دير مار موسى الحبشي… أيقونة يحتضنها القلمون السوريّ
لورا محمود
تنتشر الكنائس والأديرة المسيحية على كامل الجغرافيا السورية، وتُعتبر جزءاً من المشهد الثقافي التراثي في سورية، إذ صنّفتها منظمة «يونيسكو» ضمن قائمة التراث العالمي.
واليوم، نتيجة ما تعرّضت له سورية من إرهاب، تواجه هذه المعالم الأثرية خطراً كبيراً، لا سيما على قيمتها التاريخية، إذ تتعرّض هذه المعالم الآثرية للنهب والتخريب من قبل المجموعات الإرهابية، وأيضاً من قبل تجّار الآثار.
ومن أهمّ هذه المعالم، دير مار موسى الحبشي، الذي يُعتبر من الأديرة المشهورة في العالم.
الموقع والتسمية
يقع الدير شرق مدينة النبك، في وادٍ وعر من وديان سلسلة جبال القلمون، قرب الجبل الكبير جبل المدخن ، على بعد ثمانين كيلومتراً إلى الشمال من دمشق، و15 كيلومتراً عن مدينة النبك. يتميّز هذا الدير بمدخله الحجري القديم، وبمقام القدّيس جاورجيوس، وبأيقوناته البيزنطية التي ترقى إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين.
أما سبب تسمية الدير بهذا الاسم، فتقول الأساطير إنه إلى هذه الوديان، وصل الناسك موسى الحبشي، وحطّ رحاله الأخيرة بعد رحلة تعبّد وتنسّك بدأت منذ هروبه من منزل والديه ليلة زفافه، إذ كان ابناً لملك من ملوك الحبشة. أراد أبوه أن يزوّجه وأن يعدّه لخلافته على العرش، فرفض وهرب تاركاً البلاط الملكي في الحبشة، وقاصداً البراري والصحارى، باحثاً عن نسّاك يتدرب على أيديهم ويعتكف معهم متعبّداً. فوصل بادئ الأمر إلى صحارى صعيد مصر، وأقام في أحد أديرتها. ومن هناك، قصد بيت المقدس ثم بلاد الشام حتى جاء إلى بلدة قارة في دير مار يعقوب المقطع.
عاش موسى الحبشي هناك حياة الزهد حتى هجر الدير متوجّهاً إلى كهف صخريّ في وادي المغر في الجبل المدخن، إلى جوار مدينة النبك، حيث أقيم ديره المعروف بِاسمه «دير مار موسى الحبشي».
وأثناء هجوم هرقل أحد أباطرة بيزنطا عام 640 ميلادياً على الأديرة التي تتبع التعليم الأرثوذكسي، قُتل الرهبان ومن بينهم مار موسى الحبشي.
عندما علم ملك الحبشة باستشهاد ابنه، جاء متخفياً إلى النبك وزار قبره. وأثناء ذلك شاهد أن إبهام يد ابنه منفصلة عن جسده، فأمر بإحضار البنّائين وشيّدوا ديراً فوق معبد ابنه، وظلت إصبع مار موسى محفوظةً في كنيسة الدير ليتبارك المؤمنون بها حتى سنة 1940 ميلادياً، حيث نُقلت الإصبع إلى كنيسة السريان في النبك.
لمحة تاريخية
شيّد الدير في القرن السادس، ثمّ جُدّد عام 1556 ميلادياً. كان الدير في بادئ الأمر عبارة عن قلعة رومانية صغيرة فيها برج صغير وسور يقع غرب الدير وهما من الطراز الروماني، مع وجود بعض الأحجار الكبيرة جداً والتي توحي بأنّ العمل هناك كان ضخماً، وقد توفرت له إمكانيات بشرية ومادية.
كان دير مار موسى منذ أن أُسّس تابعاً للكنيسة السريانية الأرثوذكسية، ويقصده المؤمنون والفنانون وعشّاق الجداريات لما فيه من كنوز جدارية ونقوش فنية رائعة الجمال، تتزين بها حوائط الدير.
لدير مار موسى مكانة عالية في منطقة القلمون، نظراً إلى صلته بأديرة القدس. ونجد إثباتاً على ذلك، متمثلاً في ما عُثر عليه من مخطوطات ونصوص من القرنين الثالث عشر والرابع عشر، تؤكد لنا أهمية الدير وموقعه بالنسبة إلى كنيسة السريان الأرثوذكس.
ويُذكر أن الرهبان في دير مار موسى في مسيرة حياتهم الروحية، كانوا ينتهجون نظام «لافرا»، الذي كان الرهبان في أديرة فلسطين ينتهجونه. و«لافرا» كلمة يونانية تعني الطريق الصغير، لكنه اتّخذ مع الرهبان معنى الدير المؤلف من كنيسة ومكان اجتماع.
المعالم الأثرية في الدير
يتألف الدير حالياً من البناء القديم الأساسي الذي يضمّ الكنيسة إضافة إلى متحف غنيّ باللقى الأثرية والمكتشفات التي تعود إلى عصور قديمة جداً. كما يضمّ أيضاً بناءين جديدين، أحدهما يُستخدَم كغرف نوم للزوّار والرهبان والآخر يتضمّن كنيسة صغيرة هي في الأصل كهفٌ متطاولٌ حفرته الطبيعة في عمق الصخر، إضافة إلى قاعة للقاءات وعقد الندوات العلمية والثقافية، وأيضاً هناك مكتبة كبيرة تحتوي على كنوز وكتابات تراثية ومخطوطات نادرة وكتباً متنوعة، وهي ضخمة ويعود غناها في المراجع إلى وجود الرهبان والمتعبدين الذين عملوا بكلّ همة ونشاط على نسخ كلّ ما هو غال ونفيس وتأليفه، فأغنوا مكتبة الدير والكنيسة بالكتب الثمينة منها الدينية ومنها التاريخية.
من القطع المهمة التي اكتشفت في الدير، بعض الأواني الفخارية متعدّدة الأشكال والأحجام، وعليها تزيينات هندسية على شكل مثلثات ومربعات متعارضة، وأباريق بأعناق طويلة ومختلفة الأحجام والمقاسات .
لدير مار موسى الحبشي كنيسة جميلة تعلو بابها صلبان منقوشة، إذ يعود بناء الكنيسة إلى منتصف القرن الحادي عشر، كما تثبت ذلك بعض النقوش الموجودة على الجدران. ويعود نقش الصلبان على الأعمدة والجدران إلى التاريخ نفسه وتمثّل في غالبيتها صليب النور.
زينت جدران الكنيسة صور من نمط الفريسكو، رُسمت فوق بعضها في ثلاث طبقات: الطبقة الأولى عبارة عن رسومات يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر، وأبرز ما ظهر منها مشهد معمودية يسوع على يد يوحنا المعمدان، وإلى جانبه نجد صور سمعان العمودي. وتتميز رسومات الطبقة الثانية برهافة الحسّ الفنّي الروحاني وبالأسلوب المتبع، فيعكس تأثير تطوّر الفنّ البيزنطي في المنطقة. أما الطبقة الثالثة فهي عبارة عن رسومات يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر وتتميّز هذه الطبقة برسومات تحمل الطابع السرياني الأصيل وبالكتابات السريانية وبالبساطة في الألوان أيضاً.
تزين حوائط كنيسة مار موسى الحبشي صورٌ وجداريات ذات المعنى اللاهوتي الواضح، مثل صورة الشارة التي يظهر فيها شروق الشمس المشيرة إلى السيد المسيح، وصور الرسولين بطرس وبولس، وصورة الإنجيليين الأربعة متّى، مرقس، يوحنا، ولوقا .
ظلّ دير مار موسى الحبشي مزدهراً منذ تأسيسه حتى القرن الثامن عشر، والدليل على ذلك بعض المخطوطات والوثائق التي وجدت في الدير في تلك الفترة. كما أننا نجد أيقونات تحمل صورة مار موسى الحبشي وكأنه فارس يمتطي حصاناً أحمر اللون.
يذكر أنه في شباط من عام 2012، وبهدف تخريب معالم الدير ومقتنياته، اقتحم عشرات المسلحين موقع مواشي الدير، فقلب هؤلاء المسلحون الموقع رأساً على عقب سائلين عن الأب المسؤول، وأوقفوا أربعاً من الراهبات بينما كنّ يتهيّأنَ للنزول إلى الصلاة، ووضعوهنّ معاً في غرفةٍ تحت المراقبة وخرّبوا ما وجدوه من أدوات الاتصال.