معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 59… ما له وما عليه!
أحمد طيّ
«خير جليس في الأنام كتاب»، «الكتاب نافذة نتطلّع من خلالها إلى العالم»، «قيل لأرسطو: كيف تحكم على إنسان؟ فأجاب: أسأله كم كتاباً يقرأ وماذا يقرأ؟»، «الكتب ثروة العالم المخزونة وأفضل إرث للأجيال والأمم»، «خير لك أن تزخر مكتبتك بالكتب من أن تمتلئ محفظتك بالنقود»… مأثورات كثيرة قيلت وكُتبت في الكتاب والقراءة والمطالعة. ويبقى الكتاب أساس كل بيت، إذ إنّ البيت من دون كتاب، كالجسد من دون روح.
أما القراءة، فهي بوابة المعرفة، ونافذة الحياة والثقافة الواسعة الواعية بشؤون هذه الدنيا وشجونها، هي الينبوع الذي لا ينضب عطاءً وعلماً وفكراً وفلسفةً وفناً.
القراءة مدرسة الحياة وجامعة مفتوحة الأبواب للجديد، هي الرقي وثمرة الحضارة والتحضر الذي ينقل الإنسان من محيط صغير وضيّق، إلى المحيط الأكبر والأشمل. هي الهدوء والسكينة والحبّ والسلام للنفس، إضافة إلى أنها فرصة لنقل أفكار وإنتاج العقول النيّرة والمضيئة في حياة الشعوب التي سارت على طريق العلم والتطوير والإنتاج والعمل. القراءة عنوان عظيم للدخول إلى بوابات الفهم والوعي والإدراك بأهمية الحياة، وأهمية العقل والفكر والتفكر في شؤون هذه الدنيا.
الشعوب التي تقدّمت وبنت حضارتها وقوّتها، كانت القراءة إضافةً إلى الفكر والثقافة والحرّية الفكرية مفتاحها نحو التقدّم والرقي، لا بل إن كل من فهم الحياة وارتقى بوعيه وفكره، جاءت معرفته عبر القراءة الواعية في مجالات العلوم والمعارف الداعمة لحرّية الفكر والعقل.
من هنا، نعتبر أنّ المواظبة على تنظيم معرض بيروت العربي الدولي للكتاب على مدى أقل من ستّة عقود بسنة واحدة، إنجاز ينال عليه «النادي الثقافي العربي» علامة كاملة، ويستحق التحية في زمنٍ يغرق لبنان في مستنقع عميق القعر من الأزمات المالية والسياسية والاجتماعية والمعيشية والأمنية. والحق يقال، إن من ينظر إلى لبنان هذا الذي يعيش من دون رئيس للجمهورية، وحكومته شبه مشلولة، وقواته العسكرية والأمنية مشغولة في صدّ الإرهاب، والديون عليه تتزايد باضطراد، والمواطنون فيه انقسموا تلقائياً إلى طبقتين: فقيرة فقيرة وغنية غنية… من يشاهد لبنان هذا وسط هذه المعمعة، حتماً سيصاب بالذهول كيف أنّه ينظّم معرضاً دولياً للكتاب، يستقطب مئات الناشرين من عشرات الدول، ويزوره يومياً آلاف الزوّار، وينجح على رغم كلّ من احترف النقد لأجل النقد فقط.
في هذا التقرير، نحاول ـ وبكلّ تواضع ـ أن نسلّط الضوء على أبرز ما ميّز معرض بيروت للكتاب بنسخته التاسعة والخمسين عن نُسخه السابقة وعن غيره من المعارض العربية، كما سنذكر بعض ما شابه من سقطات، علّ القيّمين على المعرض يتفادونها مستقبلاً… فلا ضير إن وصلنا إلى صفر أخطاء ومشاكل.
لا شكّ في أن مجرّد تنظيم المعرض في ظلّ كل ما يشهده لبنان ومحيطه من خضّات أمنية، يعدّ إنجازاً بحدّ ذاته. وهنا، نرى أنّه يتوجّب علينا كإعلاميين سجّلوا على مدى 14 يوماً ما شاهدوه من حركة فاعلة لأعضاء «النادي الثقافي العربي» وموظّفيه والمتطوّعين فيه، إلا أن نوجّه لهم تحية كبيرة عربون تقدير يستحقونه.
فلقد كان هؤلاء خلية نحل فاعلة متفاعلة، بدءاً من اليوم الأول، وبدءاً من رئيس النادي سميح البابا، مروراً بمدير المعرض فادي تميم والناشط دائماً الدكتور عدنان حمود، وصولاً إلى الموظّفين الذين كانوا ينبرون دائماً لمساعدة والزوار، وتقديم المعونة للناشرين.
جلّ ما شدّ انتباهي، اهتمام الدكتور عدنان حمّود الدائم بالأطفال وتلامذة المدارس، إذ إنّه كان يتخلّى عن كلّ مظاهر البيروقراطية: احتساء القهوة مع عددٍ من المتظاهرين بالثقافة… وما إلى ذلك، فتجده منتظراً الطلاب عند مدخل المعرض، عاملاً على تنسيق دخولهم، ومساعدتهم في إرشادهم إلى أيّ جناح يريدون التوجّه، كما أنّه كان حريصاً جدّاً على تسجيل اسم المدرسة وعدد الطلاب لإنجاز إحصاء ما لاحقاً.
كم كان نوّاراً وجهه عندما كنّا نقصده بطلب قاعة لأننا سنستقبل عدداً كبيراً من الطلاب. كان يجيبنا مقاطعاً: «أطفال، تلامذة مدارس، خذوا ما تريدون، القاعة لكم»، لا بل أنّه كان يستدعي أحد الموظّفين كي يساعدنا.
المكتب الإعلامي
كما أن حركة المكتب الإعلامي، المؤلّف من فريق متكامل، يجوب أرجاء المعرض باستمرار، مطّلعاً على أنشطة دور النشر وحفلات توقيع الكتب، وموثقاً بالكلمة والصورة الفعاليات المرافقة من ندوات وأمسات شعرية وموسيقية، ولقاءات للطلاب مع الحكواتيين ومؤلفي القصص. كل ذلك، يشدّنا لأن نحيّي هذا الفريق على تلك الجهود.
الفعاليات
لا شكّ في أنّ معرض بيروت للكتاب هذه السنة، شهد عدداً كبيراً من الندوات التثقيفية، سياسية وفكرية وأدبية، كما شهد محاضرات لمناقشة عدد من الكتب البارزة. وقياساً بالسنوات الماضية، لاحظنا ازدياد عدد هذه الفعاليات، إذ لم يمر يوم إلّا ونُظّمت فيه أكثر من ثلاث ندوات على الأقل.
الأطفال
كما ذكرنا في تقرير سابق، أنّ الأطفال كانوا هذه السنة أيقونة المعرض، سواء من حيث حضورهم الكثيف، أو من حيث الكتب الموجّهة إليهم، والنشاطات التي حضروها. وإذ نترك للنادي الثقافي العربي الحديث عن إحصاء شبه دقيق لعدد الأطفال من تلامذة المدارس الذين زاروا المعرض هذه السنة، فإننا نجزم أن العدد كان كبيراً… كبيراً جدّاً.
وإذا انبرى أحدهم وقال إنّ النجاح لا يقاس بالكمّ إنما بالنوع أو عدد الأطفال الذين استفادوا من تنظيم المعرض، فنقول: إن ما شاهدته العين هذه السنة كان سامياً إلى أبعد الحدود. فقد واجهنا قلّة قليلة من الأطفال المتذمرين الذين زاروا المعرض رغماً عنهم، ولم يبالوا بكتاب ولا بنشاط. بينما السواد الأعظم من الأطفال أبهرنا. أطفال هنا ينهمرون كالمطر على جناح دار نشر مخصصة للأطفال، يعبثون بالكتب كيفا يحلو لهم ليختاروا ما رست عليه أذواقهم. بينما يتباهى طفل أنّه اشترى أكثر من كتاب، ويفتخر آخر بأنّه انتقى الكتاب الأفضل. وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما سمعنا بعض الأطفال يتهامسون: «هذا الكتاب قرأته السنة الماضية… إنّه رائع!».
نقاط ضعف لا بدّ من تجاوزها
وسط هذا النجاح الباهر الذي شهده المعرض هذه السنة، كانت لنا ملاحظات عدّة، حول عدد من نقاط الضعف التي لا بدّ من تجاوزها مستقبلاً، كي تبقى بيروت عاصمة الكتاب الأبدية.
من هذه الملاحظات، الإصرار على قبول «شركات» تتستّر خلف اسم «دار نشر»، بينما هي تبيع الألعاب… الألعاب فقط. نحن لسنا ضدّ الألعاب، ولا ضدّ دورها في تعليم الطفل، لكن مجرّد وجودها في معرض للكتاب، يصرف أنظار الأطفال عن الكتاب. وكم هي الجهود جبارة لجعل الطفل متعلّقاً بالكتاب. فماذا سيحصل إذا وضعنا ألعاباً أمامه.
لسنا هنا مع قطع الأرزاق، ولسنا ضدّ سياسة الربح. فكل دار نشر تهدف إلى الربح، لكن هذا الهدف ترافقه أهداف أخرى تتعلّق بسياسة الدار التربوية والأدبية.
ويا ليت الأمر توقّف على الألعاب فقط، إذ إن «شركات تجارية»، عمدت إلى بيع البالونات! نعم البالونات، وألعاب أخرى لا تمتّ إلى التربية والتعلّم بِصلة، ولا يمكن إدراجها تحت مسمّى «وسائط تربوية».
ومن الملاحظات أيضاً، الطريقة التي تعامل بها موظّفو «الفالي باركينغ» مع زوار المعرض. إذ كانوا يعمدون إلى المحاولة لاقتناص «الزبائن» لتحقيق أرباح طائلة أحياناً، وإلى مضايقة الزوّار أحياناً أخرى كرفع الصوت والنهر وحتّى «الخبيط» على السيارة. فمن يراهم في تلك الحالة يظنّ أنّهم من القوى الأمنية… عيب!
وأيضاًَ، وبالعودة إلى الأطفال والتلامذة، فما لاحظناه أنّ غالبية المدارس التي زارت المعرض مدارس خاصة. وذلك بصراحة مرتبط بقدرة التلميذ ـ وأهله ـ على شراء الكتب. وسط شبه غياب للمدرسة الرسمية. هنا نورد اقتراحاً: حبّذا لو أن إدارة النادي الثقافي العربي، تتوصل إلى اتفاق مع وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، لتنظيم زيارة المدارس الرسمية للمعرض، ويُتّفق مع دور النشر على إجراء حسومات خاصة لطلبة هذه المدارس.
كلمة أخيرة
يبقى أن نقول، إنّنا في «البناء»، وفي صفحة «ثقافة وفنون» تحديداً، نشدّ على أيدي القيمين على النادي الثقافي العربي، وعلى أصحاب دور النشر، والمؤلفين والشعراء والباحثين، وكلّ من تربطه علاقة عشق بالكتاب. ونعلن أن «البناء» منبر مفتوح لأي نقاش فكريّ أدبيّ، علّنا نرتقي بالوطن إلى المراتب التي يستحقّها. وكلّ معرض كتاب وأنتم بخير!
معرض الكتاب
كلّ سنة، تعيش بيروت موسماً ذهبياً للفكر والثقافة والشعر، ويتحوّل معرض الكتاب إلى عرس سنويّ تسترجع فيه المدينة العريقة شيئاً يشبهها، بعيداً عن تقاليد تنابل السلطان. فيوقّع العشرات إصداراتهم الجديدة، وتبرز مواهب واعدة، ويكتب مخضرمون سِيراً وأبحاثاً تختزن أعماراً لهم أو لأوطان أو لأحداث. ومع السمين غث واستعراض مدفوع، ويحضر الناس ويتدافعون. ومع الحضور كثير من نفاق الاجتماعيات وأكذوبة المثقفين الذين يشترون كتباً لا يقرأونها، ويحصدون صوَراً تذكارية لا يشبهونها. لكنه يبقى الحدث الاحتفالي الأهمّ الذي يليق بعاصمة الكتاب والحرف.
وقد نجحت «البناء» هذا الموسم بالتميّز في منح المعرض تغطية وحضوراً لائقين بإمكانيات متواضعة، متمثلة بحضور الزميل أحمد طي المشرف المنسّق للصفحة الثقافية وحركته، وهو المشارك النشيط في المعرض ككاتب وناشر، ومعه الزميلة النشيطة الواعدة لمى نوّام التي قامت بتغطية أنشطة المعرض وما رافقه من أحداث ثقافية، وواكبتها بحوارات ومقابلات.
«البناء» تفخر بما قدّمت، وتشد على أيدي الزميلين لصحافة جادّة تجدّ نحوها «البناء» في زمن تنابل السلاطين.
ناصر قنديل