كيف تقود واشنطن حربها الإعلامية على موسكو؟

علي عوباني

حرب طاحنة تقودها واشنطن على موسكو في الفضاء الإعلامي، حرب تحوّلت فيها الشاشات والوكالات والشبكات العنكبوتية وكلّ المنظومات الإعلامية، بالأحابيل الشيطانية إلى قذائف وقنابل، تفوق قرقعتها ما يجري في الساحات والميادين الساخنة. حرب سُخرت لها دول وأحلاف و«كانتونات»، وأعدت لها سيناريوات خيالية وأفلام دعائية «هوليودية»، حضر فيها نموذج «رامبو» الجندي الأميركي الأسطورة، وفي كواليسها بدت جلية لمسات «مردوخ» الصهيوني و«غوبلز» النازي، حرب جيشت لها وسائل وإمكانات طائلة والهدف منها واحد «غسل الأدمغة»، والسيطرة على عقول البشر وجعلها رهينة سياسات تآمرية وتقسيمية و«سايكس بيكو» جديد ليس في المنطقة فحسب بل في العالم أجمع.

ربما لم تكن الشرارة الأولى للحرب الإعلامية الدائرة، انطلاقة الضربات الجوية الروسية في سورية، لكنّ التطور المستجد، ربما كان سبباً في تسعيرها وتغذيتها، بعدما أعطت تلك الضربات دفعاً معنوياً لحلفاء المحور الروسي، وأحدثت خضة قوية في صفوف أعدائه، فأبقتهم أسبوعين كاملين في ضياع وتخبط، حتى أعادوا لململة صفوفهم واستعادوا توازنهم، بعدما بدت الخشية واضحة ممّا قد يفرضه ذلك المستجد من معادلات جديدة، في أي تسوية سياسية قادمة، من شأنها أن تذهب كلّ الجهود الجبارة لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد أدراج الرياح.

ففي ظلّ انسداد أفق المواجهة وانعدام خيارات الإدارة الأميركية، لجأت الأخيرة إلى شنّ حرب إعلامية فضائية مبرمجة، في محاولة من جهة للإيحاء بامتلاكها زمام المبادرة على الأرض وفي الميدان، وبهدف التشويش، وتنفيس الزخم الروسي، واحتواء اندفاعته، تمهيداً لمحاصرة دوره، من خلال كبح معنويات الخصوم، ومن جهة ثانية، لرفع معنويات الحلفاء على الأرض خشية انهيارهم السريع بعد الضربات القاسية التي تلقوها، وهو ما استدعى من البيت الأبيض بثّ جرعات متتالية متتابعة من الأمل، أوحت بداية الأمر بوجود خيارات أميركية لم تستخدم بعد رغم التعقيدات الطارئة والمستجدة، للدفع باتجاه مواصلة الرهان على الإدارة الأميركية، ورسالتها واضحة في هذا الشأن بأنها لن تنسحب من المعركة في سورية لصالح روسيا.

وفي هذا المضمار، يمكن أن نضع الكم الهائل من التسريبات الإعلامية الأميركية التي توحي بعظمة وقوة أميركا وقدرتها على التأثير في المعطيات الميدانية، وعلى قلب الموازين على الأرض رأساً على عقب، حتى في ظلّ النزول الروسي المباشر إلى الميدان السوري، وذلك في مسعى أميركي واضح إلى تصدُّر مواجهة «داعش»، وإن من بوابة الصدارة الإعلامية، أكثر منه اتخاذ إجراءات فعلية وجدية. من هنا بدأنا نسمع كلاماً عن مخططات واستراتيجيات جديدة في مواجهة «داعش»، وعن عدد الطلعات الجوية الأميركية في مواجهة هذا التنظيم، وهو ما يحمل في وجهه الآخر تساؤلاً جوهرياً وهو: أين كانت هذه الخطط والاستراتيجيات على مدى سنة ونصف من الآن منذ تشكيل «التحالف الدولي» لمحاربة «داعش»؟ ولماذا تظهيرها الآن؟

من الطبيعي جدًا، أن يسعى الأميركيون إلى تعقيد مهمّة بوتين في مواجهة «داعش» وألا يجعلوها سهلة المنال، كونه خصمهم اللدود، وخصوصاً أنّ الأميركي يرفع شعار محاربة الإرهاب منذ 15 عاماً، فكيف سيرضى بأن يسلب منه بوتين في غضون أشهر معدودة هذا الشعار المربح بالنسبة إلى واشنطن عسكرياً واقتصادياً واستثمارياً ودولياً. لذا فهم من البداية يرصدون مسار الأمور وتطورات الأوضاع في سورية والعراق لقطف ثمار الهزيمة الروسية إن حصلت، أو ليكونوا شركاء فعليين في النصر إن تحقق. فلا تتفرد روسيا بهكذا إنجاز دولي يرفعها إلى صدارة أحادية القطبية العالمية.

وأمام انعدام الخيارات الأميركية العسكرية، في ظلّ خشية الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، مع ما يعنيه ذلك من إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة، لجأت واشنطن ومن ضمن السقف المرسوم لحدود اللعبة الدولية المتاحة، إلى توزيع أدوار جديد، عبر دفع «ناتو» ودوله إلى تصدر المواجهة السياسية المباشرة في وجه بوتين، وهو ما برز مؤخراً في حادثة إسقاط أنقرة الطائرة الروسية «سوخوي 24»، فيما تقود واشنطن حملة إعلامية دعائية مبرمجة ضدّ موسكو، تترافق مع ديبلوماسية أميركية مخادعة، على محورين:

المحور الأول: قصف وضخ إعلامي متواصل، يهدف إلى تأليب السوريين والرأي العام العالمي ضدّ روسيا، ووضعها في موقع الاتهام والدفاع وتبرير أفعالها دائماً، عبر اختلاق أكاذيب وفبركات إعلامية. وهنا يمكن للمتابع أن يرصد على مدى أكثر من شهرين منذ بدء الضربات الروسية في سورية جملة أخبار تهدف إلى تبخيس الجيش الروسي حقه والتشكيك بقدراته وإنجازاته الميدانية وتشويهها، وبرز ذلك في اتجاهات عدة:

ـ ضخ فبركات شبه يومية تتحدث عن قصف الطائرات الروسية للجيش الحر و«المعارضة المعتدلة»، أو قصف مدنيين ومستشفيات.

ـ إطلاق البوارج الروسية صواريخ «الكالبير» من بحر قزوين، قابله فبركات أميركية عن سقوط «الكالبير» الروسي في إيران، وعدم تحقيقه إصابات.

ـ اتهام القوات الروسية باستخدام قنابل عنقودية متطورة في سورية وغدًا ربما يتم اتهامها باستخدام أسلحة كيميائية أو نووية .

ـ التشكيك برواية روسيا حول انتحار أحد جنودها في قاعدة حميميم في سورية.

ـ الحديث عن تزايد خسائر حلفاء روسيا في سورية إيران وحزب الله .

ـ دق إسفين بين روسيا وحلفائها ومحاولة إظهار عدم تماسكهم CNN : إيران تُخرج إلى العلن خلافها مع روسيا: موسكو ليست سعيدة بحزب الله والموقف من الأسد قد لا يتطابق ـ التوتر بين روسيا وتركيا.. مستشار خامنئي: إيران لن تكون طرفاً .

ـ التركيز على فيديو نشره تنظيم «داعش» يتضمن صوراً لمدن روسية ويهدّد موسكو بـ«إسالة الدماء قريباً جداً»، واستغلال حادثة الطائرة الروسية في سيناء للتهويل على روسيا بأنها أضحت مستهدفة في أرجاء المعمورة، عبر الإيحاء تارة بأنّ «داعش ضرب الطائرة لتجنيد الناقمين على موسكو» بعد تدخلها في سورية، وطوراً من خلال ربط وسائل الإعلام الأميركية ومنها «CNN» بين سقوط الطائرة وإعلان موسكو عن إرسالها أنظمة دفاع جوي إلى سورية لحماية طائراتها.

لم تقف الأمور عند هذا الحدّ، بل تعدته إلى بثّ مخاوف من تحركات السفن والغواصات الروسية قرب كابلات الإنترنت ومن ثم ربط ذلك بما يجري في سورية قائد سابق لناتو . أميرال أمريكي: الغواصات الروسية تهدِّد المنظومة المعلوماتية العالمية .

ـ إثارة تكهنات أميركية رويترز حول حجم القوات الروسية في سورية وصل إلى أربعة آلاف وازدياد عدد قواعدها العسكرية، وهو ما رفضت الخارجية الروسية التعليق عليه، بعدما أكّد الكرملين أنه ما من جنود روس يضطلعون بمهمات قتالية في سورية، إنما هناك مدربين ومستشارين يعملون إلى جانب الجيش السوري فضلاً عن قوات تحرس القواعد الروسية في غرب سورية».

هنا يبدو أنّ «غوبلز» حاضر بقوة في الحرب الإعلامية الدائرة، ويتجلى ذلك بحملة كذب مبرمجة، تصوّر التهيؤات والتمنيات على أنها مسلمات واقعة، يبنى عليها مواقف وتحليلات، حملة ردّ عليها الروس دبلوماسياً تارة عبر استدعاء ملحقين عسكريين وطلب تقديم إيضاحات حول الاتهامات لها باستهداف مدنيين، واعتبار ذلك جزءاً من تشويه العملية الروسية، وطوراً عبر الإعلان عن استعدادها لدعم «الجيش الحر» في مواجهة «داعش»، ومن ثم الإعلان عن زيارة ممثلين لـ«الجيش الحر» و«الائتلاف السوري»، ما اعتبره الإعلام الأميركي، ولا سيما CNN «تضليلاً للتغطية على إخفاق العدوان». أعقب ذلك توجيه روسيا سؤالًا للغرب عمّا إذا كان بالإمكان اعتبار «من يقطع رؤوس الأسرى، من داعش والنصرة معارضين غير معتدلين بعض الشي». سؤال بالطبع لم يلق الإجابة من واشنطن حتى اليوم.

على المحور الثاني سعى الإعلام الأميركي ولا يزال إلى تصوير المعركة التي تقودها روسيا بأنها ليست موجهة ضدّ الإرهاب، من خلال محاولة إظهار عكس ذلك تستهدف معتدلين، مدنيين، أبرياء، تدعم الأسد ولا تستهدف داعش ، برز ذلك حتى من خلال طريقة التعامل مع حادثة إسقاط الطائرة الروسية، عبر الإيحاء بأنّ القصف على الحدود السورية التركية كان يستهدف التركمان حلفاء الأتراك وليس الإرهاب، لذا رأينا منظري الإعلام الأميركي يتحدثون تارة عن تقدم «داعش» رغم الضربات الجوية الروسية، وطوراً يسلطون الضوء على تقارير منظمات حقوقية تتهم روسيا بخرق قوانين الحرب في سورية، ليخلصوا إلى أنّ اشتداد الحضور الروسي في سورية ليس في صالح الرئيس الأسد.

القدرات القتالية الأميركية

يقود رصد المنظومة والماكينة الإعلامية الأميركية يقود إلى أنّ الجناح الآخر للحرب الإعلامية بين واشنطن وموسكو يحاول تظهير قدرات القوات الأميركية، عبر التركيز على إنجازات إدارة أوباما بمواجهة «داعش»، فتراه يزجّ في المعركة أسماء قيادات «داعشية» ويقوم بتضخيم «هوليودي» لبعض الأحداث، كما تعامل مع «تحرير سنجار الزيديين من «داعش» بمساندة قوات التحالف الأميركي»، أو الفيديو الذي نشر ويظهر «رامبو» الجيش الأميركي في الحويجة وهو يحرِّر 70 رهينة كردية من «داعش».

وتكرّ سبحة القيادات «الداعشية» المستهدفة وفق ما يروج له الإعلام الأميركي منذ أكثر من شهرين مع بدء الضربات الروسية في سورية ليتفوق على ما تمّ استهدافه على مدى سنة ونصف، ومنها الإعلان عن مقتل سفاح «داعش» الملقب بـ«الجهادي جون» بضربات «التحالف» في الرقة، والقيادي أبو سياف، وأبو نبيل الليبي، أحد كبار قادة تنظيم «داعش»، المتحدث الذي ظهر في عملية إعدام الأقباط المصريين في شباط الماضي. سبق ذلك الإعلان الغامض والمشبوه عن مقتل أمير «خراسان» أحد كبار قيادييها على يد الأميركيين هذا الفصيل كانت تدور شبهات حول علاقته بواشطن ، والذي أتى توقيت الإعلان عنه مريباً، بعد يوم أو يومين فقط من إعلان بوتين أنّ «التحالف» الذي تقوده أميركا لم يفعل شيئاً ضدّ الإرهاب علماً أنه كان قد قُتل قبل أشهر.

ومع مقتل كلّ قيادي «داعشي» تحاول الماكينة الإعلامية الأميركية الإيحاء بأنّ مقتله «يمثل خسارة كبيرة للتنظيم، تفقده قدرته على تنفيذ أهدافه، وتفقده قدرته على تجنيد أعضاء جدد، أو إقامة قواعد إضافية للتنظيم، وكذلك قدرته على التخطيط لشنّ هجمات على الولايات المتحدة. والهدف واضح مواجهة الحملات التي تشكك بالدور الأميركي في محاربة «داعش».

كلّ ذلك ترافق بالطبع مع حديث أميركي في الإعلام عن إرسال قوات خاصة إلى سورية، وتقديم المزيد من الأسلحة والأموال للمسلحين تقديم أميركا 100 مليون دولار كمساعدات للمعارضة السورية ، وإرسال قوات برية إلى العراق، ونشر طائرات «آباتشي» في هذا البلد، والحديث عن أنّ القوات الأميركية ستشنّ عمليات برية عالية المخاطر، وهي أحاديث وتسريبات لم تتخط دائرة الإعلام إلى أرض الميدان الفعلي، وإن نفذ شيء منها فيبقى محدوداً لا يُقارن بحجم ما تمّ تصويره في الإعلام الذي بدأ يتحدث عن التهام الحرب على «داعش» ذخائر الجيش الأميركي، وذلك كونها تحمل أهدافاً تعبوية ونفسية محددة في صفوف حلفاء واشنطن ليس إلا.

الأسلحة

استعراض العضلات الأميركية لم يقف عند هذا الحدّ، إنما تترجم من خلال نشر قناة CNN مقارنات «أنفوغرافية» حول قدرات السلاح الأميركي في مواجهة السلاح الروسي مقارنة أف إيجيل 15 الأميركية بـ «سو 27» الروسية بعنوان من يتزعم الأجواء ـ مقارنة صواريخ «كاليبر» الروسي بـ«توماهوك» الأميركي، بعنوان «لمن اليد الطولى» مقارنة مروحية MI28 الروسية بـ«أباتشي» الأميركية، بعنوان: «من يتسيد الأجواء» ـ ودبابة «أبرامز» الأميركية في مواجهة «أرماتا» الروسية ، ومع إسقاط تركيا طائرة «سوخوي 24» نشرت CNN صوراً «إنفوغرافية» قارنت فيها بين القدرات العسكرية الروسية والتركية بعنوان :»بين الدبّ الروسي والذئب التركي.. أين يميل ميزان القوى العسكري بين أنقرة وموسكو»؟

ترافق ذلك، مع نشر تقارير حول الأسلحة الأميركية وقدراتها، منها تقرير نشر من أرض الميدان في سوريا، بعنوان:»شاهد القوة المركزية في استراتيجة أميركا الجديدة ضدّ «داعش» على الجبهة، تقرير يسلط الضوء على الجهود الأميركية لمساندة الأكراد في الحسكة، ليخلص إلى تعريفنا على «جهاز سري» بحجم الهاتف، يعرفه بأنه «أهم سلاح لقوات حماية الشعب الكردية كونه يساعد بتحديد إحداثيات العدو ويرسل إحداثيات للغرفة المشتركة وبعد دقائق تأتي الضربات الجوية الأميركية لقصف الأهداف».

ومن الميدان إلى الأفلام الدعائية، نشرت CNN فيديو دعائياً وصفته بـ«غير المسبوق» للقاذفة الشبح الأمريكية B2 سبيريت، وآخر لـF35 وقدراتها «الخارقة» تطلق 3300 طلقة في الدقيقة ، قابل ذلك «تبخيس» بالمقاتلات الروسية من خلال الترويج بأنّ الأجواء الصحراوية والغبار تؤثر عليها وتحدّ من قدرتها، كما لم يخل الأمر من الترويج لإسقاط طائرة روسية في الغوطة من قبل أحرار الشام، أو إسقاط طائرة من دون طيار من قبل تركيا، ليجر لاحقاً استغلال حادثة إسقاط تركيا للطائرة الروسية في الأجواء السورية لاحقاً.

ففي فيديو نشرته CNN بعنوان: «تعرف على الأسلحة الروسية المستخدمة في سورية… ما هي أبرز مواصفاتها وقدراتها»؟ لم يخل تعريف المشاهد بطائرتي سوخوي 24 و25 الروسيتين، من الإشارة إلى أنهما تستخدمان على ارتفاعات أعلى من المعتاد في سورية لتفادي صواريخ المسلحين المضادة للطائرات والمحمولة على الكتف، وكذلك إثارة بعض الشكوك استناداً إلى محللين غربيين عن دقة إصابتهما لأهدافهما لأنهما خُصّصتا لرمي القنابل الانشطارية غير الموجهة»، بحسب التقرير.

ليس ما تقدم سوى غيضاً من فيض ما يروج له الإعلام الأميركي يومياً ضدّ موسكو، إعلام لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويزجّها في الحرب الدائرة ليتسيد أسياده الفضاء ويسودوا الأرض، بأطماعهم الاستعمارية اللامحدودة، يستغلون عنوان الإرهاب، للإيحاء بمحاربته بينما هم يقومون في الحقيقة بتغذيته، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى. لكن كيف ردّت موسكو على الحرب الإعلامية الأميركية، غداً في الجزء الثاني؟

كاتب وباحث لبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى