تركيا والخيارات المُرّة
إنعام خروبي
حين قامت تركيا بإسقاط طائرة «سوخوي ـ 24» الروسية فوق سورية، اختارت موسكو الردّ في الجانب الأكثر إيلاماً، ألا وهو الجانب الاقتصادي. ورغم أنّ الرئيس الروسي أكد أنّ ردّ بلاده في هذا المجال لن يقتصر على «سلاح العقوبات» الاقتصادية، فمن شأن هذه العقوبات أن تنعكس ارتدادات داخلية على «سلطنة» رجب طيب أردوغان، وهو الذي يعتبر أنّ نقل الاقتصاد التركي من حالة شبه الركود إلى النمو والتوسع الكبير خلال العقد الماضي، أحد أهم إنجازاته. أما وبعد تلاشي بريق سياسة «صفر مشاكل»، على المستوى السياسي، مع تحول أنقرة إلى اللعب بالنار في سورية والعراق وغيرها، يبدو بريق تلك السياسات على المستوى الاقتصادي على المحك أيضاً، ولا سيما مع افتعال توترات مع دول عدة مثل العراق وإيران وروسيا.
منذ أيام، خرج رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو ليتحدث عن عقوبات في حقّ روسيا «إذا اقتضت الحاجة»، وكان واضحاً أنه تجنب استخدام أي تعبير قد يُفهم على أنه تهديد. وكان أوغلو قال في تصريح سابق إنّ تركيا لن تكون «في وضع صعب بسبب مثل هذه الأمور»، مضيفاً أنّ حكومة بلاده تحضر «خططاً بديلة».
وفي ما يتعلق بالخيارات المُتاحة أمام أنقرة في حال قررت فرض عقوبات مضادّة ضدّ موسكو، يرى متابعون أنه قد يكون في يد أنقرة مجموعة من الأوراق يمكن أن تضغط بها على موسكو، لكنّ الأخيرة سبق أن استخدمت أقوى وأخطر هذه الأوراق بتعليقها الكامل لمشروع خط أنابيب غاز السيل التركي «تركيش ستريم».
ويبدو أنّ تركيا تفكر في اللجوء إلى خيارات أخرى مثل تعليق أو إلغاء الاتفاقيات التاريخية، مثل اتفاقية «مونترو» الموقعة عام 1936 وهي الاتفاقية التي ترعى وتنظم حركة العبور البحري في مضيقي البوسفور والدردنيل، وهو ما ألمح إليه المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية تانجو بيلغيتش، حين أعلنّ أنّ تركيا ليس لديها أي خطط لإعادة النظر في أحكام الاتفاقية المذكورة، بشأن قواعد الملاحة في مضيق البوسفور والدردنيل، ولكن «اعتماداً على التطورات قد تصبح المعاهدة موضوعاً للدراسة».
وتمنح تلك الاتفاقية تركيا سلطة محدَّدة على المضيقين وتلزمها السماح لكلّ السفن التجارية بالمرور من خلال مدينة اسطنبول، كما تتمتع السفن الحربية العائدة للدول المتشاطئة للبحر الأسود بحرية العبور. ويمثل مضيقا البوسفور والدردنيل الممر الوحيد للبحرية الروسية من البحر الأسود وإليه والمعبر الإلزامي لجزء كبير من التجارة الخارجية البحرية لروسيا وفي مقدمها صادرات القمح وواردات الخضار والفواكه. وإذا كانت إطاحة اتفاقية «مونترو» تمثل خطراً حقيقياً على الاقتصاد الروسي إلا أنها تبدو خطوة باتجاه إعلان الحرب على روسيا ومعها تنهار اتفاقات أخرى منها معاهدة «قارص» الموقعة العام 1921 واتفاقية «أضنة» بملحقاتها السرية، ما يعني نزع الشرعية من سيطرة أنقرة على 30 في المئة من أراضي الدولة التركية الحالية.
وإذا كان لـ«الحرب الاقتصادية» بين روسيا وتركيا عواقبها الوخيمة على صعيد العلاقات، فلا شك في أنّ اتجاه الأمور نحو مواجهة عسكرية سوف يخرج الأمر من سياقاته الثنائية وسينعكس ليس فقط على الأمن الإقليمي، بل والدولي أيضاً، في ضوء انخراط الطرفين في تحالفات متباينة وتواجههما في ساحات مختلفة بالوكالة. وهذا ما يجعل الحذر سيد الموقف تجاه اتخاذ قرارات تصعيدية غير مدروسة.
وتشهد العلاقات بين موسكو وأنقرة أسوأ أزمة ديبلوماسية لها منذ الحرب الباردة، بعد إسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني الماضي. وكانت موسكو أعلنت عقوبات بحق تركيا استهدفت بشكل أساسي السياحة والزراعة والطاقة والمقاولات والأشغال العامة. ويمكن أن تكلف تركيا هذه العقوبات تسعة مليارات دولار، بحسب تقديرات رسمية تركية.
ورغم التوتر المتبادل مع موسكو، ضاعفت أنقرة منذ بداية الأزمة تصريحاتها المهدئة إزاء روسيا مبدية الاستعداد للحوار. وأكد رئيس الوزراء التركي «أننا مستعدون لأي نوع من اللقاء وتبادل الآراء مع روسيا .. لكننا لن نسمح أبداً أن يُملى علينا أي شيء».
في رأي الكثير من الخبراء، فمن بين الدول العشر المجاورة لتركيا، هناك دولة واحدة فقط تخشاها أنقرة فعلياً، وهي: روسيا. وبحسب هؤلاء، تعود جذور هذه الهواجس في التاريخ إلى الإمبراطورية العثمانية، وإلى مرحلة تاريخية ما، حكم الأتراك العثمانيون جميع الدول الحديثة المجاورة لتركيا أو ألحقوا بها الهزيمة باستثناء روسيا. وفي الفترة ما بين القرن الخامس عشر، أي عندما أصبحت الإمبراطوريتان العثمانية والروسية جارتين، والعام 1917، وهو عام الثورة البلشفية، خاضت الإمبراطوريتان سبع عشرة حرباً طويلة، فاز فيها الروس إجمالاً. وبالتالي، تحرص معظم النخب التركية على تجنب تصعيد الأزمة الحالية.
من غير الواضح حتى الآن إلى أين ستتجه العلاقات التركية ـ الروسية، لكنّ تصريحات أردوغان «العنترية» تجاه روسيا وإيران و«عراضاته» العسكرية في العراق قبل أيام لهي دليل على تخبّط «السلطان» الذي لم يعد قادراً على اللعب من خلف الستار بعدما رأى أحلامه التوسُّعية على ظهر «داعش» وغيره قد استحالت أوهاماً، ولا سيما بعد تشديد الحملة الدولية على التنظيم الإرهابي الذي رعاه طويلاً. أما في موسكو، فهناك مَن يطرح «الخيار النووي» للتلويح به في المعركة مع أنقرة، فيما يطرح البعض الآخر سلاح دعم التنظيمات الكردية، باعتباره سلاحاً أفعل وبكلفة أقلّ تكاد تكون صفراً.
العلاقات التركية ـ الروسية مرشحة لسيناريوات مختلفة، لكنّ الفرق أنّ روسيا مستعدة للدفع من اقتصادها على مذبح السياسة، فيما لا تبدو تركيا كذلك، ولا سيما أنّ الاقتصاد كان الهمّ الأساس للأتراك حين صوَّتوا لحزب أردوغان في الانتخابات التشريعية الأخيرة.