ذكّر إن تنفع الذكرى
في زمن تقدم «داعش» والانهيارات المعنوية التي يروّج لها الكثيرون، وهي جزء من الحرب النفسية التي تشنّ تحت غطاء وابل من الدماء والنيران، أعيدكم إلى مقال كتب في مثل هذا اليوم قبل سنة، تحية لثورة مصر الثانية.
لا قيامة للفتنة بلا مصر، وحصان الفتنة هم الأخوان المسلمون.
كل محاولات التعويض فاشلة، آمل القراءة بعين الحاضر وذاكرة الأمس.
«نصر ونص»
لم يقل أحد إن طريق فلسطين سيشقه قبل طلوع الفجر شباب مصر المحتشدون في ميدان التحرير، ولا أن عبور الجيش المصري من العريش نحو غزة قد بدأ للتو ومعه تحدّدت ساعة الصفر لتحرير القدس.
لم يقل أحد إنّ الجنرال عبد الفتاح السيسي هو الجنرال جياب قائد جيش التحرير الفييتنامي ملحق الهزيمة التاريخية بالجيش الأميركي.
لم يقل أحد إنّ محمد البرادعي هو فيديل كاسترو عاشق الاستقلال الوطني والفقراء والثورة.
لكن أحداً لا يستطيع أن يقول إن ما شهدته بلادنا العربية خلال العقد الماضي لم يجر على خلفية الانتصارات العظيمة والتاريخية التي حققها حلف المقاومة على أميركا و«إسرائيل»، وما لحق بحلفائهما خصوصاً في الخليج من شظايا، من حرب العراق إلى لبنان إلى غزة بين عامَيْ 2003 و2009.
إن أحداً لا يستطيع الإنكار أن الصراع الذي تعيشه آسيا منذ عام 2000 وانطلاق المشروع الإمبراطوري العسكري الأميركي كان ولا يزال يقف في خلفية كل تطوّر تعيشه منطقتنا، التي تشكل قلب آسيا. ففيها «إسرائيل» والنفط والإسلام مثلث الهمّ والاهتمام الأميركيين.
إن أحداً لا يستطيع الإنكار أيضاً حجم تداعيات هذه الحرب في تغيير توازنات ما بعد الحرب الباردة التي بشّرت بحقبة أميركية ـ «إسرائيلية» تجثم على صدر المنطقة وارثة تفكك الاتحاد السوفياتي، ولا أن أبرز التداعيات تجسد ببدء ظهور فراغ استراتيجي في آسيا بعد الفشل الأميركي ـ «الإسرائيلي» في حروب العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
إن أحداً لا يستطيع إنكار أنّ حلف المقاومة كان المبادر لخطة ملء هذا الفراغ بمشروع الرئيس بشار الأسد المعروف بمشروع البحار الخمسة، الذي يدعو إلى نظام إقليمي يدير الاستقرار والمصالح الكبرى فوق الخلافات، وتكون قواه السعودية وتركيا ومصر وسورية وإيران. ـ كانت الشعوب العربية الغاضبة قد خرجت للمرة الأولى بعد سبات عقود ثلاثة مع إاتفاضة الأقصى، وملأت الملايين الشوارع من المغرب إلى اليمن ومصر، وكانت الحروب لفرض نظام إقليمي محوره «إسرائيل»، يفرض هيمنته على المنطقة ردّاً واستباقاً لهذا النهوض وبوصلته فلسطين لتصير شيئاً آخر، وكان الرئيس الأسد قد شرح مخاطر هذا المشروع في قمة شرم الشيخ العربية عام 2002 قبيل غزو العراق بقوله إنها حروب لتفتيت المنطقة وإدخالها في صراعات لا تنتهي على أساس القبائل والأعراق والطوائف والمذاهب.
السباق على ملء الفراغ وبجواره سباق على قيادة الحراك الشعبي الغاضب، في قلب مشهد الربيع العربي.
إن أحداً لا يستطيع الإنكار أن أميركا بتقبل التضحية برموز الاعتدال العربي وحلول الأخوان المسلمين مكانهم استعداداً للحروب المذهبية، وأملاً بإسقاط سورية، قد فازت بالجولة الأولى من هذا السباق. ـ إن أحداً لا يستطيع الإنكار أيضاً أنّ الجولات الثانية والثالثة والرابعة قد ربحتها واشنطن أيضاً، فقد وصل الأخوان المسلمون لتحقيق حلمهم التايخي بالإمساك بثنائية الشرق الأوسط الذهبية التي تشكلها مصر وتركيا، وسقط مشروع البحار الخمسة بانخراط مصر وتركيا والسعوية في الحرب على سورية، و نجحت واشنطن وحلفاؤها بالاستثمار على نقاط الضعف السورية، وحشد الطاقات والإمكانات مالاً وسلاحاً ومجاهدين و فتاوى وإعلاماً، ودخلت سورية القلعة الصامدة للمقاومة في مرحلة من أصعب مراحل تاريخها، بحيث بان للكثيرين أن سقوط القلعة مسألة وقت ليس إلا.
بعد دخول حزب الله الحرب دفاعاً عن سورية على رغم الانتصار الاستراتيجي في معركة القصير المفصلية، نجحت واشنطن في حشد حلفائها بقوة حضور مصر الأخوان لتفجير الفتنة المذهبية، وخرج جون كيري من مظلة تفاهمات موسكو مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، وعدل مفهوم الحل السياسي ليصبح إعادة تشكيل طائفية للحكم في سورية.
جولة خامسة يربحها الحلف الذي تقوده واشنطن ويتراءى النصر لهم قريباً والفتنة تتفجر في لبنان على يد رجال الاستخبارات القطرية والسعودية وامتدادات الأخون المسلمين وعلى رأسهم أحمد الأسير.
صمود سورية رئيسها وشعبها وجيشها صنع معجزة ألهمت الجيوش العربية والنخب العربية، على رغم تفاوت منسوب الكلام بالاعتراف لها بصناعة هذا التحول، فكان الجيشان المصري واللبناني أول المتلقفين نتائج هذا الصمود.
كما كان الروس والصينيون يتلقفون هذا الصمود لصناعة خطة لملء الفراغ الاستراتيجي، كانت إيران تجدد شباب نظامها الإسلامي بما يحصن المنطقة في وجه خطاب الفتنة بالاستعانة باحتياطيها في ثقافة الحوار والوحدة والاعتدال الشيخ روحاني فيأتي رئيساً على حصان أبيض.
إنها الجولة السادسة على الحلبة يربحها حلف يقف في رأس لائحة الشرف فيه الرئيس بشار الأسد، تتوّج بسقوط الأخوان في عرينهم، ففي مصر ومن مصر يبقى أو يسقط مشروع الأخوان ومعه مشروع الفتنة ومشاريع الحروب الأميركية في المنطقة.
يستحق الجنرال السيسي التحية ويستحق شباب تمرّد التحية وتستحق نخب مصر كل التحية لإنجاز حلم تاريخي للأمة ستسقط بعده الكثير من أوراق الفتن.
تركيا ستتلقف النتائج المصرية بجيشها ونخبها ومثلها سيفعل الأردن وأماكن أخرى كثيرة، وستتموضع واشنطن مع المتغيرات، ولها بين الحكام الجدد أصدقاء وحلفاء، وستسعى إلى التاقلم مع التغيير وربما إلى احتوائه، لكنها سياسة خفض الخسائر لا سياسة تحقيق الأرباح.
سقط مشروع الحرب على سورية ولو استمر بعض الحمقى يقاتلون. وسقطت الفتنة المذهبية ولو استمر بعض أصحاب اللحى الصفراء يفتون، وسقط مشروع الهيمنة ولو بقي من يتوهّمون أنهم سيهيمنون.
لو أرسل السعودي مالاً وورث القطري في مصر، فمصر لن تكون قوة تصدير للحرب نحو خارجها، ولو أنفق الامير الصغير في قطر مالاً لتقوية الجزيرة لن يبق للجزيرة حول وقوة ومهابة، فكما القرضاوي سيصير ملاحقاً، كما سينكب الأمير الصغير في قطر على إنفاق المال للصحة والتعليم والتنعم بالنغانم.
مفهوم النصر يشتق مباشرة من مفهوم الحرب التي نخوض، فهي ليست اليوم والساعة حرب تحرير فلسطين، ولو أن فلسطين أصل المشهد في كل هذه الحروب، ولا حرب إخراج الأميركي من المشهد العربي، ولو أنها دائماً حروب المشهد الإقليمي وحجم الأميركي في صناعته. إنها حرب إسقاط مشروع الفتنة وحرب إسقاط مشروع الأخونة، وبسقوطهما لن تقوم قائمة لبدائل مثلهما أو عنهما ولو قامت بدائل تشبهمها في التموضع تحت السقف الأميركي.
الحرب تضع أوزارها بالنصر على مشروع إسقاط سورية، وحجارة الدومينو ستتدحرج تباعاً ولنا كل الحق أن نحتفل.
بعض الذين يستمتعون بتنغيص فرحة النصر على المحتفلين، يستحضرون كل الأسئلة المستقبلية والتي لا تعوزها المشروعية، بل يعوزها التقدير الموضوعي لقدرتها على توفير شروط شنّ حرب جديدة بوسائل جديدة وشعارات جديدة.
عذر هؤلاء كما يقولون الحرص على المستقبل، فيما هم يخرّبون الحاضر الذي به يصان المستقبل، والاستثمار على النصر بما يجسده في حرب المعنويات التي ستقرّر مصير المواجهات الكبرى. هو أصل الدقة في فهم الحاضر، والتقليل منه وتهوينه جزء من حرب نفسية يخوضها البعض منّا علينا، من حيث ينتبهون أو لا ينتبهون.
دعا هارون الرشيد في أحد مجالسه وبحضور زوجته زبيدة، أبا نواس لمؤانسته، وسأله بعضاً من فصاحته وشعره، ثم سأله هات أعطنا مثلاً عن عذر أقبح من ذنب. فقام أبو نواس يقبّل الرشيد وهو يهم بدفعه، فقال له شاعر الخمرة عذراً لقد ظننتك السيدة زبيدة، فغضب الرشيد ليفاجئه أبو نواس بالقول هذا العذر أقبح من الذنب الذي طلبت يا أمير المؤمنين، لكن الرشيد الممتعض من تصرّف أبي نواس أمر بوضعه على الخازوق، ولما سأل سجّانه عن حاله، أجابه السجان أنه يسأله كل حين أن ينقله إلى الخازوق المجاور، وقد حار في أمره وأمر طلبه، فطلبه الرشيد إلى حضرته وقال له إن أبلغتني سر هذا الطلب عفوت عنك، فأجاب أبو نواس يا مولاي مهما كان ألم الخازوق القادم، يكفي أنني أتنفس وأرتاح قليلاً ما بين الخازوقين.
لهؤلاء المنغصين نقول عذركم أقبح من ذنب تقبيل الرشيد بدلاً من زبيدة، ولو كان الأسوأ آتٍ بعد مرسي وأمير قطر. فدعونا نتنفس ونرتاح قليلاً بين الخازوقين بأسوأ الأحوال.
يقيننا ان زمن الهزائم قد ولى وان زمن النصر تجلى وان ما جرى في مصر ليس نصرا وحسب وبل هو نصر ونص