الناتو يصعّد لاستدراج روسيا إلى أخطر مواجهة منذ الحرب الباردة
روسيا وسورية تصدّرتا اهتمامات ودراسات مراكز الأبحاث الأميركية المختلفة، وتراجع التركيز على مؤتمر المناخ العالمي في باريس، ليحتلّ تحرّك الرئيس الروسي بوتين محور التكهّنات والتحليلات على ضوء الأزمة اللولبية بين موسكو وأنقرة.
في الداخل الأميركي، انشغلت وسائل الإعلام المختلفة بحادث إطلاق النار على حفل رسمي لموظفي مؤسسة اجتماعية، في مدينة بيرناندينو بولاية كاليفورنيا، وسارعت الأجهزة الأمنية الى تحديد هوية شخصين متهمين بإطلاق النار بأنهما زوجان مسلمان من أصول باكستانية، ولوحظ تصاعد حملات التحريض عبر منابر إعلامية ومن مرشحين عن الحزب الجمهوري لمنصب الرئاسة ترمي الى إلصاق تهمة الإرهاب بعموم المسلمين.
سيستعرض قسم التحليل التحوّلات الأخيرة على المشهد الميداني في سورية وتعزيز الولايات المتحدة وحلفائها ووكلائها الإقليميين من الحضور العسكري الجماعي تحت يافطة استمرار التصدّي لتنظيم «داعش». ولفت التطوّر المستجدّ انظار الخبراء والمراقبين السياسيين والعسكريين على السواء محذّرين من التصعيد في الأجواء السورية «وتوفر فائض القوة النارية… الذي يؤدّي عادة إلى نشوب الحروب».
تداعيات إسقاط القاذفة الروسية في سورية
أعرب معهد كارنيغي عن اعتقاده بأنّ أولى نتائج الحادثة «إغلاق فسحة الأمل الناجمة عن بدء عصر ذهبي جديد قصير الأجل في العلاقات الروسية التركية»، فضلاً عن انّ ردود فعل الحكومة التركية لا تعدو كونها مسرحية سياسية، في ظلّ «إخفاق حزب العدالة والتنمية في تحقيق هدفه بأغلبية الثلثين التي تمكنه من تعديل الدستور وبلوغ رجب طيب أردوغان مرماه بإنشاء نظام رئاسي». وأضاف انّ تصميم أردوغان على الظهور بموقف زعيم سياسي قوي أمام الجمهور حفّز «الحكومة على تصعيد خطابها السياسي «بدفاعها عن العالم التركماني»، ليس ضدّ المسلحين الأكراد فحسب، بل في ما يتعلق بتوجيهها انتقادات قاسية للتدخل العسكري الروسي في سورية».
أدلى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بدلوه في ما يخصّ أحدث التصريحات الأميركية بنشر مزيد من القوات الخاصة في العراق وسورية، في مهمة «قوات استكشافية برية»، قائلاً انه ينبغي اعتبارها «رصيداً تكتيكياً نظراً لخطورة تحوّلها الى أداة مزايدة سياسية عوضاً عن قوات ضاربة، وإمكانية تحوّلها الى بيدق يتمّ التضحية به» من قبل الإدارة الأميركية. يُشار الى انّ وزير الدفاع آشتون كارتر وصف مهامها أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، منتصف الاسبوع الماضي، بانها «قوة مشاة استكشافية متخصصة… مهمتها شنّ غارات ضدّ قيادات تنظيم داعش في العراق وسورية». وأعرب المركز عن قلقه من اضطرار الإدارة للتحرك قبل الأوان نظراً إلى «حملة متزايدة من الضغوط تتعرّض لها تؤدّي الى تبيان تحرّك الولايات المتحدة واتخاذها مزيد من الخطوات الملموسة في مواجهة داعش».
حذر معهد كاتو إدارة الرئيس أوباما بأنه ينبغي عليها «الابتعاد عن الأزمة المستجدّة بين روسيا وتركيا في سورية، لا سيما أنّ التفجيرات التي تعرّضت لها باريس لا يمكن ردعها عبر تحطيم التنظيم العسكري لداعشفي سورية والعراق». وأوضح انّ أمن الولايات المتحدة «سيكون في أفضل حال انْ استطاعت واشنطن التشديد على انّ التدابير الاستخبارية والأمنية الداخلية باستطاعتها الصمود بذات الفعالية لإعاقة هجمات إرهابية، كالتي نشهدها منذ أحداث 11 أيلول».
أوضح معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ما اعتبره «عنصراً مخلاً بشكل فريد» في قرار تركيا إسقاط القاذفة الروسية، إذ سعت أنقره عبره إلى «ضمان مقعد لها على طاولة المفاوضات حينما يحين أوان انعقادها»، محذراً من انّ الضمانة الوحيدة لذلك هي «استمرار سيطرة القوات الموالية لتركيا على مناطق استراتيجية في الشمال الغربي من سورية… الأمر الذي يعزز أهمية الغارات الروسية ضدّ مواقع المسلحين الرامية لضعضعة تجمّعاتهم، وفي نفس الوقت تقويض سياسة تركيا نحو سورية بعد تقلصها مؤخراً». واستدرك مستائلاً عن «طبيعة الردّ الروسي» في هذه المرحلة الحساسة.
اعتبر معهد الدراسات الحربية تدخل روسيا العسكري في سورية جاء بدافع «الحدّ من النفوذ الأميركي في المنطقة وليس بحافز إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش»، على الرغم من انّ «موسكو تعتبر داعش مصدر مخاوف أمنية مشروعة… وفرصة سانحة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية الكبرى». واضاف انّ الرئيس الروسي «يسخّر حملة التضليل الإعلامي للتعتيم على حقيقة أهدافه في سورية واستغلال الولايات المتحدة وحلفائها المحليين في مناورة ترمي لوضعهم في خدمة روسيا وتحقيق أهدافها عن غير قصد».
استراتيجية أميركية ام ادّعاء
جدد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية حملة انتقاداته لسياسة الإدارة الأميركية في سورية معتبراً انها «لا تملك استراتيجية واضحة» هناك، خاصة في ظلّ تنامي الفضائح السياسية الداخلية التي أشّرت على توفر دلائل كبيرة لتلاعب القادة العسكريين الكبار في التقارير الاستخبارية حول حقيقة الحرب الميدانية لتخدم مزاعم القادة السياسيين بمراكمة انتصارات وهمية. وقال المركز انّ واشنطن «لا تملك استراتيجية واضحة في سورية… وادّعاءاتها بقتل وهلاك عدد كبير من مسلحي تنظيم داعش لا معنى له ومضلل اكثر من المزاعم ابان الحرب الفيتنامية، وكذلك الأمر في ما يخصّ الزعم باستعادة السيطرة على مناطق جغرافية».
جهد معهد المشروع الأميركي في التخفيف من حدّة الانتقادات الموجهة للبيت الابيض لافتاً النظر الى انّ «قتال داعش ليس جولة حرب عادية… وينبغي علينا إيجاد السبل الضرورية لتعزيز فعالية القوات العسكرية في ظرف زمني مناسب». واستشهد المعهد بالعقبات التي واجهت الرئيس ابراهام لينكولن لإخضاع انفصال الولايات الجنوبية ابان الحرب الأهلية الأميركية، والتي «كانت على وشك نيل اعتراف رسمي بها كدولة ذات سيادة من قبل لندن وباريس» آنذاك. واوضح انّ الرئيس لينكولن وظف كفاءات عسكرية مشهود لها أوكل اليها مهمة «تمزيق أحشاء المجتمع والاقتصاد لمنطقة الجنوب وتحويل نظام العبودية هناك الى أشلاء».
ناشد معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الحكومة البريطانية «توسيع ضرباتها الجوية ضدّ تنظيم داعش من العراق الى سورية نظراً لما تتمتع به من قدرات ودوافع… وتوسيع مجموعة الأهداف المحددة التابعة للتنظيم»، ورفد القوات الأميركية بموارد مساعدة «لا سيما طائرات ريبر بدون طيار وأخرى للتزوّد بالوقود جواً… تخفف عنها أعباء الخدمات اللوجستية والصيانة» لسلاح الجو الأميركي.
وأوضح انّ قرار البرلمان البريطاني المنتظر للموافقة على الانخراط «سيعزز مواقف الشركاء الآخرين في فرنسا والمانيا» للانضمام بفعالية اكبر.
مخاطر الصدام في المشرق العربي
النيل من روسيا مخطط غربي قديم وليس نتاج لحظة صراع آني، بل يسبق ولادة النظام الاشتراكي الذي كرّسه لينين، ويستمرّ بضراوة أشدّ بعد تراجع نفوذ القطب العالمي الواحد. مراكز التوتر والصراع تستمرّ بمقربة من الحدود الإقليمية مع روسيا، من ناحية، ومحاصرتها في مناطق النفوذ القليلة المتبقية في الوطن العربي.
صراع روسيا وتركيا يضرب جذوره في أعماق التاريخ منذ العقود الأولى للدولة العثمانية ويمتدّ إلى ما ينوف عن 500 عام، اشتبك فيها الطرفان 17 مرة في «حروب مباشرة»، فازت روسيا فيها جميعها، آخرها أدّت إلى تخلي تركيا عن نفوذها في شبه جزيرة القرم ابان الحرب بينهما بداية القرن التاسع عشر، وخسارتها «مناطق النفوذ العازلة» بينهما في جنوبي اوكرانيا.
تجدّد الأزمة بينهما وتصاعدها المضطرد «بإشراف مظلة حلف الناتو» أعاد تنشيط الذاكرة لتفاقم الصراع الدولي مع تدهور الأوضاع الأمنية على الحدود المشتركة مع سورية ومقاربة ظروف اندلاع الحرب العالمية الأولى وتشابه استغلال حوادث ثانوية آنذاك، من قبل القيصر الألماني فيلهلم وامبراطور النمسا فرانز جوزيف، وتسخيرها في خدمة اهداف سياسية ضيقة.
القيصر والامبراطور اليوم يجسّدهما فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان. الاول يهدّد تركيا بانها «ستندم على فعلتها»، والثاني يتوجه لدول الناتو طالباً مزيداً من الدعم العسكري، وانْ جاء رمزيا. القوات العسكرية للبلدين تقف في مواجهة بعضهما مباشرة على جانبي الحدود السورية، فضلاً عن الحجم الهائل للترسانة العسكرية الروسية ووضعها على أهبة الاستعداد. الثابت ايضاً انّ كلا الدولتين تحافظان على إبقاء مسافة بينهما ولو ضيّقة، تسمح بعدم الاقتراب من حافة الهاوية، لا سيما الطرف الأضعف بينهما رغم الضجيج والصخب الإعلامي وقعقعة السلاح.
تركيا «سُمح» لها توخي لهجة التهدئة اعلامياً بينما يمضي حلف الناتو في تعزيز وجوده العسكري على الأراضي التركية. أردوغان من جانبه استحدث لهجة «الدفاع عن العالم التركماني»، اسوة بخطاب الدول الاستعمارية في «الدفاع عن الاقليات» العرقية والدينية.
ربما من سخرية القدر هذه الأيام رؤية الدول المتورّطة في نشوب الحرب العالمية الأولى عينها تتهدّد وتتوعّد اليوم باعتماد المواجهة العسكرية: فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، أميركا، وتركيا. اليابان في محصلة الأمر ستقف الى جانب حلف الناتو لا محالة.
نوايا حلف الناتو بمحاصرة وتفتيت روسيا لم تعد حبيسة التكهّنات ومنطق التحليلات السياسية. يحضرنا في هذا السياق ما أورده القائد الأميركي السابق لقوات حلف الناتو، الاميرال جيمس ستافريديس، مطلع عام 2014، محذراً من تفاقم وتيرة الصراع في وعلى منطقة الشرق الاوسط «وقد يمتدّ ليلتهِمَ عموم منطقة الشرق الاوسط… ويؤشر على تهديد حقيقي لأمن القارة الاوروبية». وأوضح في مغزى تصريحاته انّ الدول التي سيمتدّ إليها خطر الحروب هي «دول حلف الناتو في اوروبا وأصدقاء أميركا في المنطقة، من السعودية إلى الخليج العربي إلى الاردن وإسرائيل». يشار الى انّ الأميرال ستافريديس أشرف على قصف حلف الناتو لليبيا والعمليات العسكرية في دول بحر البلقان، ومناطق أخرى.
دروس التاريخ القريب والبعيد تؤكد حقيقة لجوء القيادات السياسية إلى قرع طبول الحرب كأحد الأساليب المفضّلة لتعزيز مكانتها داخل مجتمعاتها، وحماية مصالح القوى المتنفّذة، وتمديد السيطرة والنفوذ الى مناطق متعدّدة.
أميركا تهدّد بصراع مفتوح
استغلّ الرئيس الأميركي باراك أوباما فرصة لقائه نظيره الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر المناخ في باريس للنفخ في ديمومة الصراع الدولي مع «داعش»… الذي يشكل تهديداً جدياً لفترة زمنية مقبلة»، متراجعاً عن توصيفه السابق للتنظيم الإرهابي بأنه «لاعب مبتدئ»، أرفقه بالإعلان عن إرسال بلاده قوة إضافية من القوات الخاصة «في مهمة استكشافية» وشنّ عمليات خاطفة في سورية والعراق.
نزعة التدخل العسكري في شؤون الغير هي رغبة متأصّلة في جذور النظام السياسي، الأميركي والأوروبي. بيد انه ينبغي النظر الى الجولة الأخيرة في تعزيز التواجد العسكري الأميركي وأتباعه الغربيين من زاوية المناخ الانتخابي المطبق على المشهد الأميركي، وما يواكبه من مزايدات ومواقف سياسية متشدّدة، والتي لا تقتصر على حزب او توجه سياسي معيّن. الثابت في هذا المجال انّ بعض القيادات البارزة في الحزب الديمقراطي وأنصارها في الطرف المنافس نجحت أخيراً في «ابتزاز» موقف الإدارة وتعزيز مطلبها بالتدخل العسكري في سورية وإنْ على مراحل.
على الطرف المقابل، برزت النائب عن ولاية هاواي وعضو لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، تولسي غابارد، تحذر من تداعيات الانخراط العسكري، سواء انْ كان مدروساً او بخلافه، وما ينطوي عليه من جرّ الولايات المتحدة الى «حرب نووية» مع روسيا هذه المرة.
وأوضحت غابارد مصدر قلقها بأنه ناجم عن «نشر روسيا لنظم وبطاريات دفاعاتها الجوية المتطورة في سورية، مما سيضاعف من إمكانية حدوث تصادم متعمّد او عرضي» بين القوتين العظمتين.
اللافت أيضاً انّ إبلاغ الكونغرس بإرسال مزيد من القوات الخاصة إلى سورية والعراق جاء على لسان وزير الدفاع آشتون كارتر، في مثوله أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، مناشداً الأغلبية من صقور الحرب إصدار تفويض جديد وصريح يخوّل الكونغرس بموجبه الرئيس أوباما شنّ حرب على تنظيم داعش، ينزع القيود الراهنة على قانون التفويض لعام 2001 المعمول به حالياً.
وبرّر كارتر دعوته بأنه يتعيّن على أعضاء الكونغرس «النظر إلى شنّ القوات الأميركية غارات محدّدة الأهداف غير مقيّدة في ايّ مكان من الأراضي السورية والعراقية… اينما سنحت الفرصة لذلك»، وما سيترتب عليها من منافع وإنجازات «تتيح لها إنشاء أرضية أفضل لجمع معلومات استخبارية، ينطوي عليها تحديد أهداف إضافية، وشنّ مزيد من الغارات، وتعزيز قوة الدفع» العسكرية. لم يغفل كارتر الإشارة بوضوح الى انّ مهام «القوات الخاصة الاستكشافية تتضمّن قيامها بشنّ غارات أحادية الجانب داخل الاراضي السورية».
تباين تقييم المؤسسة العسكرية والبيت الأبيض، في ما يخصّ «احتواء داعش» برز بوضوح في جلسة لجنة القوات المسلحة المشار اليها، نظراً إلى عزم الحزب الجمهوري على تفنيد ادّعاءات الرئيس أوباما بأنّ «استراتيجيته» في المنطقة بدأت تؤتي أكُلها. رئيس هيئة الأركان المشتركة، جوزيف دنفورد، أبلغ اللجنة المذكورة انّ قيادات البنتاغون تختلف في تقييمها لتنظيم «داعش» عن الصورة الصادرة عن البيت الابيض، اذ انّ خطر التنظيم «لم يعد قيد الاحتواء».
هجمات باريس ذريعة للتدخل
سارعت الدول الاوروبية الرئيسة، فرنسا وبريطانيا وألمانيا، الى استثمار الهجمات المتزامنة في باريس لتواكب المطالب الأميركية بمزيد من الانخراط الفعلي ميدانياً، في سورية والعراق، توّجها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون باستصدار تفويض برلماني يخوّله استخدام «سلاح الجو الملكي» شنّ غارات مكثفة على مدينة الرقة السورية، والتي يزعم تنظيم «داعش» أنها عاصمته.
ألمانيا، التي عادة ما تبرز فرط حساسيتها لإرسال قواتها العسكرية خارج حدودها، انضمّت إلى دعم المطلب الأميركي دشنته المستشارة انجيلا ميركل بموافقة حكومتها على إرسال قواب برية قوامها 1200 عنصر ترافقها طائرات مقاتلة للعمل في الأجواء السورية عززتها بإرسال فرقاطة حربية «لحماية حاملة الطائرات الفرنسية» العاملة في مياه المتوسط.
وزارة الدفاع الألمانية أصدرت تقريراً عن تدني فعالية قواتها الجوية مقارنة بما كان عليه الوضع العام الماضي، اذ انخفض عدد طائراتها من طراز تورنادو من 89 الى 66، صلاحيتها للعمليات القتالية لا تتعدى 29 مقاتلة. يُشار في هذا الصدد الى العقبات التي اعترضت مهام المقاتلات الألمانية في عمليات إنزال أسلحة وذخيرة لقوى البيشمركة الكردية في شمالي العراق، وتوفيرها مساعدات طبية خلال انتشار وباء ايبولا في الغرب من القارة الافريقية.
زيادة عدد الطلعات الجوية من الدول الاوروبية المختلفة الى جانب المقاتلات الأميركية والتركية في الأجواء السورية يعزز مشاعر القلق من تدهور سبل السيطرة على العمليات العسكرية وحدوث اشتباكات مباشرة مع سلاحي الجو الروسي والسوري، وإسقاط تركيا للقاذفة الروسية، وما رافقها من نشر روسيا لأحدث ما في ترسانتها من دفاعات جوية في الاراضي السورية وما ينطوي عليها من استعداد البشرية لما هو اسوأ، كما عبّرت عنه النائبة عن الحزب الديمقراطي تولسي غابارد.
القطعات البحرية المختلفة تتزاحم ايضاً في مياه البحر المتوسط والخليج العربي، كلّ لأسبابه وتبريراته المختلفة: أميركا وحلفاؤها في دول الناتو مقابل روسيا بالدرجة الأولى. المصادر الإعلامية الروسية أشارت مؤخراً الى أنّ غواصتين تركيتين تواكبات تحرك المدمّرة الروسية، موسكوفا، بالقرب من شواطئ مدينة اللاذقية ردّت عليها روسيا بإرسال سفينة إمداد حربية عبرت مضيق الدردنيل رافقتها زوارق خفر السواحل التركية في رحلتها باتجاه الشواطئ السورية.
موسكو والناتو علاقة مضطربة
في العام 1997 عقدت سلسلة ترتيبات بين موسكو يلتسين وقيادة حلف الناتو أرست قواعد «اشتباك» جديدة بينهما خوّلت روسيا شغل مقعد المراقب في مداولات الحلف للحدّ من التوترات المستقبلية. لم تصمد العلاقات الودية أمام أيّ امتحان منذ ذلك الزمن بدءاً لأسباب تخصّ الحلف وقوّته الأساسية المتمثلة في الولايات المتحدة لمحاصرة واحتواء روسيا، دشنها بالتعدّي على دول الجوار الروسي، جورجيا، لإدامة النزيف في الجسد الروسي.
لحظة الافتراق البيّنة بينهما كان العدوان الغربي على ليبيا، 2011، والمناوشات المستمرة للحلف بالقرب من الحدود الإقليمية لروسيا: دول بحر البلطيق والجمهوريات السوفياتية السابقة. تصعيد حلف الناتو ضدّ روسيا لم يهدأ يوماً أحدثه جاء مؤخراً باعلان الحلف استعداده لضمّ «جمهورية الجبل الاسود» الى عضويته، مما عزز مشاعر القلق الروسية وتهديد موسكو باتخاذ «تدابير عقابية»، وفق تصريحات الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، لما تراه روسيا من «تمدّد البنية التحتية العسكرية للناتو شرقاً، لن يسفر إلا عن إجراءات عقابية من الجانب الروسي».
وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حذر أعضاء الحلف في شهر ايلول الماضي من التمدّد شرقاً، معتبراً الخطوة «خطأً، بل استفزازاً… وسياسة غير مسؤولة من شأنها تقويض الجهود لبناء نظام متساو وشراكة أمنية في اوروبا».
في هذا السياق تنظر موسكو الى حادث إسقاط قاذفتها سو-24 من قبل سلاح الجو التركي، كجزء من مخطط استهداف له أبعاد جيواستراتيجية، يستدعي الردّ عليه بحزم وحكمة.
تصعيد الناتو واجهته موسكو بتصعيد عسكري مماثل في القوة بإجرائها تجربة ناجحة على نظام صاروخي جديد، نودول، باستطاعته إسقاط الأقمار الاصطناعية العسكرية الأميركية في الفضاء الخارجي، باستغلاله نقاط ضعف بنيوية في تلك الأقمار. وأشدّ ما يخشاه الأميركيون قدرة موسكو على توجيه بضعة رؤوس متفجّرة لا تتعدّى 20 صاروخاً لتشلّ قدرة الأقمار الاصطناعية الأميركية للمهام الاستخبارية بالكامل، فضلاً عن تقويض حركة الملاحة الفضائية وإلحاق الضرر بتقنية الاتصالات المتطوّرة المستخدمة في أغراض عسكرية.
حقيقة أهداف واشنطن وحلفائها
يجمع الاخصائيون الأميركيون على النتائج الاولية للتدخل العسكري الروسي المباشر في سورية بأنه ضرب مخططات حلف الناتو في الصميم لناحية إدامة الصراع الدامي والحيلولة دون التوصل إلى حلّ سياسي، لا سيما انّ دخول أحدث الدفاعات الجوية إلى الأراضي السورية أضاع فرصة تركيا ودول الحلف بإنشاء «منطقة آمنة… او حظر للطيران في الشمال السوري.
ولا تفوتهم الإشارة الى تصميم القيادة الروسية الدخول في مواجهة عسكرية، ولو محسوبة، للدفاع عن مصالحها كما جرى في اوكرانيا وكما يجري الآن في سورية.
قرار الدخول في حرب جديدة ليس أيسر الخيارات بالنسبة للدول الاوروبية تحديداً، والتي «فرضت» عليها واشنطن اقتطاع مزيد من الموارد المالية لدعم ميزانياتها العسكرية بنسب متفاوتة، 2 الى 7 بالمائة، في ظلّ أزمات اقتصادية متجددة لن تكون اليونان حالة استثنائية بينها.
من الملاحظ تزايد الجدل السياسي في الداخل الأميركي وتناغم خطابه مع نزعة «احتواء» الأزمة في سورية وليس القضاء على الإرهاب كما يروّج إعلامياً. الثابت انّ واشنطن وحلفاءها في حلف الناتو ووكلاءها في الخليج العربي يجهدون في الإبقاء على تنظيم داعش ضمن حدود السيطرة عليه واستغلاله لإدامة النزيف السوري استعداداً للفرصة غير المرئية في إضعاف الدولة السورية وفي نفس الوقت تخشى الدول الغربية بشكل خاص إمداد التنظيم بأسلحة ومعدات تمكنه من فك قيود السيطرة عليه. اتخاذ موقف متوازن بين الخيارين أمر لا يحظى بإجماع حتى اللحظة.
الترجمة العملية لسياسة «الاحتواء» هي توفير الفرصة الضرورية للإدارة الأميركية بإلقاء سهام الاتهامات بعيداً عنها وإبعادها قدر الامكان عن إدامة اتهامها بالعجز او الفشل الأمني والاستراتيجي. اركان الإدارة الأميركية يدركون بوعي انّ مهمتهم تنحصر في إبقاء جذوة الازمة مفتوحة وتحت السيطرة، الى حين تسلّم الادارة المقبلة زمام السلطة في شهر كانون الثاني لعام 2017.
الأرضية الفكرية لصاحب القرار السياسي في واشنطن، مؤسسات وقوى ومصالح مختلفة، تنسج لحمتها ضمن معادلة «إدارة الصراع»، وليس حله بالضرورة إلا حينما يتطابق الحلّ مع المصالح الأميركية العليا، كما شهدنا في جهودها لتشظي دول البلقان وإغراقها بحرب دموية الى ان حانت فرصة اتخاذ قرارها بمفردها مع غياب الاتحاد السوفياتي عن المسرح الدولي، وإغراق روسيا – يلتسن بأزمات مفتعلة وانْ كان بعضها يجد مبرّرات اقتصادية واجتماعية.
تسابق الترسانات البحرية لدول حلف الناتو مجتمعة وروسيا في المقابل، في قلب الوطن العربي، ينذر بخروج الأزمة عن السيطرة وميل بعض القوى الفاعلة إلى ارتكاب خطأً ميداني يجرّ القوى الأخرى الى مواجهات مباشرة غير محمودة العواقب.