أميركا متعدّدة الوجه
ميلاز مقداد
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن خطاب أوباما المتعدد الوجه والمتناقض وكالعادة طلعت استنتاجات كثيرة اعتبر بعضها أن الإدارة الأميركية في حالة تناقض وارتباك، وتحدث بعض آخر عن صراع القوى في قلب الإدارة الأميركية بين حمائم وصقور. كما كثر الحديث في أوساط المحللين وصناع السياسة في الولايات المتحدة عن أن أوباما قائد ضعيف وعن حاجة الولايات المتحدة إلى قيادات قوية مثل جورج واشنطن وروزفلت وإيزنهاور. وثمة من يتحدث عن أوباما القائد صاحب الرؤية الصائبة والهادئة والحريصة على اتخاذ القرارات التي تضمن أمن الولايات المتحدة الأميركية وسلامتها، واعتبر آخرون ذلك انقساماً داخلياً يهدد الولايات المتحدة، فكتب بول جي ساوندرز في« ناشيونال إنترست» 21/5/2014 : «على أوباما أن يتجنب تغذية الانقسام الداخلي والصراع الحزبي، وفي حال لم يتنبه إلى هذه القضية قد يجازف في إيصال أميركا إلى حالة من السوء تكون فيها ضعيفة داخلياً وخارجياً نتيجة الانقسام في الداخل وسياسات عدم التورط في الخارج».
كي لا نصاب بالحيرة أو التردّد، يجب أن نعي أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية يعبر عن التوجه الاستراتيجي في حقبة سياسية مختلفة عن سابقاتها، فهو يعرف تماماً التحديات التي تواجه الولايات المتحدة من ضعف اقتصادي وأزمة مكانة عالمية، وهو المسؤول عن مرحلة انسحاب أميركا التدريجي عن عرشها كقطب واحد مهيمن إلى مجتمع دولي في حالة مخاض عسير لولادة مجتمع متعدد القطب. تقبل الولايات المتحدة مكرهة النزول من المرتبة الأولى مع فائض قوة عسكرية وحلفاء وأتباع ومأجورين، ما يحفزها على رسم الخرائط العالمية ولعب الدور الأكبر في قيادة الغرب في وجه القوى الطامحة والمنافسة على المسرح الدولي.
في المقابل، يدافع المحافظون الجدد عن سياستهم القائمة على الحروب والضربات الاستباقية والتشبّث بسياسة القطب الواحد، ومن يخالفهم الرأي ضعيف ومتردد وغير قادر على أن يكون سيد البيت الأبيض. وفي المقلب الأخر ثمة من يهندس لمرحلة إعادة ترتيب الأولويات السياسية والاقتصادية بدءاً بإنعاش الاقتصاد وانتهاج الحروب «القذرة»، حروب الوكالة التي لا تضع الولايات المتحدة وجهاً لوجه أمام كرات النار الملتهبة في العالم، وفي مقدم هؤلاء أوباما، بدءاً بالانسحاب من العراق وحصاد ما زرعته الإدارة السابقة في العراق من خلال «داعش» وبنات «القاعدة» وهو يتطلع إلى المزيد من الإرباك والفوضى لكلّ من يعوق استراتيجية انسحاب الولايات المتحدة الآمن وتطلعها إلى الأدوار الجديدة في عالم ترسم خرائطه مصالح متناقضة ولاعبون جدد وزحمة أدوار وطموحات جارفة.
لروسيا حصتها في الرمال المتحركة في أوكرانيا ومحيطها الأوروبي، وللصين مشاكلها التاريخية من أقلية الآغور الى قضية التيبت والخلافات على الحدود مع اليابان وفيتنام.
في المنطقة يمارس أوباما اللعبة السياسية البراغماتية التي لا علاقة لها بالقيم والأخلاق، من حقوق إنسان وديمقراطية، بل هي السياسة الاستعمارية الأميركية عينها القائمة على الأولويات الاستراتيجية من أربعينات القرن الفائت، أولها الحفاظ على احتكار تدفق النفط والغاز ونقلة وتوزيعه إلى العالم، بحضورها المباشر عبر قواعدها وأساطيلها والحكام التابعين، وثانياً أمن الكيان الصهيوني وسلامته عبر الحروب المباشرة في احتلال العراق وغير المباشرة عبر «إسرائيل».
الجديد في المنطقة اليوم هو تبدل الوكلاء لحماية «إسرائيل» بعد هزائمها المتكرّرة في لبنان وفلسطين. وبالتالي ما عجزت «إسرائيل» عن تحقيقه في المنطقة يؤديه بنجاح الإرهاب الوهابي من عصابات «القاعدة» ومرتزقتها، رغم إعلان أوباما في 29 -06- 2014 عن أنه متخوّف من خطر الجهاديين الأوروبيين ويحذر من انتقالهم إلى بلاده لارتكاب أعمال إرهابية فيها، ويلمح إلى ضرورة ضرب هذه المنظمات قبل الاعتداء على أميركا.
في هذا السياق، وقبل هذا الإعلان، يتكلم عن «دعابة» عدم وجود قوى معتدلة في المعارضة السورية قادرة على الانتصار على الرئيس بشار الأسد، وبعد أيام يطلب المال لدعم قوى الاعتدال في المعارضة السورية، فيبدو أوباما متناقضاً في حين أنه يلعب بالمضمون والممكن السياسي على الملفات بين يديه، فمذ بدأ حوار 5+1 مع إيران كان الأميركي حريصاً على لقاء الوفد المفاوض الإيراني لمناقشة جميع الملفات في المنطقة، من الملف النووي الى أمن «إسرائيل» والحرب في سورية والعراق وكان الجانب الإيراني يرفض ذلك بذكاء يسجل له.
ليس غريباً أن يكون تأخير توقيع الاتفاق مع إيران مرتبطاً بما يحدث في العراق، فالإدارة الأميركية تشعر بأنها سجلت نقاطاً في الصراع مع إيران بامتلاكها ورقة مهمة في الحرب على «داعش»،
كما أن المعركة ما زالت مفتوحة ويا للأسف وتُخاض بدماء أبناء المنطقة العربية، من فلسطين إلى لبنان فسورية والعراق، والهدف واحد، إحداث خريطة جديدة يكون فيها الكيان الصهيوني الأقوى كدولة لليهود في العالم، وإنشاء «دويلة الخلافة» وإمارات الطوائف المتقاتلة المتناحرة تحت شعارات الهويات الإثنية والطائفية فيشتبك العالم كله فيها ويخسر من نقاطه وتبقى الولايات المتحدة الأميركية الضامنة والمهيمنة على المنطقة.