إيشوع لـ«البناء»: سورية أفسدت كلّ المشاريع الأجنبية والأطماع… والاستقلال الاقتصادي سرّ قوتها وصلابة مواقفها
حاورته جودي يعقوب
رأى الناشط السياسي القومي المقيم في السويد حنا إيشوع «أنّ الجيش السوري والمقاومة الشعبية والمواطنين استطاعوا أن يفسدوا كلّ المشاريع والأطماع»، مشدّداً على «أنّ سورية سوف تتمكن من استعادة نفسها بالاكتفاء الذاتي».
واعتبر يشوع في حديث لـ«البناء» أنّ الاستقلال الاقتصادي «كان سرّ قوة الدولة السورية وصلابة مواقفها، ولو أنّ ما تعرضت له حصل في أيّ بلد آخر لانهار تماماً».
ولفت إلى «أنّنا سنشهد المعركة الأبشع والأعنف في ما بعد، أيّ بعد أن تهدأ البنادق والمعارك وتخبو النيران وتدخل سورية مرحلة إعادة البناء»، مشيراً إلى «أنّ ظاهرة داعش مرحلة لا يمكن أن تبني أيّ مجتمع لا في سورية ولا في ليبيا ولا في تونس ولا في مصر، لأنها تنطلق من مفاهيم متخلّفة لا تتوافق مع العصر الحديث».
ورأى «أنّ الهدف من تقسيم المنطقة «هو استنزاف واستهلاك كلّ الإمكانات، وتبقى في النهاية مجموعة بؤر متخاصمة ودول متقاتلة، لا تمتلك إلا أن تكون فقط إمارات أو تجمّعات صغيرة، لأنّ أسس الدولة قد اضطربت فيها وبقيت فقط مشروع طائفة أو مذهب».
وفي ما يلي نصّ الحوار كاملاً:
في السنوات الخمس الأخيرة انطلقت أحداث ما سُمّي «الربيع العربي» وتمّ تسويق هذه الظاهرة على أنها ظاهرة ثورية قد تبنى عليها مجتمعات سياسية ودول مدنية حديثة. في رأيك هل ينطبق على سورية ما ينطبق على سواها من الدول العربية؟
ـ في سورية أثبتت النتائج وبشكل أسرع مما كان يتوقع البعض أنّ هذه الظاهرة لا تختلف في الحقيقة عن أيّ تظاهرة أو أي حركة احتجاج، وهي أقلّ بكثير مما يمكن أن نسمّيه ثورة، فهي لم تأخذ بمفاهيم الثورة ومنطقها وما تستدعيه الثورات من تحضير كوادر ورؤية للمستقبل. بقيت الظاهرة تحت ظلال الشعارات، فوقعت الكارثة التي أصابت المجتمعات والدول التي انطلقت فيها، وعلينا ألا ننسى أنها وقعت في أخطاء. وإنّ أيّ عمل سياسي أو نضال تحصل فيه أخطاء في التطبيق أو ينتابه بعض الفساد أو الخلل يترك معاناة لدى المواطننين ويتمّ التنفيس عنها بالتحرك في الشارع كحالة غضب أو دقّ جرس إنذار، فتُحرف عن هدفها الأساسي ويتمّ توجيهها من قبل جهات داخلية وخارجية نحو تحقيق أهداف معينة.
هل تقصد أنّ هذه التحركات التي بدأت في بعض بلدان العالم العربي جاءت كفرصة ذهبية لطموحات دول متعدِّدة على تماس جغرافي مع تلك الدول أو بعيدة ذات قوة عالمية، أم أنها هي من افتعلت ونشطت وغذت هذه التحركات؟
ـ عادة ما تلجأ الدول الكبرى ودول في مخططاتها إلى استخدام أوراق متعدّدة حسب الأوضاع العامة في البلد المستهدف وحسب الحالة، بمعنى آخر هناك أوراق عدة في يد كلّ دولة لكلّ مجتمع، فيتمّ استخدام ورقة وسحب أخرى تبعاً للواقع المُستجدّ لنفخ هذا التحرك أو تحييده أو مصادرته، فالظاهرة مُركّبة ما بين إشكاليات وتراكمات الداخل ومصالح دول وشركات ومجتمعات متقدّمة تتربّص لأيّ تحرك لتنفذ مصالحها في الهدم والتغيير عبر طرح الشعارات. ولا تكتفي هذه الدول بما يجري على الأرض بل تعمل على تسويق أفكارها وشعاراتها إعلامياً على أنها إنجاز ثوري يمثل خطوة في اتجاه بناء دولة وفق طروحات الديمقراطية والاستقلال، لكن سرعان ما نكتشف أنّ هذه الدول تستغلّ هذه التحركات الزمنية وتطيل الأزمة إلى أن تنضج مواسم القطاف. تلك الدول تستفيد من التخريب وضرب البنى التحتية ومن الشرخ الاجتماعي، والأهمّ من ذلك كله أنها تنتظر أن يعود عليها ذلك بأرباح كبيرة، حين تدخل من نافذة إعادة الإعمار وإعادة هيكلية الاقتصاد. وبالنسبة إلى سورية، فرغم كلّ المعاناة والآلام التي مرّ بها السوريون، إلا أنّنا سنشهد المعركة الأبشع والأعنف في ما بعد، أيّ بعد أن تهدأ البنادق والمعارك وتخبو النيران وتدخل سورية مرحلة إعادة البناء.
رفع تنظيم «داعش» الإرهابي شعار «دولة العراق والشام» أي أنه يسعى إلى تحقيق ما عجزنا نحن عن تحقيقه، فما رأيك؟
ـ «داعش» صُنع لخلق حالة من الرعب في أكبر مساحة ممكنة سواء في الشام أو في العراق وفي أي جغرافيا يحلّ فيها. «داعش» ظاهرة همجية بالمصطلح السياسي الحديث، وظاهرة مسخ للتاريخ الإسلامي وقراءة منحرفة للإسلام، فهو عبارة عن مشروع موقت ومسخ يدمّر من دون أيّ وازع، ولا علاقة له بالإسلام كجوهر أو كدين. هذا التنظيم قائم على فكر تكفيري ينكر الآخر في المذهب والدين والعرق. هناك جهات تقود مثل هذه التنظيمات من وراء ستار لتخلق حالة فوضى لكي تعود في ما بعد على حصان أبيض مزيف. هذه مرحلة لا يمكن أن تبني أيّ مجتمع، لا في سورية والعراق ولا في ليبيا ولا في تونس ولا في مصر، لأنها تنطلق من مفاهيم متخلفة لا تتوافق مع العصر الحديث، وهي ليست لاعباً أصيلاً بل هي مسخ يتمّ استغلاله بشكل سيكولوجي لخلق حالة من الذعر. إذن «داعش» ليس مشروع مستقبل بل أداة ومرحلة تمهيد لخلق بؤر وتقسيم المنطقة وخلق واقع جديد. «دولة العراق والشام» عبارة عن عنوان موقت، وقد رفع التنظيم شعاراً جغرافياً محدّداً، ولكن ما أن استقرّ وسيطر على مواقع متداخلة جغرافياً حتى وقفت ومنع ترويج هذه الفكرة بل انطلق إلى فكر آخر وأطلق تسمية «الدولة الإسلامية» التي تجاوزت هذه الجغرافيا.
هل هي إعادة لمصطلح ما سُمّي «الشرق الأوسط الجديد»؟
ـ هذا صحيح، هذه هي «الفوضى الخلاقة» التي تحدثوا عنها، وهذا هو «الشرق الأوسط الجديد» الذي يسعون إليه، وهو مشروع قائم على تقسيم المقسّم، ويستهدف سورية والعراق وربما لاحقاً لبنان والأردن، وإذا كانت هناك بداية لدولة مدنية في الشام، وبداية نهوض بمشروع الدولة في العراق والتي تجمع إثنيات ومذاهب وديانات وثقافات متعدّدة، فإنّ هذا المشروع، ومن ورائه «داعش»، هو العكس تماماً، ويهدف إلى إقامة تجمّعات دينية وعرقية، وقد لاحظنا كيفية ترحيل أتباع ديانة معينة دون أخرى، وإذا استحال أو انتفى وجود دين مغاير فيتحوّل إلى المذهب المغاير. إذاً الفكرة من وراء التقسيم هي استنزاف واستهلاك كلّ الإمكانات، وتبقى في النهاية مجموعة بؤر متخاصمة ودول متقاتلة. دول لا تمتلك إلا أن تكون فقط إمارات أو تجمّعات صغيرة، لأنّ أسس الدولة قد اضطربت فيها وبقيت فقط مشروع طائفة أو مذهب. فكيف إذا كان المشروع قائماً على فكر تكفيري لا يجلب إلا النمطية وصوراً ونسخاً متكرّرة من دون أيّ إبداع.
في رأيك، هل تحاول أوروبا صياغة «سايكس ـ بيكو» جديداً لتحقيق مصالحها الاقتصادية؟
ـ تاريخ البشرية عبارة عن كمّ هائل من الحروب سُمّيت حضارية أو دينية، لكن هي في الحقيقة حروب بين دول تبدأ صغيرة ثم تنتفخ وتصبح إمبراطوريات فتتنافس وتحاول أن تسيطر على كلّ ما حولها. وقد أثبت التاريخ بعد هذه الحروب أنّ دورة المدّ تبدأ في التراجع حتى تصل إلى نهاية الاستقرار، أي أنّ الفيضانات قد تغرق مساحات هائلة من الأراضي لكن في نهاية المطاف تتراجع المياه وتنحسر. تراجع هذه الإمبراطوريات العسكرية يكون عادة نتيجة ضعفها البنيوي وتراكم السنوات، لكن بعد فترة من الزمن تبدأ الدول بالنهوض من سباتها وتعيد بناء نفسها وتستقرّ. سورية التي تعرّضت طيلة أربعة قرون للغارات العثمانية ينطبق عليها ذلك، وسرعان ما بدأت هذه الإمبراطورية تنهار بعد قرون من الزخم والقوة العسكرية والامتداد، لكن بطبيعة الحال بدأت تعتبرها مظاهر ضعف وارتخاء، وبالتالي بدأت الدول والشعوب المغايرة تنهض وتستيقظ، أما المأساة في ما هو عليه الوضع حالياً أنّ الإمبراطوريات التي أخذت هذه الأوطان واستعمرتها وفتحتها وسيطرت عليها لأطماع اقتصادية لتمويل صناديقها، بقيت كما هي، وحاولت بعض الكولونيات الأوروبية أن تعيد ترتيبها، وهناك نجد بذور ما وصلنا إليه اليوم من تقسيم وتمزيق، والشرخ الذي بدأ حقيقة بـ»سايكس ـ بيكو»، هذا المخطط الخبيث لتقسيم سورية الطبيعية إلى كيانات، وقد عانت سورية من نتائج هذا العقد الشيطاني بين بريطانيا وفرنسا باقتسامهما هذه الأرض وما عليها وما فيها اليوم بعد عقود من الاستقلال، ولأنّ هذه الشعوب لم تستطع أن تبني مفهوم الدولة الحديثة ولم تستطع أن تتواصل مع طموحات الشعوب ببناء تصوّر مشترك بالحدّ الأدنى.
هل تعني أنّ هناك اتجاهاً نحو تقسيم المنطقة على أسس إثنية؟
ـ إنّ ما يُسمّى بالاتحاد الأوروبي حالياً هو عبارة عن اتحاد قارّي بين دول أوروبية متعدّدة بعد عشرات الحروب بينها، وآخرها الحربان العالميتان. إنّ شعوب هذه الدول تتكلّم بلغات متباينة مختلفة بين ألمانية وسكسونية ولاتينية، لكنها رغم ذلك استطاعت في منتصف الخمسينات أن تطلق «السوق الأوروبية المشتركة» وتوحيد الدول التي كانت في الماضي متقاتلة ومتصارعة، بينما لم نستطع في بلاد الشام رغم أننا استقلّينا عن تلك الدول في منتصف الأربعينات إنشاء أيّ ظاهرة توحيد، وبالتالي استطاع الخارج الاستفادة من الشرخ ومن عجز الإنسان السوري، فجزّأت الوطن للحفاظ على مكاسبها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وسيطرت على ثرواته لتغذية مصانعها وإنتاجها ومعاملها بالمواد الأساسية الموجودة بوفرة في بلادنا.
هل ستتمكن سورية من التغلب على هذا المخطط؟
ـ استطاع الجيش السوري والمقاومة الشعبية والمواطنون أن يفسدوا كلّ المشاريع والأطماع، وسوف تتمكن سورية من استعادة نفسها بالاكتفاء الذاتي، وهي التي تعدّ من الدول القليلة التي استطاعت أن تكفي نفسها بنفسها، فالاستقلال الاقتصادي كان سرّ قوة الدولة السورية وصلابة مواقفها ولو أنّ ما تعرّضت له حصل في أيّ بلد آخر لانهار تماماً.
هل يمكن أن يصبح تقسيم سورية أمراً واقعاً؟
تاريخ سورية القريب يذكر اجتياحات كانت أسوأ من ذلك بكثير، نسمع بهولاكو وتيمورلنك، و»داعش» يكاد يكون صورة لما عاشته سورية، لكنّ هذه الحروب القاتلة انتهت واستعادت سورية حيويتها ونهض طائر الفينيق من الرماد. سورية الجغرافيا والتاريخ لا تستطيع أن تتحمّل هذه التجزئة المصطنعة لأنها بيئة واحدة وهذه البيئة تحتضن كلّ هذا التفاعل الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يؤمّن زخماً للمستقبل وإنْ كان يعتريه بعض الفتور. سورية والشعب السوري ربما قصّرا في العصر الحديث عن الأخذ بمقوّمات بناء النهضة الحقيقية التي دعا إليها عدد من المفكرين، وخصوصاً الزعيم أنطون سعاده الذي لو أُخذ ببعض ما قاله كمفكر وعالم اجتماع وفيلسوف وباني نهضة من دون أيّ بعد أيديولوجي حزبي مباشر لكانت سورية خلاف ما هي عليه. لو أُخذ بمقولة امتداد الحياة والشعب الواحد، وإنْ كنا في كيانات متعددة، لحققنا ما حققته أوروبا وأزلنا هذه الكيانات وفعّلنا دورة الاقتصاد بشكلها الطبيعي من دون أيّ توجه مصطنع، وبنينا صناعة مدنية قد تصل إلى صناعة عسكرية، وبالتالي بناء دولة قوية تعتمد على نفسها وخبرات أبنائها. لدينا رأس مال وموارد خام وأيد عاملة وخبراء. هذا التنوّع كان كفيلاً بأن ينهي هذا المخاض ويخلق قوة يكون لها تأثير على مستوى الإقليم، ليستطيع مواجهة كلّ التحديات الإقليمية الموجودة، وبطبيعة الحال عندما تكون قوياً في هذا الإقليم ستكون قادراً على مواجهة القوى الدولية، وإنْ استطاع السوريون الوصول إلى هذه المعادلة سوف يضمنون مستقبل البلاد، بعد أن نصل إلى مرحلة الاستقرار ووقف إطلاق النار.
هل الدولة المدنية كفيلة ببناء مجتمعنا وتقدّمه واستقلاله؟
مبدأ فصل القانون يجب أن يكون فاعلاً ومراقباً على كلّ جهة. الفصل بين السلطات مبدأ ديمقراطي سليم يحفظ حقوق المراقبة، سلطة تشريعية مستقلة وسلطة تنفيذية وسلطة قانونية. هذا الاحترام يؤدّي إلى احترام قانون مدني. سورية المدنية تستطيع أن تحترم كلّ هذا النتاج في صيغة إبداع جديدة، هذه الصيغة تكون قائمة على احترام حقوق الإنسان في الإيمان والقناعة والرأي الشخصي في التعبير خطياً وشفهياً وحقه في التظاهر والانتماء إلى الأحزاب. هذه الحقوق تقوى ببناء دولة ديمقراطية ليس على منهج وأساس طائفي أو مذهبي أو عرقي، وأي حلّ أو تحرك مستقبلي سوف يكون على أيدي السوريين وبإرادتهم ومهما كانت نوايا الأطراف الخارجية القريبة والبعيدة، بمجرد أن تشارك في القرارات داخل سورية أصبحت اللعبة متزعزعة وتركت المجال للتدخلات. الحلّ الطبيعي أن يجتمع كلّ السوريين وأن يتحاوروا ويتوافقوا على صيغة مشتركة. في علم السياسة لا يمكن أن تربح كلّ شيء وتحجب الآخر. العمل السياسي يجب أن يتمّ وفق رؤية مشتركة لحماية الاستقرار وتحصينه، والمرحلة المقبلة ستكون مرحلة بناء ملامح الدولة الجديدة وهذا النهج عبارة عن سلسلة مراحل تلحظ تحرك الإنسان السوري، ولكن من دون تدخلات وضغوطات.
ولكن هناك جهات لا تزال تعوّل على قوى خارجية، ألا يُعيق ذلك أو يؤخر الوصول إلى نهايات مقبولة قريباً؟
ـ عندما نرفض المال القذر الذي سوف يتحكّم بنا وبقرارنا إذاً نحن في مشروع وطن وحوار، عندها يكون التوافق السياسي ممكناً، وهذا الوطن يمكن أن يُعاد بناؤه بشكل قوي وحضاري إذا اعتمد على فصل السلطات وإعطاء الحريات العامة ضمن مفهوم بناء دولة مدنية تفصل الدين عن الدولة بحيث تحفظ وتحترم كلّ الأديان والرؤى والاجتهادات الدينية المتنوّعة.