«داعش» وأخواتها… بين فرضيّة «الأيديولوجيا» وواقع «الاستعمال»

خالد العبود

لا نعتقد أنّ «داعشاً» تمتلك نسقاً فكرياً واضحاً أو محدّداً، أو أنّها ناتج «أيديولوجيا» واحدة متناسقة أو حتى مترابطة، أو حتى أنّها ذات مشروع سياسيّ واضح جليّ، على رغم تهيّؤات محاولات توحيد الجغرافيا بين العراق وسورية، وعلى رغم أحلام «دولة الخلافة».

تقوم «داعش» في ظلّ فوضى مصنوعة أو مشغول عليها، وفي ظلّ تغييب للدولة ومؤسساتها، إذ تحاول أنساق مجتمعية أن تخرج على سلطة الدولة الزاجرة والكابحة، أو قل هكذا تفهم الأمور في أدنى حالاتها وقراءاتها المعرفية، باعتبار أنّ أنساقاً اجتماعية ومعرفية معينة، وبخاصة ذات المستويات المتدنية في المجتمع، ترى أنّ الدولة من خلال مؤسساتها هي صاحبة السلطة الزاجرة، لجميع العناوين والمفاهيم…

إنّ محاولات التحريض والتجييش الطائفي التي دفعت في اتجاه استيقاظ عناوين تاريخية أضحت خارج النطاق الحيوي لفعل العقل، أدت إلى إيجاد بيئة مناسبة لظهور أولويات جديدة تجاوزت أولويات بيئة مجتمع الدولة واستقرارها، إذ كان مطلوباً أن يصبح المشهد خارج المجال الحيوي للعقل كي يغدو التعامل معه غير عقليّ، لذلك كان لا بدّ من إنشاء أولويات جديدة لأبناء المنطقة، من خلال إنشاء مناخ جديد يقوم على رئيسيات تتجاوز رئيسيات الدولة والسلطة القائمتين سابقاً، ولا يمكن أن يحدث هذا من غير رافعة حضور ووجود، وفي مثل هذه الحالات والبنى المجتمعية لا بدّ من أن تتقدّم مجموعات ضامنة لمثل ذلك قادرة على أن تثقّل المشهد بهذا الاتجاه، ولهذه الغاية أُعيد إنتاج الصيغة المجتمعية وفق معايير غير مستقرة، فظهرت، أو ظُهّرت، أنساق مجتمعية جديدة كانت ذات مستوى معرفي وأخلاقي مشوب، إذ كانت تعبّر عن قاع المجتمع وليس سطحه، ولذلك ظهرت حالات تهريب السجناء من بعض سجون العراق في الأشهر القليلة الماضية، ولذلك خرجت، أو أُخْرجت، أعداد كبيرة من السجناء القادرين على التأسيس للمادة الرئيسية لهذا المشهد!

إذاً، توافرت رافعة المشهد الذي سيشكل كينونة الحالة التي سيعبَّر عنها «داعشياً»، باعتبار أنّ الرافعة والمادة الأساسية توافرت، كما أنّ مستوى العقل القائم على أساس «ماضوي» لا يخضع في مناقشته لرئيسيات العقل المنطقية والطبيعية وأدواتها، ثم توافرت المنصات القادرة على إعادة إنتاج تلك العناوين التي تخلصت من سلطة الدولة وزجرها لها وتظهيرها…

في ظلّ استحضار الأسباب الرئيسية لظهور الحالة «الداعشية»، وأخواتها الأخريات، كانت هناك أجهزة استخبارات ومراكز أبحاث ووسائل إعلام مهمة تدفع في اتجاه تظهير هذه الحالة، وكان مطلوباً أن تكون مادة الحالة الجديدة تلك الأنساق المجتمعية الجديدة، إذ كان مطلوباً منها أن تحدث هذا الخلل الكبير في مشهد الاستقرار الكلي لتلك المنطقة، في ظلّ الدفع في اتجاه تغييب الدولة، كي يكون الأثر، أو الآثار، مباشرة وواضحة، فيغيب الفعل العقلي الجمعي لمجتمع الدولة ذاته!

السؤال الأخير: هل كانت «داعش» وأخواتها تعبيراً حقيقياً عن أنساق مجتمعية طبيعية في ظلّ صعود مفهوم الدولة، قولاً واحداً هي أنساق ليست طبيعية، لكنّها شُكّلتْ في ظلّ ظروف أريدَ لها أن تكون طبيعية، فتمّ التحضير لموادها الأولية جيداً؟!

من هنا يمكننا القول إنّ «داعش» وأخواتها تمّ الاشتغال عليها بغية استعمالها استعمالا موقتاً، واستعمالاً موضعيّاً، محدّد الزمان والمكان، في جغرافيا معيّنة لا تتجاوز هلالاً نعتَهُ البعض بأنه «شيعيّ» ووصفناه بالمقاوم، وكان مطلوباً أن يتمّ النيل من هذا «الهلال»، ولا يمكن أن يتمّ النيل منه إلاّ بمشاغلته بهذه المادة السامة القاتلة التي يمكن أن تنتج لديه أولويات تخرجه من قدرته على المقاومة أو قل على الصمود.

كانت الولايات المتحدة تدرك جيداً أنّ قدرتها شبه معدومة على المواجهة الميدانية المباشرة لقوة صاعدة على مستوى المنطقة. هذه القوة تجاوزت عناوين أساسية فيها، فكان الأوفر لها أن تنزاح باتجاه هذا السيناريو، إذ نعتقد أنها كانت وراء التحضير جيداً لمثل هذه الحالة التي دفعت في اتجاهها. كما أنّ قوى إقليمية في مقدّمها «مملكة آل سعود» لم يكن في وسعها الدخول على مشهد التسويات الكبيرة التي ستحصل في ظلّ تحوّلات مهمة ورئيسية في المنطقة، من دون تلك المشاغلة وهذا السيناريو، لكونها تدرك جيداً أنها ستكون خارج تلك التسويات الكبرى والرئيسية، فكان لا بدّ من إعادة إنتاج ذاتها في مشهد المنطقة الكلي، فلم يكن أمامها إلا أن تستثمر في هذا الحريق الكبير للمنطقة، على نحو أكبر وأوسع، وتدفع به في اتجاه مساحات وعناوين جديدة، بغية التفاوض عليه، باعتبار أنها أضحت تمتلك مساحات مهمة فيه ومنه.

من هنا يمكننا القول إنّ «داعش» وأخواتها كانت مادة استعمال دفعتها وشكلتها «مطابخ استخبارات» مشتركة، «إسرائيلية» وسعودية وتركية وقطرية، كون هذه الدول مجتمعة ترى ذاتها غير قادرة على أن تكون على طاولة التأثير والحضور في خريطة أمنية سياسية صاعدة للمنطقة من دون استثمار حقيقي في الحريق الكلي لها!

أمين سرّ مجلس الشعب السوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى