عاموس يدلين يُجهر بمكنونات أوباما… أبلَسَتُهم وبؤسُنا!

د. محمد بكر

لم يكن ما أعلنه الرئيس الأميركي باراك أوباما لجهة تعزيز استراتيجية مواجهة «داعش» عبر تكثيف القوة النارية ضدّ التنظيم، في إطار الاستجابة لدعوة الخارجية الروسية لجهة مطالبتها واشنطن تغيير سياستها في سورية والفرز بين الفصائل المسلحة والتمييز بينها على قاعدة الفصل بين الطيّبين والأشرار، ولم يشكل كلام أوباما في اعتقادنا أي بواعث لتحوّل استراتيجي في السياسة الأميركية في تعاطيها مع الملف السوري، إنما جلّ الحاصل ولفهم أبعاده وما تخبّئه تفاصيله ينطلق من قاعدة أساسية لها استثناءاتها وشواذها بالطبع، حالها حال جميع القواعد الأخرى، لكنها كثيراً ما تصحّ وتتكاثر في المشهد السياسي العام، مفادها ما يختلج به القلب الأميركي تجده في الأغلب على اللسان الإسرائيلي ، فأوباما قال نصف الحقيقة عن استراتيجيته في مواجهة «داعش»، ربما يُقدم فيها بالفعل على تكثيف الغارات وإرسال المزيد من القوات الخاصة التي تساعد الجماعات المحلية لجهة الضغط على التنظيم في معقله الرئيس في محافظة الرقة، ولكن على قاعدة التكثيف المدروس، و«الإيقاعات الإنسانية» التي تضبط وتقيّد التحركات الأميركية التي تفيض حرصاً على دماء الأبرياء، كما يقول أوباما لجهة توصيفه للمعركة بأنها صعبة وأنّ مسلحي «داعش» يستخدمون الأطفال والنساء كدروع بشرية، هذه الإيقاعات التي تمّ نسفها بالمطلق في أفغانستان والعراق.

أما النصف الآخر للحقيقة فجهر به أمام الملأ مدير مركز الأبحاث القومي والرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات «الإسرائيلية» عاموس يدلين، وهو ما يشكل بالضرورة ويتوافق ويتماهى مع جوهر الاستراتيجية الأميركية في مواجهتها للإرهاب.

يقول عاموس يدلين: إنّ الهدف الأهمّ لـ«إسرائيل» وأميركا وأوروبا هو بناء استراتيجية تهدف إلى إضعاف الجهات السلبية في سورية النظام وتنظيم الدولة الإسلامية ، وإنّ الإبداع «الإسرائيلي» يجب أن يؤكد إعادة تقسيم سورية إلى فدراليات عرقية وإثنية وطائفية، مضيفاً: «أنّ التحدّي المفصلي هو إيجاد استراتيجية كاملة متكاملة مدعومة بالإصرار وبالموارد وبالقوات البرية التي يمكنها خوض حرب بالتوازي، وفي الوقت نفسه، ضدّ داعش ونظام الأسد معاً، وبعد الانتهاء يجب أن تسعى الاستراتيجية ذاتها لتثبيت واقعٍ دائم في سورية».

نعم إنه «الإبداع الإسرائيلي» الذي صاغ وصنع وطبخ باقتدار كلّ ما يجري في المنطقة من تحوّلات ومشاهد كارثية مرعبة، وعلى عينه، ومن عيوبنا وبؤسنا وتشرذمنا واقتتالنا وفسادنا راح يمضي في «التفنن» بإذكاء نارنا، يرسم الاستراتيجيات ويحيك سيناريوات الدم، ونحن ومع كلّ وضوح وصراحة وطريقة تفكير عدونا المعروضة أمام أعيننا وتحت الشمس، وفي وضح النهار، نستمرّ بتثقيل عوامل ضعفنا ونرهن مستقبل بلادنا ومصير شعوبنا لإرهاصات وويلات وحمم لعبة دولية قذرة لن تبقي ولن تَذَر، نعلن عن أحلافٍ هنا، وتكتلات وصيغٍ هناك وكلها لمواجهة الإرهاب، هذه الأحلاف التي غابت عن أسمى قضية ما زالت تئنّ تحت وطأة الإرهاب.

لك فقط أن تلحظ وتتابع كيف يفكر «الإسرائيلي» لتدرك أين العرب وموقعهم في خضمّ الاشتباك الدولي الحاصل، ففي معرض توصيفه وتحليله للأزمة المتقدة بين تركيا وروسيا يقول يدلين: لا يمكن للخلاف بين الطرفين أن يؤدّي إلى تبييض صفحة الثالث أو الآخر وانتصاره أي نظام الأسد أو داعش مؤكداً حتمية دعم تل أبيب لموسكو، فالعلاقات بينهما قوية ودائمة وتمكنت من القفز فوق التدخل الروسي في سورية والكلام هنا ليدلين ، ومن هنا نفهم ما أعلنه نتنياهو لجهة أنّ «إسرائيل» لا يعنيها انهيار «داعش»، إنما يهمّها أمان الجبهة السورية، وهذا ما ضمنه له بوتين، كذلك لم يجد يدلين أيّ حرج في طرح «إسرائيل» لتسدّ الفراغ الذي سيتركه توتر العلاقات بين تركيا وروسيا، حتى في تصدير الخضراوات والفاكهة ولأنْ تكون «إسرائيل» مقصداً للسياح الروس.

يدلين الذي حاول تظهير الكره بين الإسرائيليين والأتراك منذ حادثة سفينة مرمرة، عاد ليختم حديثه بالقول: «إنّ دعم تل أبيب لأنقرة يخدم في نهاية المطاف المنطق الصحيح للمصالح الاستراتيجية للدولة العبرية»، بحسب تعبيره، بمعنى «استثمار الخلافات» وتظهير الحياد بما يخدم المصلحة «الإسرائيلية» فقط.

ما أعلنه يدلين صراحة هو نفسه ما يجول في الأذهان الأميركية، وهو ما يحكم حتماً توجهات الأميركي وجديد استراتيجياته، استثماراً في الإرهاب وتكريساً لمشهدية استنزاف الخصوم التي تتطلب تنشيط حالة اللاحسم بصورة دائمة، وصولاً إما لصراخ الخصوم، أو للتقسيم الذي تحدث عنه يدلين.

أزعم وأجزم أنّ ما قيل عن استطلاع للرأي يظهر نحو 60 في المئة من الأميركيين لا يؤيدون استراتيجية أوباما في التعاطي مع «داعش»، هو استطلاع مغلوط وهدفه الاستهلاك الإعلامي، وعلى الجمهوري الأميركي جيب بوش أن لا ينتقد، كما قال، الاستراتيجية غير الحاسمة لأوباما، هذا الأخير الذي استطاع أن يفعل ويكرّس الفوضى الخلاقة «تكريساً مثالياً» من دون أن يُراق دم جندي أميركي واحد، أو يغدق من موازنته دولاراً واحداً، ما عجزت عن فعله أعتى جيوش العالم مجتمعة، وما زلت أبحث عن العرب، وما زالت العروبة مطعونةً تُباع وتُشترى في سوق النخاسة، تماماً كما قال نزار: «وجدت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم، لكني ما وجدت العرب».

كاتب صحافي فلسطيني

mbkr83 hotmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى