تركيا تكرّس نفسها عدواً استراتيجياً

هاني الحلبي

تلوح مؤشرات حاسمة، خلافاً للحقب السابقة، أننا في الهلال الخصيب أمة محاصَرة استراتيجياً من ثالوث معادٍ لوجودنا وتاريخنا وحقوقنا في التقدم والحياة، هذا الثالوث:

– تركيا على اختلاف قياداتها منذ 500 عام، بخاصة تركيا الأردوغانية الأخوانية على أساس الأطماع الاستراتيجية في بلادنا، التي تبلورت في المقايضة المشؤومة مع فرنسا منذ العام 1937 بضم ألوية كيليكيا وأضنة واسكندرون، بعد أن كانت أضافت مدن ديار بكر وغازي عينتاب وماردين وقنسرين والرها و… وأريافها كافة.

– الخطر الصهيوني المتمثل بدولة «إسرائيل» العدو التاريخي لحقيقتنا ومصيرنا وحياتنا، كمشروع احتلالي توسعي عرقي قائم على وهم ديني لتحقيق مبدأ أرضنا من دوننا لشتات يهودي أو متهوّد طقوساً ولا مكان له في العالم، ولم يكن له مكان قط فيه.

– المشروع الوهابي المتأسلم، وما تأخذ به من دول عربية اليوم مثلاً، أبرزها المملكة العربية السعودية ودولة قطر، وغيرهما تتعاطف معه بدرجة ما. وهذا المشروع خطر داهم منذ عقود على حدود الهلال الخصيب الجنوبية، حتى تحوّل خطراً على هذا الهلال وشعبه وفيزيائه السكانية الشديدة التنوع والغنية الحضور والتاريخية الوجود والمؤهلات الحضارية.

في هذا المقال نتناول دور تركيا المنكسرة نفسياً وأخلاقياً والمعاقبة روسياً، التي تورّطت ، بسياسة مجنونة لا تقيم اعتباراً منطقياً وواقعياً لمعطيات القوى والاستراتيجيات الراهنة، ولا شك في أنها مستندة إلى الحلف الأطلسي، أكبر تكتل عسكري عدواني بعد حروب الفرنجة، المسماة تزويراً صليبية، أنها قادرة مع حلفائها على كلّ شيء كما في القرون والعقود التي سلفت.

كانت آخر مآثرها المعادية دخول قوة عسكرية مدعومة بـ25 دبابة غلى شمال الموصل تحت غطاء تعاون مع ميليشيا البشمركة في إقليم كردستان، تأرجحت أعدادهم بين 600 و 126 جندياً، من دون أي تنسيق مع حكومة بغداد الشرعية. وهذه رسالة فاضحة جداً لنهج علاقات عسكرية واقتصادية كحالة عقود النفط بين أنقرة وأربيل، منفردة بين تركيا وإقليم كردستان التي تتجه قيادته البرزانية إلى انفصال واقعي وفعلي بعد أن تستكمل عدته.

استطاعت تركيا دائماً خلال 500 عام أن تفرض مصالحها علينا، بالسيف حيناً وبالفتنة حيناً آخر، مستغلة اتساع الشريحة المذهبية الإسلامية الأوسع فينا، السُّنة، تدغدغ أحلامها بوعد خلافة منشودة، تخطاها التاريخ، وأصبح كقميص الخليفة عثمان، كل يطلب حقه ليحقق مصلحته ويزيد أرصدته.. حتى استبعدها العلماء ورأوا استحالة شروطها في ظروف عدة، ردعاً للمغامرين والهواة. فليس كل مَن انتمى لقبيلة كبرى يمكنه ادّعاء الخلافة فالخليفة قرشي. وليس من نفذ في أمة يمكن أن يفكّر في الدعوة لخلافة فالخليفة عربي… وبعضهم يشدّد أنه هاشمي دائماً.. فهل يصحّ لأردوغان أن يفكر في أن يكون خليفة؟ لا. ولأنه يعرف أنه لن ينالها لأنه طوراني عثماني.. رأى أن يوظف عربياً حسينياً، كما قيل، هو أبو بكر البغدادي: وقور.. طويل، جهوري الصوت، بليغ الكلمة، فاخر الأكسسوارات، حسن الطلعة، ممتلئ اللحية وشاب كذلك. وخبير قتال وعصابات.. فتمّت الصفقة.

نجح أبو بكر في محاكاة وجع بقايا أتباع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، من ضباط كبار وخبراء عسكر وقتال واستراتيجية ليستثير نزعة الثأر من جماعة أميركا الذي حكّمتهم في العراق الجديد وبمسحة مذهبية لافتعال فتنة شعواء لا تبقي ولا تَذر فتمخّضت عقولهم الكسيحة عن «قانون اجتثاث البعث» ليوفروا أسباب الفتنة المدمّرة للكيان العراقي. وكانوا هم تجمّعوا تحت راية جيش النقشبندية لمقاومة الاحتلال الأميركي وليس تحت راية قومية أو عراقية. وبدلاً من بناء ما يجمع قوى المقاومة في العراق ضد الاحتلال وعلى ما يوحّد العراق قوة ناهضة، تمّ شرخ الشعب والروح العامة بعقد الاجتثاث والثأر وبقسوة كاسحة. مهّد الاحتلال الأميركي للعراق لطبقة الطغاة الجدد في السلطة وفي خصوم العراق أن ينفذوا سياستهم لتدميره واستكمال نهبه وتدمير تاريخه وسحل أوابده الذي لم تتمكن أميركا من القيام به رغم سقوطها التاريخي الأخلاقي من عالم الإنسانية الأدبي. فالولايات المتحدة حريصة على أن تبقى دولة كبرى تبتز العالم بهيئة دولة وامتيازاتها وحقوقها وليس بهيئة مافيا. كان لا بدّ من مافيا لاستكمال الحريق والدمار فكان «داعش» سليل «القاعدة» ودولة العراق الإسلامية. فتتسع دائرة الاهتمام إلى الشام على أساس كشف حقيقة وحدة الهلال الخصيب الاستراتيجية. فلا يمكن استقرار للعراق من دون الشام، والعكس صحيح.

تم وضع خطط النهب والسيطرة. بدأت بالموصل. تمّ السطو على خزانة المصرف المركزي فيها ومصادرة مليارات الدنانير العراقية فضلاً عن المصارف الخاصة والأديرة والجوامع. بعد الضغط على ضباط كبار مسؤولين في المحافظة لتسليم الجيش والعتاد بلا قتال إلا في ما ندر. وانطلق «داعش» يتوسّع والقصد هو بغداد لتسديد ضربة استراتيجية باحتلال أول عاصمة عربية بيد الإرهاب. وما هي؟ بغداد والشعراء والسمر.. والبترول للضغط على الوجع العراقي بديون صدام لدول الخليج وبدءاً من الكويت، ولأميركا لتسترد كلفة «تحريره» ومن ثم محافظات ما يُسمّى أقليات لتطهير أرض الإسلام مما يدنّسها من عبدة الصليب والأوثان فيستكمل تدميرها الروحي والنفسي وسبي نسائها وإبادة أسرها وقراها ويقطع علاقتها بالأرض التي نشأت عليها مما قبل التاريخ. وإلا فالتهجير إلى دول العالم التي فتحت فرص اللجوء بسهولة كانت مستحيلة قبلها.

امتد داعش إلى غرب بغداد. اقترب من أربيل. خط أحمر جديد. لأنّ الصاعق الكردي لا يمكن المسّ به. فتنادت الدول شرقاً وغرباً لتسليح كردستان. وما زالت تسلح كيانه. حتى تمّ الاشتراك مع «داعش» وتركيا على خطط نهب البترول بأساطيل صهاريج وأنابيب إلى ميناء جيهان فـ»إسرائيل» وأي دولة في العالم. حوالى مليوني دولار في اليوم يدخل خزينة «داعش»، وأضعافها تحوزها تركيا وكردستان و»إسرائيل» بدءاً من 15 دولاراً للبرميل الخام الواحد فيصل إلى الزبون بـ40 دولاراً. بينما يتضوّر شعب العراق فقراً وتستغلّ الخزانة العامة أرتال الحمايات الأمنية لطغاة الأحزاب والسلطات كافة ورواتبهم الفلكية وبروتوكولات الفساد الرسمي.

هذه البنية المافيوية التي ربطت الأطماع التركية بالاستراتيجية اليهودية بالتمويل العربي ووهم الخلافة السعودية أنتجت «داعش» وخطط تدمير اقتصادنا وإبادتنا من أرضنا باعتبارنا روافض ومجوساً وكفرة ونصارى…

تحت هذه اليافطة يتمّ إفراغ الأرض للتركي الطامع المهيمن الذي يرى بلادنا انتُزعت منه بعد هزيمته المذلة في الحرب العالمية الأولى وعليه استعادتها وعبثاً حاول لسنوات ببعض الدعم، كمستشفى تركي في صيدا لما يعمل بعد، ومكتبة في عكار وموقف كاريكاتوري ضدّ الإرهابي نظيره شيمون بيريز في منتدى دولي ليحاول تجييرنا كورساً مساعداً لمهرجان «الإخوان المسلمين» والهيمنة على العالم العربي وتكريس «إسرائيل» قطباً عالمياً بحضانة إسلامية تحت يافطة إيهامنا أنه فخامة مقاوم بدعمه أساطيل غزة حرة التي أخذت تطلق بعض سفنها من أنقرة وأزمير وغيرهما وقدمت شهداء على متن سفينة مرمرة أحدهم بطل تايكواندو تركي..

العتوّ التركي تجلى في أداء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بثلاث مآثر قاتلة:

ـ تجلّت أولاها في تنظيم شبكة النهب للنفط السوري العراقي ضمن بيئة عائلية يتولاها ابناه، أبرزهما بلال، وصهره كوزير للنفط التركي، من الحسكة ودير الزور والموصل إلى زاخو على الحدود التركية العراقية حيث تفرّغ آلاف الصهاريج يومياً في شبكة التهريب التركية الرسمية. فكيف يمكن التفريط بـ»داعش» وهي هيئة استثمار تركي مباشر في النفط العراقي السوري بلا عقود ولا ضرائب ولا مفاوضات. وعندما لفتت روسيا نظر تركيا إلى الأمر تجاهلته. حتى اضطر الرئيس الروسي في قمة انطاليا أن يبدأ بإبراز الوثائق فأُسقط في يد أردوغان. وثائق مصوّرة وبدقة عالية تظهر أرتال الصهاريج تشحن النفط وأرتال الشاحنات تشحن الأسلحة والمؤن للإرهابيين في خط الأياب من تركيا. وعزز هذا العتوّ بإصراره على عدم الاعتذار من روسيا وإن داوره والتفّ حوله بتعابير عدة، لكن كان يصرّ رئيس تركيا ورئيس وزرائها أن لا اعتذار.

ـ وتجلّت ثانيتها في إسقاط الطائرة الروسية متذرعة تركيا بأنها انتهكت المجال الجوي التركي. والطائرة الضحية بقيت ضمن الأراضي السورية بحدود ميل واحد حتى أن هبوط طياريها كان في الأراضي السورية المحاذية وكذلك حطامها. لكن المقصود بالمجال الجوي التركي يمتدّ عميقاً في الأرض السورية. كما كان يقول أحد رؤساء كيان العدو أنّ هذا المجال الحيوي يمتدّ حيث يصل طيران «إسرائيل»، وعلى أساسه قصفت «إسرائيل» في بغداد وفي تونس وفي السودان مرات عدة وكانت تهيّئ لقصف مفاعلات إيران لولا حنكة إيران وقدرتها على رفع مستواها التقني العسكري والألكتروني وحربها النفسية. كذلك تركيا تحاول تطبيق هذا المبدأ. في الشمال بينما تطبقه «إسرائيل» في الجنوب ضدّ لبنان وسورية. خطيئة تركيا بإسقاط السوخوي صدمت روسيا بعمق. وتروّت حتى لا تكون حرب فيتحوّل العدو من الإرهاب إلى مَن صنعه ويحميه ويوظفه. وكانت تتوقع تركيا أنها تفتح النار وتستجير بالأطلسي فينجدها. فتردع روسيا عن نجدة سورية وتوقف خططها فيها أو تدخل في مساومة لحفظ الرأس والهيبة. لكن هذه الخطيئة استفزت الدببة السيبيرية فخسرت تركيا عقود التعاون الاقتصادي، وفي عز الشتاء تفقد حصة الغاز المسيل إليه، لتذوق قيادتها طعم الغدر من فمها وبيديها.

ـ والثالثة إصرار تركيا على المنطقة الأمنية التركية الممتدة من جرابلس إلى المتوسط موسعة منطقة احتلالها كيليكيا واسكندرون وأضنة بمثلها تقريباً أي ما يفوق مساحة لبنان بأضعاف في أفضل المناطق المائية والزراعية والتاريخية السورية.

شكراً روسيا… فريدة أنت بين الأمم في ليل المحن.. وحيدة تعرفين قيمة الدم وثمن الكرامة.. قدّمت زهرات أجيالك ضد النازية السابقة باسم هتلر، كما نقدّم نحن زهرات أجيالنا منذ قرون ضدّ مخطط إفنائنا باسم يهوه اليهودي سابقاً، وباسم «النبيّ» السعودي القطري – التركي حالياً وآلهته الخرقاء..

لكن ما حصل هو الردّ الروسي المتحرج حتى الحرب المقبلة.

هو أنّ روسيا نشرت في مطارات سورية عدة قواتها الجوية وأنظمتها الأحدث في العالم للدفاع الجوي بحيث عطلت استباحة الأجواء السورية كافة بما فيها أجواء لبنان وشمال فلسطين ووسطها من قاعدة حميميم شرق اللاذقية، إلى قاعدة تي فور للطوافات الحربية، ولاحقاً ستمتدّ لوسط سورية بتحضير قاعدة الشعيرات في الأسبوعين المقبلين لتمسك غرب العراق وشرق سورية وكامل وسطها وجنوبها، لتفرض شروطها كاملة على أعدائنا: قيادة سورية شرعية وإبادة كاملة للإرهاب.

فلا تركمان في سورية لتركيا ولا دولة كردية ولا دولة درزية لـ»إسرائيل» ولا دولة سنية للسعودية وقطر وتركيا ولا دولة علوية ولا دولة مسيحية للغرب.

سورية واحدة موحّدة علمانية، سورية للسوريين! والسوريون طليعة تحرير المشرق يقرّرون مستقبل سورية وتقدّمها وينطلقون لعدوى المحيط الطبيعي بالإرادة القومية والاستقلال الحقيقي.

ناشر موقع حرمون

www.haramoon.org gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى