـ السورية.

ليس موضع نقاش أن ما تريده روسيا ليس حرباً مع تركيا، إنما تأديباً لها على تماديها في العبث مع الإرهاب، الذي كان بالأصل وراء إسقاط الطائرة الروسية.

المسعى الروسي هو توظيف إسقاط الطائرة في مُناخ يتيح ضبط الحركة التركية على الحدود مع سورية، يترجم بإقفال الحدود والتوقف عن دعم جماعات مسلحة تابعة لـ«القاعدة» والخروج من الرهان على إمكانية التحكّم بمستقبل الدولة السورية كمؤسّسات ودستور ورئاسة.

العقوبات الاقتصادية على رغم قسوتها، ليست شاملة ولا فورية. بما في ذلك طرح الرئيس بوتين ملف الغاز على الطاولة. ما يؤكد طابعها التحذيري مرتين. مرة بمنح فرصة شهر للتراجع أمام أردوغان ومرّة بفتح المجال ما قبل القسم الثاني من العقوبات.

تبقى المبالغة لتوقّع رهان لقاء رئاسيّ تركي ـ روسي في غير مكانها. فاللقاء الرئاسي لا يمكن أن يتم إلا بظروف تفاهم تام، لأنه صك براءة لتركيا. أما اللقاءات الوزارية فمنطقي أن تتم، ولذلك تمت وستتم لاحقاً، طالما توفّرت مقدّمات لمشاريع تقارُب تسعى إليها أوروبا، وتشير إليها التصريحات الأميركية، لكن موسكو لن تغيّر مطالبها.

إغلاق الحدود ووقف التمويل ووقف تسريب المسلحين، كل ذلك سيشكل الخطوة الأولى لأيّ تفاهم، كما يبدو ثابتاً أن الموقفين الأميركي والفرنسي يشيران إلى نضج مسألة إقفال الحدود وهي الثمرة الأولى للضغط الروسي.

ـ اللقاءات الوزارية إذن لا تعني تراجعاً روسياً، وهذا هو الفارق بين لقاء رئاسيّ رفضته روسيا من جهة، ووظيفة اللقاءات الأخرى في تثبيت المضمون السياسي للخلاف، ولمضمون الحلول المتصلة تحديداً بإغلاق الحدود التام والشامل أولاً.

بدأ التراجع رغم الصراخ التركي مع ترتيب الصفقة التي قايضت ملف اللاجئين وملف المنطقة الآمنة بثلاثة مليارات يورو، حيث تم الاتفاق على ترتيب بقاء اللاجئين في تركيا والامتناع عن فتح الباب لترحيلهم إلى أوروبا، مقابل صرف النظر عن المنطقة الآمنة وقبض المليارات الثلاثة من قبل تركيا، ما يعني بداية التراجع التركي.

تأكيد أن الحزم الروسي الموثق في طرح الشراكات النفطية المشبوهة مع «داعش» من جهة، وعجز الأتراك عن تبرير التواطؤ مع «داعش» نفطياً، وصعوبة تغاضي الغرب عن ذلك من جهة مقابلة، أدى لجعل إغلاق الحدود مطلباً ممكناً ويلاقي الفرص.

شرح معنى إغلاق الحدود بما في ذلك المعابر أنه يعني حصر أي قوافل معونات بالتنسيق مع الدولة السورية ومرورها عبر مناطق سيطرتها، ومنع أي ذهاب وإياب بقوّة النيران الروسية التي ستتابع مطاردة أيّ تنقل عبر الحدود، إنما بغطاء قبول دوليّ وتركيّ هذه المرّة.

إغلاق الحدود سيعني قطع شرايين الإمداد عن الجماعات المسلحة في شمال سورية، وجعل قضية انهيار سيطرتها الجغرافية مسألة زمن، وما سيحدث في الشمال السوري يعني إرباكاً للرهان السعودي على جماعات ريف دمشق والجنوب، حيث خطوط الإمداد ستشهد ما يماثل الحدود التركية.

الحلقة المقبلة بعد إغلاق الحدود، تتمثل في تصنيف التنظيمات على لوائح الإرهاب من دون تدخل تركي لتبييض صفحة جماعات «القاعدة»، خصوصاً أن الاجتماع المقبل على مسار فيينا، سيعقد في نيويورك تحت هذا العنوان، وستكون قدرة تركيا والسعودية على تبييض صفحة تنظيمات إرهابية ودسّها في لائحة ما يسمّى بـ«المعارضة المعتدلة»، أقلّ بكثير مما كانت قبل إسقاط الطائرة الروسية.

إنه فنّ التراجع وسط الصراخ الذي لا يتقنه أردوغان.

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى