أردوغان: لو علمتُ لما فعلت… حرب على جبهات أربع
فتحي نظام
لم يكن رجب طيب أردوغان يدري ما البلاء الذي سيحلّ على تركيا بعد إسقاط مقاتلاته طائرة روسية، كانت ترمي بحمولتها على المجموعات التركمانية المقاتلة شمال سورية، حتى أعلن «حزنه الشديد» لإسقاط الحربية الروسية قائلاً: «نتمنى لو لم يحدث ذلك».
من يراقب التصريحات التركية حول حادثة الطائرة الروسية منذ إسقاطها حتى اليوم، لا يمكنه أن يفهم بالضبط ما هو موقف أنقرة منها، بل يجد تصريحات متناقضة يتناوب عليها المسؤولون الأتراك، ليصرح أحدهم أمراً في الصباح ويعود مسؤول آخر لنفيه في المساء.
تدلّ التصريحات المتناقضة للتركي على أنه يحاول التعامل مع جبهتين في آن واحد، الجبهة الداخلية حيث جمهور العدالة والتنمية، والجبهة الخارجية، روسيا والعالم، فأردوغان بالنسبة لحزبه «العدالة والتنمية» الذي لم يمر شهر واحد على فوزه بالانتخابات الأخيرة، لا يريد أن يلبس ثوب الضعيف وأن يُقرّ بصعوبة موقفه أمام موسكو، فعمد لاستخدام بعض العبارات التي تظهر صلابة موقفه متهماً موسكو بأنها «تلعب بالنار في هجومها على المعارضة السورية، وفي استخدامها إسقاط الطائرة عذراً لتوجيه اتهامات ضدنا» على حد قوله.
أردوغان نفسه الذي وصف روسيا بأنها «تلعب بالنار» سحب كلامه بعد ساعات، معلناً أنّ «بلاده لا تريد أن يؤدّي التوتر بينها وبين روسيا إلى نتائج محزنة في المستقبل، ليطلب من روسيا أن تتعامل بشكل أكثر إيجابية مع حادثة الطائرة المستهدفة».
يبدو أنّ انعطاف أردوغان خلال الساعات الأخيرة، يعود إلى فهمه حجم التكلفة التي ستدفعها أنقرة لاقترافها ذاك الذنب الكبير الذي تمنى مؤخراً «لو أنه لم يحدث»، لكن هيهات، «إنْ هيَ إلا كلمةٌ هو قائِلها» ومن الصعب إقناع الروسي اعتبار قتل طيار له من قبل أنقرة، مسألة قابلة للنقاش أو المساومة.
توقع كثيرون أن موسكو سترد على هذا «الاعتداء» بشكل أكيد وإن لم يكن عاجلاً فآجلاً، وأن الرد لن يكون بقصف مواقع في الداخل التركي، بل سيكون تصعيداً ضد المجموعات المسلحة المدعومة تركياً، إلا أن روسيا إضافة لقصفها قافلة إمداد للمسلحين على بعد كيلومتر واحد من الحدود التركية فقط، فإنها قصفت الداخل التركي بأكثر من جبهة لم تكن تتوقع أن يتم استهدافها أبداً ولو توقعت ما فعلت فعلتها.
حرب نفسية وعسكرية في آن معاً تجلت في تعليق الجيش الروسي علاقات التعاون العسكري مع نظيره التركي، إضافة لإرسال الطراد «موسكافا» المزود بصواريخ «فورت» ليرسو عند مدينة اللاذقية، لترسل بعدها منظومة صواريخ إس 400 إلى قاعدة «حميميم» الجوية الروسية، وتكثف الطائرات الحربية ضرباتها ضد المسلحين التركمان أنفسهم، الذين كانت تستهدفهم الطائرة الروسية قبل إسقاطها، من دون أن تحرك الطائرات التركية ساكناً أو تجرؤ على التفكير في إطلاق حتى رصاصة أخرى، فتداعيات «الحماقة الأولى لأردوغان» كما وصفها الكثير من المحللين وتبعاتها لم تنته بعد.
حرب من نوع آخر فتحها القيصر الروسي، لم تكن موضوعة على لائحة حسابات زعيم «العدالة والتنمية» هي الحرب الاقتصادية، وأدوغان الذي سعى جاهداً لإضعاف الاقتصاد السوري على مدى خمسة أعوام، يفهم جيداً التأثير السلبي الذي من الممكن أن تحدثه حرب الاقتصاد إذا ما شنت على بلاده، فتركيا التي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 57 في المئة من احتياجاتها، إضافة لما تحققه من أرباح واردات مرور أنابيب الغاز الروسي المتجهة لأوروبا عبر أراضيها، سيشعر مواطنوها بأزمة حقيقية في تأمين وسائل التدفئة وهم على أبواب شتاء يبدو أنه سيكون قارصاً بشكل مضاعف. كما أن طلب موسكو من سيّاحها عدم التوجه إلى تركيا، بعد أن كانت المقصد الأول للسائحين القادمين من روسيا، سيزيد من العجز الاقتصادي لهذا البلد.
تضاف للحرب النفسية والعسكرية والاقتصادية، حرب التصريحات السياسية المتجلية في المواقف التي عبر عنها القادة الروس الواحد تلو الآخر، بدءاً من الرئيس بوتين الذي أعلن أنه لن يلبي دعوة أردوغان للقائه قبل أن يقدم الأخير اعتذاراً صريحاً على إسقاط الطائرة، تلاه إعلان وزير الخارجية لافروف أثناء استقباله وليد المعلم في موسكو أن «تركيا وضعت نفسها في موقف صعب جداً على المدى الطويل في ما يتعلق بمصالحها الوطنية» مضيفاً أن روسيا ستواصل دعمها لسورية في معركة القضاء على الإرهاب، ليرد بعدها وزير الخارجية السوري من على ذات المنبر على المطالبين برحيل الرئيس السوري بشار الأسد ومن بينهم أردوغان، بأنه «حلم إبليس في الجنة».
يبدو أن التركي لم يكن يتوقع حجم الرد الروسي المتشعب على الأصعدة كافة، ولو أنه علمَ الغيب لكان استكثر من الخير وما مسّه السوء، ولا يعتقد كثيرون أن بإمكانه حفظ ماء وجهه أمام شعبه أولاً وأمام دول العالم ثانياً، بل سيستمر في المحاباة مستفيداً من الزمن إلى أن تهدأ النفوس.