«أرباب الشرفة» للكاتبة الفنلنديّة أنيا سنيلمان رواية تستشرف كابوس «الجهاد» القادم من الشمال

كتبت سوسن حسن: هي مشكلة الاندماج بين المهاجرين من جنوب الكرة الأرضية إلى شمالها، والصدام بين الثقافات، وتغلغل الإسلام في المجتمعات الاسكندنافية. إنه الشاغل الأساسي لرواية «أرباب الشرفة» للكاتبة الفنلندية أنيا سنيلمان الصادرة لدى دار «الحوار» وتهديها إلى «الأماكن التي لم توضع على الخريطة»، مثلما لو كانت نبوءة أو حلماً لاستكشاف تلك المناطق وجعلها المكان الذي يمكن أن تعيش فيه البشرية بالشكل المنشود.

تبدأ رواية «أرباب الشرفة» للكاتبة الفنلندية «أنيا سنيلمان»، مواليد هلسنكي، 1954 ، من حيث تنتهي، عندما كانت أنيسة تعاني سكرات الموت وتأخذها الغيبوبة في عالم ضبابي وتحلق روحها في الفضاء الذي حلمت به وعاشت لأجله لتكون النتيجة دفع ثمن الأعراف والتقاليد التي «تحترم بحذافيرها حتى آخر قطرة دم». وطبق الأب والأخوة الذكور حدّ احترام هذه الأعراف في حق أنيسة عندما حاولوا قتلها في الشرفة التي تحمل رمزية الرواية، غسلا للعار.

أنيسة طالبة في الإعدادية، تداهمها المراهقة بكم كبير من الأحلام والأسئلة الوجودية، وتتفتق عن فتاة متمردة لا تقنع بالمسلمات مثلما هو والدها الذي «يعرف منذ نعومة أصابعه الحلال من الحرام. المهم هو الله ورسوله». تضيق بجو البيت المغلق الذي تفرض فيه قواعد سلوكية صارمة مبنية على التمسك المرضي بالموروث الثقافي الآتي من هناك، حيث البلاد التي جاؤوا منها، والتي ما زال يحق فيها لكل فرد من تلك البلاد البعيدة أن يتدخل في شؤون أيّ عائلة هاجرت. مهما بعدت المسافة تطول لائحة الممنوعات: الطعام غير الحلال والموسيقى والرسم وقص الشعر للبنات والمشاركة في نشاطات مدرسية وقراءة الكتب وحضور السينما والاهتمام بأمور البيئة، حتى إن الأم المستسلمة لقيادة رب البيت لا تملك فضولاً لتتعلّم صنع طبق فنلندي ولا اختبار طعام آخر حتى لو كان حلالاً.

كل شيء يخص المجتمع الفنلندي مشكوك فيه، مثل أنيسة المتمردة التي يشك فيها والدها إذ «يحسب على ابنته أنيسة أنفاسها ويراقب حتى ثيابها»، ويسلّط عليها أخوتها الذكور ويجعلهم يرافقونها إلى أي نشاط خارج البيت، فتشتري ضمائرهم برشقهم، وهم لا يفوتون وقت صلاة، كما يحق لهم العيش مثلما يهوون من دون تضييق الخناق عليهم.

أصبح الخوف من الإسلام يسيطر على المناخ الفكري في فنلندا، ما ولّد اهتماماً به كدين وكأسلوب حياة. هاجس أنيسة هو «الحرية» بقدر ما تعاني من العنف الجسدي والمعنوي في المنزل، فحين تكلفها المدرسة بكتابة خطاب تلقيه في عيد الاستقلال، تبدأ الخطاب بهذا الكلام «أسرتي تسكن في فنلندا لأن بلاد أجدادي ترزح تحت نير الحروب، لذلك أصبح من الصعب للإنسان أن يعيش فيها حراً». وتتابع: «أنا هنا للحديث عن فتاة كانت تريد أن تكون حرة طليقة، وتريد أن تكبر بسلام، وأن تصبح امرأة، لكنها لم تستطع». ولم تستطع فعلاً، فأنيسة التي تعرفت إلى وردة وأضحت صديقتها الحميمة بعد فانيليا التي بقيت مكانتها سرية وحميمة في قلب أنيسة، فتحت أمامها أبوابا واسعة للتعرف إلى الحياة، وكانت أم وردة الكاتبة المتحررة الوجودية الحضن الذي احتوى أنيسة واستمع إلى أسئلتها ونجواها وشجنها. في حين كانت أنيسة تكابد الألم المرير على مصير فانيليا المتخفية مذ عادت من الصومال مريضة بسبب إجبارها على الختان فتستهجن أنيسة موقف أم فانيليا: «تتمسك هي برأيها التافه ولا تسمح لابنتها بأن تتمسك بـ ؟» ختان البنات، إنه أم الكوابيس لجميع البنات. وتقرر أنيسة بألا توافق أبداً على قطع عضوها في أي حال من الأحوال.

في المقابل كانت «ألاّ زهرة» اتخذت قرارها ومشت خلف خيارها، فهي طالبة جامعية في قسم العلوم السياسية، تجيد التصوير الضوئي، وإصلاح الكمبيوترات واختراقها، كانت تعيش حياة منفتحة بالكامل، تعاني اضطراباً نفسياً منذ طفولتها، فهي تأخرت كثيراً حتى تكلمت ، و»كانت ترفض أن يلمسها أحد، وتكره أن يعانقها أحد». تبدأ أول نشاطاتها بتصوير فتيات دار الفتيات التي دخلتها في ماضيها للعلاج النفسي بعد الاغتصاب الجماعي الذي تعرضت له، إذ أثارت القصة لدى أنيسة عندما سمعتها على لسان وردة سؤالاً مؤلماً فالاغتصاب في الصومال «عار على الفتاة المغتصبة، وعار لأمها، وعار لأختها، وعار لخالاتها وعماتها، وعار لقريتها كلها». إذن تبدأ «ألاّ زهرة» دعوتها فهي تعرف الباب الذي عليها الدخول منه، ففتيات الدار هنّ «أعضاء جافلة على الدوام، عيون يسكنها الرعب» واعتقدت أن الأخطاء الجسدية في أشكالهن هي السبب، فقامت بتجربة تهميش الجسد وكبحه بتغطيته كاملاً عندهن، واستنتجت أن وجوههن أضحت أكثر رضا، ليسهل عليها إقناعهن بالحجاب لاحقاً.

تتخلى «ألاّ زهرة» عن كل شيء، عن زينتها وأقراطها، وأثاثها وكاميراتها الدقيقة، ولا تحتفظ إلاّ بواحدة، وتنذر نفسها لرسالتها الجديدة بعد مقاطعة الجامعة والكتب والتلفزيون، ولا يبقى لها إلاّ الكمبيوتر. في اجتماعاتها بالمنتسبين إلى المخيم تناقش أمور الحياة والدين والمحرمات وضرورة التخلي عن متاع الدنيا، بمباركة من ريما الحسيني التي تقول في رسائلها: «اصبروا أيها الأعزاء الشباب فإن الله سيجزيكم، وسيحبكم إخوتكم وأخواتكم في الإسلام كثيراً».

إذن تتوب «ألاّ زهرة». وتناجي ربها: «أريد أن أخضع، إرادتي هي أن أسلم، أتوب إليك». وتشعر بالحرية والانطلاق وهي ترتدي البرقع والثياب الطويلة، وتجيب عن أسئلة مجلة الطلاب: «أصبح الخوف من الإسلام يسيطر على المناخ الفكري والثقافي في فنلندا، ما ولّد اهتماما بالإسلام كدين، وكثقافة، وكأسلوب حياة».

أنيسة التي تعرفت إلى وردة واضحت صديقتها الحميمة بعد فانيليا التي بقيت مكانتها سرية وحميمة في قلب أنيسة، فتحت أمامها أبواباً واسعة للتعرف إلى الحياة. «ألاّ زهرة» تسكن ضمن بناية الفنانين، في سكن جماعي، ويجاورها في السكن الشاب الذي كانت تجمعها به علاقة غرامية، وكانت تسميه «ل.ل.». انقطعت علاقتهما بعدما اتخذت مسارها الجديد، لكن هذا الشاب كان فتى أحلام أنيسة المهتمة بأمور البيئة، التقته في محاضرة للباحث الأميركي آلكور حول إنقاذ البحر الميت، وعندما تحققت المصادفة واجتمعت به أنيسة لم يطل الوقت حتى لبت نداء الحب، ووافته إلى بيته، حيث رأتهما ألاّ زهرة وراحت تتجسس عليهما وتلتقط الصور لأول تجربة حب تعيشها أنيسة، ونشرت الصور على الإنترنت، لتكون نهاية لحظة حياة حقيقية بالنسبة إلى أنيسة في ممارسة الحب مع صديقها، إذ كان أبوها وإخوتها في انتظارها ليريقوا الدم على الشرفة غسلاً للعار. وتدخل أنيسة المستشفى لتصبح مشلولة خرساء، لكنها تحلق في عوالمها قبل أن تنهي عذابها الأرضي والدة وردة.

لكن أنيسة تكتب نصها «نص الشرفة» بلا توقيع، بعد أن تكون «اللات والعزى ومناة، يوشوشن في الليل ورياح جيلاب: يأتي الخوف في الليل ويقول: اسمي ختان البنات يريد أن يأخذ قطعة مني حتى يبقى كل شيء على ما هو عليه، هذه قطعة مهمة للغاية تجعل الآخرين يحسون بالأمان، وبدونها تندلع الثورات والحروب، وتشب النار في العالم، ثم ينفجر الكون ويفنى تماما. كل هذا يحدث إذا لم يأخذوا هذه القطعة الضارة التي بين رجليّ».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى