إحياء وعد بلفور… وتقسيم جديد في المنطقة العربية
د. سلوى خليل الأمين
تتحرّك الجغرافيا من جديد في منطقتنا العربية من المحيط إلى الخليج بأيد أميركية صهيونية، ويُصنع التاريخ مجدداً فيما اندحرت الأحزاب التقدمية عن الساحة العربية، وأطلت المنظمات «الداعشية» والتكفيرية المموّلة من أنظمة عربية خليجية، تتباهى بعلاقاتها المؤنسة مع الولايات المتحدة الأميركية الداعمة والمؤيدة على نحو مطلق للعدو الذي يحتلّ فلسطين بوعد بلفوري ما زالت مضامينه سارية المفعول إلى يومنا هذا.
فها نحن نشهد انحسار دور النخب المثقفة والحزبية المتمكنة التي استطاعت عبر حزب البعث العربي الاشتراكي حكم دولتين عربيتين من أهمّ الدول استراتيجياً وعروبياً ومشرقياً، هما سورية والعراق.
لكن رغم إمساك العراق مجدّداً، بعد الاحتلال الأميركي، مقدراته بواسطة حكم جمهوري برلماني وانسحاب الجيش الأميركي من أرضه، إلاّ أنّ العين الساهرة على تفكيك المنطقة بقيت ساهرة، خصوصاً على ثروات العراق التي ما برحت الهدف والمرتجى لكلّ مستعمر غادر، وإن بأشكال مختلفة منها «داعشية» تكفيرية أو عرقية كردية أسقطت مفهوم الجنسية العراقية والولاء للدولة العراقية في بغداد بإعلان إقليم كردستان دولة محرّرة، زادتها قوة السيطرة أخيراً على كركوك النفطية، وهنا بيت القصيد الذي يدكّ إسفين الفدرالية والتقسيم في جسم الدولة العراقية. أضف إلى ذلك هذا الهجوم «الداعشي» المؤيّد والمموّل من بعض الدول الخليجية، وفي مقدمها السعودية التي يعلن ملكها رفض المملكة لمختلف أشكال الإرهاب وأنماطه، في حين بات معلوماً أنّ تمويل هذه العصابات سعودي وقطري بأوامر أميركية واضحة، فأُمسك بزمام المبادرة عبر فتح الجبهات العسكرية القائمة راهناً ضمن مفهوم الحرب المذهبية والعرقية التي لم تعرف سابقاً في العراق أو في سورية بسبب النظام العلماني، والتي عملت لها وسائلهم الإعلامية لا سيما في محطتي «الجزيرة» و»العربية».
ما يحصل اليوم مخطط مدروس بدأ مع «المسيحيين الجدد» في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش لصوغ جديد لوعد بلفور الذي قضى باحتلال فلسطين، ولمعاهدة سايكس ـ بيكو التي قسّمت العالم العربي دولاً متشابكة، فالتاريخ يعيد نفسه إنما بأسلوب جديد مضمونه إمرار النعرات المذهبية والعرقية وإشعال المنطقة بحروب تفتيتية جاهلية، تجعل المنطقة وشعوبها أسيرة المخططات الجهنمية التي ينفذها الحكام العرب المصابون بكوما أحقادهم التي لا تقبل الفكر المدني العلماني، ولا شعارات الحرية والديمقراطية، ولا إعطاء الشعوب حقها في العدالة الاجتماعية وثروات البلاد النفطية والغازية. وفي جانب آخر، لا يستسيغون مسار الدول العربية الأخرى الواقفة بالمرصاد للعدو الصهيوني. لذا لم يتوانوا عن تأييد القرارات الأميركية السرية القاضية بخراب المنطقة وإدخالها في حروب إتنية مذهبية وعرقية، توصلاً إلى تأييد «إسرائيل» في إعلان يهودية الدولة في فلسطين المحتلة.
الغريب أن منظمة «داعش» الإرهابية تمكنت بسهولة من إسقاط حدود سايكس ـ بيكو بين العراق وسورية، وتهدف بحسب تصريحات إلى مسؤوليها مواصلة السير إلى الكويت والأردن والسعودية وتهديد العالم كله بعمليات تفجيرية، والمؤسف أن القوى العالمية الفاعلة إما متفرّجة على ما يحصل، أو هي في حالة صراخ عبر تصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع، في حين أن الناس يُقتلون بلا رحمة او شفقة، لمجرّد أنهم لا يؤيدون الدولة «الداعشية»، وآخرها صلب فتى لفترة ثمان ساعات تحت الشمس الحارقة لمجرّد تهمته بشهادة زور ومن دون مراعاة حقوق الإنسان، وغيرها من الانتهاكات التي هجّرت المسيحيين من الموصل ودمّرت كنائسهم من دون أي استنكار يذكر من الغرب المسيحي الذي يسعى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى تهجير المسيحيين بدءاً من فلسطين، بلوغاً إلى إعلان حرب إسلامية مذهبية نشهد فصولها راهناً بدءاً من تونس وصولاً إلى سورية والعراق ومروراً بلبنان.
ألا يستدعي هذا الوضع المأزوم القائم في المنطقة التوصل إلى توافق عربي ودولي وإقليمي لوضع الحلّ الصائب منعاً لاستفحال الخطر «الداعشي» الإرهابي الذي بات يزنر المنطقة ويهدد جميع دولها وربما يدخلها في حروب مذهبية طويلة الأمد تجعل العدو الصهيوني متربعا على قمة النصر، متفرّجاً على ما يحصل بزهو المنتصر الدائم، رغم انهزامه على يد المقاومة في لبنان عامي 2000 و2006؟
الأمر ليس سهلاً ولا يمكن المراهنة على قيادات بعض الدول الغارقة في فساد المال والثروات النفطية، ولا على بعض الدول الصامدة والصابرة والمقاومة، فالنار قد تشعل المنطقة برمتها، إذا لم يحصل التكاتف والتضامن والتوافق على إيجاد حلّ لمسألة الإرهاب وكيفية القضاء عليه. والأهم دعم الدولة العراقية بغضّ النظر عمّن هو المنتصر، فالعراق في النهاية هو الهدف في ظلّ خرائط استباقية رُسمت للمنطقة ونفذت بثقافة مواجهة تفتيتية جديدة عنوانها الإصلاحات والطائفية والمذهبية، وحالياً المسألة العرقية الكردية. لذا، لا يجوز للعرب مجتمعين الانقسام بين مشجع ومنفذ ومموّل، ومقاوم لهذه المؤامرات المطبوعة بالفكر الصهيوني الحالم باستمرار هذه الحرب المفتوحة على سائر الاحتمالات، ومنها إعلان منظمة «داعش» أسس خلافتها الإسلامية المفبركة في العراق وسورية بغطاء عثماني، فالمعدات العسكرية كلها تُنقل إليهم عن طريق تركيا الحالمة أيضاً بعودة أمجاد دولتها العثمانية الغابرة.
ما المطلوب من القوى الوطنية والقومية والنخب المثقفة؟ المطلوب العودة إلى نشر ثقافة مواجهة هذا المشروع بمختلف أشكاله ومضامينه، مهما تكن التضحيات، قبل الوقوع في تنفيذ وعد بلفوري جديد يقسّم المنطقة ويجعلها محتلة من قبل الخبراء الأميركيين وطائراتهم المحلقة أيضاً في سماء العراق، وبالعمل على تصحيح المسار الوطني القومي بتعميم الدعوة إلى التعاضد والتعاون في نشر الوعي واستنهاض الفكر الثقافي المتنوّر لمساندة سورية والعراق في حربهما ضدّ الإرهاب، والمقاومة في حربها ضدّ العدو الصهيوني، وشن حرب هجومية إعلامية ليست سياسية تحليلية دفاعية فحسب وجهتها فلسطين من جديد، وعبر ثقافة المقاومة أيضاً، لإحراج كلّ من ينادي بحقوق أهل السنة عبر خطاب مذهبي تفتيتي مخادع، وإحراج العرب الذين يمالئون أميركا حليفة «إسرائيل»، فثقافة المواجهة لا تكون بتلقي الضربات والدفاع عن الحقوق المهضومة بل بالهجوم المستمر على كل حالة سياسية وعسكرية شاذة. المعركة معركة وجود ليس إلاّ.