المناصفة بالنيّات

فادي عبّود

أتوجّه اليوم مجدّداً الى جريدة «البناء»، وهذه المرة عن سابق تصوّر وتصميم، فهي الجريدة الناطقة باسم حزب قد يكون الحزب الوحيد الذي تخلّص من الطائفية بالعقيدة والممارسة الفعلية، وأتوجّه تحديداً إلى قراء هذه الجريدة الذين اقتلعوا الطائفية من نفوسهم وحياتهم لكنهم يتمسكون بالعدالة ويرفضون الظلم أينما وقع، وبالتالي أتوجه إليهم لأفتح الحوار الواقعي بالأرقام حول المناصفة والمزايدات التي باتت معتمدة.

كنت أقول دائماً إنّ الأرقام أفصح من الكلام، ونتيجة لذلك يجب أن تكون الأرقام هي القاعدة التي نبني عليها قراراتنا وقناعاتنا، كي نحلل الأرقام التي رافقت المؤتمر الصحافي للجنرال ميشال عون، ونستعرضها معاً لنكتشف واقع حال الأرقام وتوزيع المقاعد النيابية في لبنان.

إنّ المناصفة اليوم، وبحسب الأرقام، هي مناصفة منقوصة إذ لا يمكن لأحد أن يجادل بأنّ نحو نصف المقاعد المسيحية يأتي بأصوات غير مسيحية، أو بأرجحية موحدة غير مسيحية، وأستبق العديد بالقول إنني أؤمن بأنّ هذا الكلام هو كلام طائفي مرفوض، ولكنني أؤمن أيضاً بالعدل والمنطق، كأننا ننطلق من مجتمع علماني موحد أتت مطالب المسيحيين لتشوّهه وتعكر عليه علمانيته التي اعتادها، وكأنّ أصوات المسيحيين هي التي شوّهت هذا النظام العادل المتوازن، فكلّ مرة تُناقش كينونة هذا النظام تنزعج القوى التي اعتادت سلب الشريك المسيحي أصواته، ما حوّل الموضوع الى عرف مقدّس ممنوع المساس به، وكلّ من يمسّ به يتهم بالكفر بالطائف، وبالتالي بالخيانة العظمى!

بلى، قبِل الشريك المسيحي بالمناصفة، لكن حين تعني المناصفة أن يأتي نحو نصف المسيحيين بأصوات المسلمين تصبح هذه المناصفة نظرية ولا فعلية، وبالتالي يصبح التغنّي بالمناصفة خارج منطق الأرقام، وبمثابة ذرّ الرماد في العيون، ففي لغة الأرقام، إذا اعتبرنا أنّ هناك شريكين مناصفة في مصلحة معيّنة وامتدت يد الشريك الآخر إلى حصة شريكه، تصبح الشراكة مهدّدة وتحتاج الى إعادة نظر. وبلغة الأرقام، المناصفة في ظلّ نظام طائفي واضح له معنى واحد هي أن يختار المسيحيون نوابهم والمسلمون نوابهم، وهذا لا يقبل جدالاً.

سينظر الكثيرون الى كلامي على أنه مناقض للفكر العلماني الذي أؤمن به، إلّا أننا وصلنا إلى مرحلة بات فيها صعباً عدم تسمية الأمور بأسمائها والاعتراف بأننا أنتجنا نظاماً طائفياً مرعباً لا حلّ له على الأقلّ في المرحلة الراهنة قبل تطهير النفوس والتوقف عن الاقتتال على السماء الذي أفقدنا الأرض، وبالتالي نجد أنفسنا أمام هذا النظام مجبرين على إصلاح ما نقدر عليه، فالأسوأ من النظام الطائفي هو النظام الطائفي الظالم. قد تكون عدالة التوزيع بين الطوائف المدخل الحقيقي لبناء دولة علمانية موحدة، فاستعادة الثقة بين الأطراف كافة هي التي ستنقل لبنان الى المرحلة المقبلة من الدولة المدنية، فلا بناء لأيّ دولة مدنية في ظلّ الشعور بالإجحاف والظلم.

هنا أسأل إخواننا المسلمين أن يتطلعوا حقيقة إلى الظلم الواقع على المسيحيين في منطقة المشرق العربي كلّها، التي تحوّلت فيها هجرة المسيحيين إلى إنذار حقيقي يجب أن يتطلع الجميع إليه بجدية. وللهجرة المسيحية عدة وجوه، والتهديد الأمني أفظعها، إلّا أنّ الإحساس بهدر الحقوق عامل أساسي ونفسي، فكيف يشعر المسيحيون العاجزون عن اختيار رئيس مسيحي قوي في بلدهم كائناً من كان، كيف يشعرون حين يرون الطائفية «التقدمية» و«الأملية» و«الحريرية» و«التحريرية» وحتى «النجيبية» تستقتلّ للدفاع عن مواقعها، وعند الحديث عن الموقع المسيحي يبدأون في رفض الطائفية وفي كلام على ضرورة التوافق! كيف سيشعر المسيحي اليوم حين يرى أنّ الطائفية البغيضة مورست على مدى السنين الماضية بغياب واضح للشريك المسيحي، وحين عودة الشريك المسيحي إلى تصحيح الواقع، تذكر أرباب النظام الطائفي سيّئات الكلام الطائفي والنظام الطائفي والتعامل الطائفي، إلخ…

اللافت للنظر ردود الفعل الشرسة على ما قاله العماد عون في مؤتمره الصحافي، كأنه قال وقائع من المريخ، وكأنهم ليسوا من أنتج هذا الواقع. ووصل الأمر بإحدى الشخصيات الى حدّ اتهام عون بأنه يؤسس لـ«مارونستان»، وكأنّ هذه الشخصية نفسها هي رمز الانفتاح والمجتمع الموحد. ربما على الجنرال أن يستمرّ في كلامه، لأنه ما أن ينطق حتى تتوحد الأطراف الطائفية نفسها للمجاهرة علناً برفض الطائفية.

أودّ التوضيح أن تفكيري وقناعتي يرفضان رفضاً قاطعاً النظام الطائفي، وأرفض التوزيعات الطائفية، لكن أكثر ما أرفضه التربية الطائفية التي فرضت نفسها واقعاً في لبنان حيث لا إشارات جدية بتغيّره، والواقع يقول إنّ لبنان أصبح مجموعة غيتوات Ghettos طائفية، إلا أنني من أكثر المؤمنين بنظرية إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص، وهذا لن يتحقق ما لم تتوافر عدة العمل الضرورية لذلك، وإلغاء الطائفية من النفوس يبدأ من المدارس، فالانصهار الحقيقي لمكوّنات المجتمع كافة، فكيف سيتمّ بناء مجتمع موحد متآلف منفتح على الآخر حين نرى أن النسبة الأكبر من المدارس من لون واحد، ونعني بذلك أنّ أكثرية الطلاب من طائفة واحدة ومذهب واحد، فتنشأ الأجيال من دون احتكاك فعلي مع الشريك الآخر المختلف وتتكوّن صور مشوّهة وأحكام مسبقة، جراء هذا التقوقع وعدم الانفتاح.

نحتاج في لبنان بالطبع إلى Time out ، إلى فرصة لتحليل واقعنا بكثير من الحكمة والجدية. يجب أن نحضّر مجتمعاتنا للانفتاح والرغبة بالتعرّف إلى الآخر إذا كان هدفنا في نهاية المطاف خلق مجتمع موحد متجانس مرجعيته الدولة، ومرجعيته حقوقه المصونة بالدستور. وفي هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ورقة التفاهم بين التيار الوطني الحرّ وحزب الله، وإنْ تكن نجحت سياسياً إلّا أنها فشلت مجتمعياً وإنسانياً، نجحت بالطبع في تحقيق خرق محدود، ففتح المجتمع المسيحي ذراعيه واستقبل شريكه الشيعي خلال حرب تموز، ومنعت ورقة التفاهم بالتأكيد حرباً أهلية كان يخطط لها في لبنان. لكن على الصعيد الإنساني وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية، بقي الجمود على ما هو عليه في عدم الانخراط الفعلي والتقارب، فلا مخيمات مشتركة، لا حركات كشفية مشتركة، ولا نشاطات شبابية مشتركة لفتح قنوات التواصل. بقيت ورقة التفاهم في إطارها السياسي، وبالتالي إذا كان المطلوب خلق التفاهم الذي ينعكس مجتمعياً لا سياسياً على الطرفين القيام بجهد أكبر لدمج الشباب عبر مخيمات ونشاطات، نوادي وجمعيات، عبر تدريبهم على إيجاد النقاط المشتركة المتمثلة بالحقوق والواجبات والاقتصاد والبيئة وسبل تطوير المجتمع وتحسينه.

بالطبع سيطلق على كثر صفة الحالم، لكنني أتكلم عن أبسط المعايير لبناء مجتمع موحد قادر على التفكير في إنتاجية قبل الذود عن كرامة الطائفة، وعلى التفكير في حقوق وواجبات قبل الشعور بالتهديد اليومي الدائم كأننا في حالة حرب دائمة.

المناصفة ليست بالنيات، كما أنّ تطبيق الطائف ليس شماعة يعلق عليها كثر ارتكاباتهم الطائفية. القوانين والدساتير وضعت لخدمة المجتمع، وليس البشر وقوداً للدساتير والقوانين. ألم تنتبهوا بعد إلى الخلل الحاصل؟ ألم تنزعج علمانيتكم من الاختلال الطائفي على حساب شريك أساسي في الوطن؟ راجعوا حساباتكم مجدّداً وبالأرقام. حققوا الطائفية العادلة واسعوا إلى المناصفة الحقيقية، عندئذ قد نتمكن ربما من الانطلاق معاً نحو الدولة المدنية العادلة والموحدة.

أذكر ما قاله لي أحد القوميين القدماء حين سألني ماذا بقي من الأمة السورية؟ ضهور الشوير! فليحوّلوا علاقتهم بدينهم إلى علاقة حميمة مؤمنة، بينهم وبين الله، ونحن حاضرون.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى