«بيمارستان النوري»… بُني خصّيصاً للفقراء وشاهد على فنّ معماريّ يرقى إلى عهد السلاجقة
لورا محمود
يقع «بيمارستان النوري» في قلب مدينة دمشق، ويعدّ واحداً من ثلاثة بيمارستانات اشتهرت بها المدينة. بناه الملك العادل نور الدين زنكي، وخصّصه كمستشفى للمساكين والفقراء، ثمّ تحوّل ليصبح واحداً من أشهر المشافي ومدارس الطبّ والصيدلة في البلاد. وقد تعلم فيه كبار الأطباء مثل ابن سينا والزهراوي.
يقع البيمارستان في قلب مدينة دمشق القديمة في منطقة «الحريقة»، جنوب غرب الجامع الأموي، شرق سوق الحميدية. ويعتبر «بيمارستان النوري» من أهمّ المباني التاريخية في مدينة دمشق، وهو أحد البيمارستانات التي شيّدت فيها: الأول كان يعرف بِاسم بيمارستان الدقاقي، ثمّ سمي بـ«العتيق»، والآخر بني في منطقة الصالحية واسمه «بيمارستان القيمري» وبناه الملك العادل نور الدين محمود الزنكي عام 1154 ميلادياً، واشترط في وقفه أن يكون مخصّصاً للفقراء والمساكين، وفيه عدد كبير من الكتب الطبية وكان يتسع لألف وثلاثمئة سرير، وقد كان الأطباء يوفدون إليه من كلّ البلاد، ولم يكن ممنوعاً على الأغنياء زيارته، وكانت بعض الأدوية لا تتوفر إلا فيه، ومَن جاء إليه لا يُمنع من شرابه، كائناً من كان.
وتذكر بعض المصادر التاريخية أن المسلمين قد أسروا أحد الملوك الفرنج، وعند استشارة نور الدين مجلسَ أعيانه، تم الاتفاق على أن يفكّ أسر هذا الملك مقابل فدية مالية تصرف في بناء البيمارستان ليكون مستشفى يقدم الدواء والعلاج.
كان «بيمارستان النوري» يؤدّي وظيفة هامة إضافة إلى معالجة المرضى، وتتمثل هذه الوظيفة بتدريس الطلاب وإعدادهم ليكونوا أطباء، وقد عمل في الطبابة فيه أشهر الأطباء العرب، منهم ابن سينا والزهراوي. وكان المرضى يتلقون الدواء والغذاء والكساء مجاناً حتى يتماثلوا إلى الشفاء.
تعرّض البيمارستان خلال حقب تاريخية طويلة إلى تغييرات وتعديلات شتى. فلقد قام الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك والذي كان رئيساً للأطباء والجراحين عام 1239 ميلادياً بتوسيع البيمارستان وأضاف فسحة سماوية ثانية مع خمس غرف.
وعام 1361 ميلادياً، تعرّض البيمارستان للتدمير على يد تيمورلنك، وبعد رحيله عاد لاستقبال المرضى، إنماعلى نطاق ضيق. وقد رُمّمت أجزاء منه في الفترة المملوكية أيام الملك الظاهر بيبرس، واستمر البيمارستان على وضعه هذا حتى أوائل القرن الرابع عشر، وانتهى عصره بعد بناء المستشفى الجديد في دمشق، وغادره أطباؤه العشرون إلى الأبد.
تحول البيمارستان عام 1898 ميلادياً إلى مدرسة للبنات في عهد السلطان عبد الحميد، ثم إلى مدرسة تجارية، حتى رُمّم أخيراً عام 1976 وأصبح متحفاً للطبّ والعلوم عند العرب.
يعتبر المدخل الرئيس للبيمارستان الأثر الأكثر ثراءً في عناصر الواجهات الخارجية، إذ يفتح بالواجهة الغربية، له باب ذو مصراعين من الخشب، مصفّحان بالنحاس، ومزخرفان بالمسامير النحاسية الموزّعة هندسياً.
تعلو الباب زخارف جصية جميلة، صمّمت من تسعة مداميك من المقرنصات التي تعتمد على شكل الورقة المجوّفة؟، وهذا النوع من التشكيل فنّ جديد في سورية أتى به السلاجقة، كما أن تجويف البوابة فنّ جديد أيضاً، إذ تشاهَد الأقواس المؤلفة من سبعة فصوص، كما تتكرّر الأقواس الحدودية لسلسلة البوائك الصمّ مرتين في الداخل ضمن الانحناءات ويتخلّل تلك المحاريب الصمّ أعمدة جدارية تتفرع من أعلاها على شكل شجرة النخيل.
وتحمل الجدران أشرطة كتابية تشير إلى أعمال الإصلاح التي تمت في العصر المملوكي، وسقفت بقبّة عالية تغطيها المقرنصات من الداخل والخارج وتعتبر هذه القبة مع قبة تربة نور الدين القريبة من البيمارستان مثالين فريدين في العمارة السورية.
الإيوان الجنوبي يتميز بكسوته الرخامية وبمحرابه الرخامي الرائع المسطّح والمزخرف الذي يعلوه عقد من الرخام الملون محمول على عمودين مدمجين يعلوهما تاجان كورنثيان، وتحمل الكسوة الرخامية شكل الزنبقة. ويعتبر الإيوان الشرقي أكبر أواوين البيمارستان وكان مخصّصاً لجلوس الأطباء وإلقاء المحاضرات.
أجريت أعمال ترميم واسعة على البيمارستان أواخر السبعينات من القرن الماضي، وتحوّل بعدها إلى متحف للطبّ والعلوم عند العرب، وضمّ المقتنيات والمكتشفات التي تمت في مجال الأدوات المستخدمة في التطبيب والصيدلة والفيزياء والرياضيات لدى العرب والمسلمين.
وأخيراً، ونتيجة لأعمال الأسبار الأثرية التي أجرتها المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية في الباحة الرئيسة لـ«بيمارستان النوري» في دمشق، وفي إطار قرار إعادة ترميم الباحة الرئيسة وإعادتها إلى شكلها القديم، اكتشفت عدّة مواقع أثرية لم تكن مكتشفة سابقاً في البيمارستان، ومن هذه المكتشفات كما ذكرت مصادر مديرية الآثار، الشبكات المائية المتعاقبة تاريخياً التي كانت تزوّد البحيرة المركزية للباحة بالمياه، وجدار كبير بعرض حوالى مترين من المحتمل عودته إلى الفترة السلجوقية، وهو ما يعطيه أهمية أثرية كبيرة بالنسبة إلى دراسة المخطّط المدني المعماري للمدينة القديمة، حيث يتوقع أن يكون «بيمارستان النوري» الذي بني في مطلع النصف الثاني من القرن الثاني عشر من قبل نور الدين الزنكي قد قام فوق هذا الجدار الذي ترافقت البنية الأثرية المحيطة به مع طبقات أثرية تعود إلى الفترة البيزنطية ـ الرومانية، والذي سبق العثور فيها على عدة قطع نقدية تعود إلى هذه الفترة. إلى جانب عدد من المكتشفات الأخرى التي تتمتع بأهمية استثنائية لمعرفة المزيد من التفاصيل عن البيمارستان.
وقد عملت إدارة متحف الطب والعلوم البيمارستان على تطويره من خلال إضافة بعض المقتنيات إلى قاماته الأربع، وكذلك إضافة مشاهد تعبيرية جديدة، وهي: مشهد التعليم الطبي في البيمارستان في الإيوان الشرقي الكبير، ومشهد الفحص السريري في الطب العربي في قاعة الطب، ومشهد الاستشارة الطبية من المعاينة إلى وصف الدواء في قاعة الصيدلة.