صناعة الخزف في راشيا الفخار تصارع للبقاء خارج قيد الاندثار

سعيد معلاوي

منذ مئات السنين، ارتبط اسم بلدة راشيا الفخار بصناعتها كعلامة على امتداد الساحة اللبنانية. فلا أحد يدرك من سكانها الحاليين إلى أيّ عهد يعود ذلك، وكلّ ما يعرفونه أنهم اكتسبوا هذه الصناعة ممّن سبقهم. وهكذا، تحوّلت راشيا بجهد صناعييها إلى عاصمة الفخار في لبنان، وهذا ما تشير إليه الوثائق التي يحتفظ بها البعض أباً عن جدّ منذ أكثر من خمسمئة سنة. وحتى خمسينات القرن الماضي وستيناته كان هناك أكثر من ثمانين صانعَ فخّار يلقّب بـ«المعلّم»، كما قال لـ«البناء» رئيس البلدية سليم رشيد يوسف، الذي أضاف أنّه كان في البلدة خمسة أفران كبيرة الحجم، كانت تستوعب اليد العاملة في البلدة، إلى جانب هؤلاء «المعلّمين»، خصوصاً أفراد عائلاتهم كباراً وصغاراً.

كان كل فرن يتّسع في طابقه العلوي ما يقارب 12 خابية كبيرة و20 جـرة و30 منـشـلاً و2500 من الأباريق مختلفة الأحجام والأشكال، وهو رقم كبير كان له مردود كبير في تلك الأيام. إذ كان يبلغ ثمن هذه الأواني الفخارية وقتذاك 300 ليرة لبنانية. أما الطبقة السفلية من الفرن، فكانت للحطب والنار، حيث تتّصل بالطابق العلوي من خلال فتحات تتيح شوي الأواني بطريقة متساوية ومتوازية.

بعد وقد النار، تستمر عملية الشوي ثماني ساعات متواصلة، وبعد انتهاء هذه المهمة، تنقل الأواني إلى المخمر، ليتم إخراجها إلى النور بعد مرور 24 ساعة، وتصبح صالحة للاستعمال، فتعرض في ما بعد في الأسواق اللبنانية والسورية والفلسطينية قبل احتلال فلسطين في 1948.

منذ نهاية الستينات، تغير المشهد مع استهداف الاعتداءات «الإسرائيلية» اليومية لراشيا ومحيطها، ما دفع بمعظم سكان البلدة إلى مغادرتها إما إلى مناطق لبنانية أخرى أو إلى المغتربات، طلباً للاستقرار وكسب الرزق، بعدما قدّمت هذه المنطقة عشرات الشهداء والجرحى، والتضحيات التي لم تتوقف حتى أحدثت المقاومة في جنوب لبنان توازناً للرعب مع قوات العدو الصهيوني، فعاد بعض السكان وأحيوا ثلاثة أفران لكل من نظير عبد الله وجهاد إسبر وأديب الغريب، وأصبح إنتاج هذه الأفران متواضعاً، بالكاد يغطي منطقتَي وادي التيم وجبل عامل.

يضيف رئيس البلدية: إذا لم تلق مطالبنا بإعادة الحياة إلى شرايين هذه الصناعة التراثية آذاناً صاغية من جانب الجهات الرسمية في دولتنا، ومن المؤسسات الدولية المعنية، فإن مصيرها إلى الانقراض، ونأمل أخذ ذلك بالاعتبار، وإيلاء هذه الصناعة الاهتمام الذي تستحقه.

وأشار يوسف إلى أن رئيس التعاونية لصناعة الفخار في البلد وسيم خليل ومعه مروان عبد الله قصدا قبل أشهر بعض المعامل والمصانع في فرنسا، بدعوة من السفارة الفرنسية، واطّلعا خلال هذه الزيارة على التقنيات المتطوّرة المتعلقة بهذه الصناعة. وقال أيضاً: كما قمنا، وبمساعدة من منظمة «UNDP» العالمية، ببناء مركز التعاونية، آملين أن يتم تجهيزها بأفران حديثة تعمل بوساطة الكهرباء بدل الحطب، مع معدّات للتصنيع، لنحاول بعد اشتراك عدد من شباب البلدة وجوارها بدورات تدريبية لإعادة بثّ روح الحفاظ على التراث عبر إحياء هذه الصناعة، علّها تشجع العائلات للعودة إلى بلدتهم، ومعهم يعود الفرح والإنتاج إلى سابق عهدهما.

أما زوجة أديب الغريب، السيدة سارة وهبي، والتي تساعد زوجها في صنع الفخّار، فشرحت في حديث إلى «البناء» عن المادة الأولية لهذه الصناعة فقالت: «نأتي بتراب الدلغام من خراج راشيا، حيث يتم تصويله لنتخلص من الحجارة الصغيرة، ويصبح مادة ناعمة صالحة للتصنيع. ثمّ نعرّضه لحرارة الشمس حتى يجفّ، وندخله إلى المخمر لعدة أيام كي يرتاح، وبعد ذلك نقتطع منه ما نحتاجه يومياً، لنحوله عبر المعدّات الخاصة البدائية إلى أوانٍ فخارية مختلفة الأحجام، بعد أن نزيّنها بالرسوم والصوَر التي تمنحها رونقاً جميلاً».

هذه هي راشيا الفخار، بتراثها الشعبي والفني الجميل، فهل يلتفت المعنيون إلى أبناء هذه المنطقة المقاوِمة، ويعيدوا إلى شرايينها الحياة، ليعود الفنّ والتراث الفخاري الجميل، الذي يحافظ على صحة الإنسان، ويحميه من استعمال المواد البلاستيكية السامة؟ وهل ستجد مناشدات الأهالي آذاناً صاغية عند من في يدهم الأمر والنهي، هذا ما يأمله أهالي بلدة راشيا الفخار، وحمّلوا «البناء» أمانة نقل هذه الرسالة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى