يبقى خط الشهادة.. الطريق الموصل إلى الحقيقة

د. سلوى الخليل الأمين

تبقى الشهادة هي الحقيقة المغروسة على فوهة بندقية، يحملها مجاهد شجاع، لم يحلم بسلطة مزخرفة ولا بخزائن أموال متخمة، بل كلّ طموحه الكرامة المقرونة بحرية الوطن وسيادته واستقلاله الحقيقي.

هذا المضمون لمعنى الشهادة، هو لسان حال المجاهدين الأبطال، الذين يستحقون منا الانحناء لخوضهم معركة الشرف والكرامات ضدّ العدو الصهيوني على أرض فلسطين والجولان وجنوب لبنان، طوعاً لا قهراً، والهدف خيار شخصي وطني، وإرادة متمكّنة من تطويع القدر، الذي يمنّ بالشهادة على من يستحقها، وهل أعظم من إمرئ اختار الاستشهاد طريقاً من أجل عزة الوطن وسؤدده ومجده؟!

عميد الأسرى في سجن العدو الإسرائيلي سمير القنطار زفّ للشهادة التي تمناها وأنعم الله عليه بها، هذا الشاب الذي اختار في العمر الطريّ خط الجهاد والمقاومة، وغيره من الرفاق قابع في زوايا الملاعب يشوط الكرة أو يلعب التنس أو في الحقول وبين البساتين يضرب بعصاه أغصان الأشجار علّها ترفده بعصفور لقيط.

لا لم يكن سمير القنطار ذاك الصبي الحالم بما يصبو إليه أبناء جيله، كانت أحلامه أكبر بل أعظم، كان حلمه خلف خطوط الشمس، ومدارات الأنجم، ومسارات الطيور المغرّدة باسم فلسطين. حيث فلسطين هي الهدف المرتجى، بل هي الحلم ليافع امتشق السلاح، ومشى على أشرعة الدهر مختاراً مصيره، الذي كتبه على فوهة بندقية سريعة الطلقات، ما إن تدرك صهيونياً حتى ترديه قتيلاً، انتقاماً لشعب فلسطيني مقهور بل مظلوم، شرّد من أرضه ومنازله تحت أنظار الحكام العرب، الذين تشاطروا في طلب السلطة والجاه والمال، دون الأخذ بعين الاعتبار دهاء الغرب وعلى الأخصّ بريطانيا ووزير خارجيتها بلفور، الذي أعطى الوعد لبني صهيون بمنحهم أرضاً لا يملك ذرّة من ترابها…

هذا التاريخ الذي قرأه سمير القنطار لم يمرّ في ذاكرته مرور الكرام، لأنه وقف على تخوم فلسطين مادّاً بصره وبصيرته إلى الهناك، مراقباً حدودها المرسومة على الورق، مندهشاً من ظلم ذوي القربى الذين ضيّعوها، كما هم اليوم على أهبة الاستعداد لضياع كلّ وطن يرسم خط سيره باتجاه فلسطين.

لقد امتطى سمير القنطار الموج، ووجهته نهاريا في فلسطين، ليس بهدف السياحة التي تروق لمن هم في مثل سنّه يومذاك، بل كان الهدف أسمى وأعمق وأرقى… رسمه سمير القنطار بطولة صمت أمام شراسة الاستجواب البوليسي «الإسرائيلي»، حين تمّ إلقاء القبض عليه وعلى رفاقه بعد معركة نهاريا الطاحنة… التي أوقعته أسيراً على مدى 30 عاماً، وحين أفرج عنه بعملية تبادل أجرتها قيادة المقاومة في حزب الله، قال يوم عودته محرّراً من الأسر الإسرائيلي: «أنا لم أعد من فلسطين إلا لكي أعود إليها»، وها قد عاد سمير شهيداً متدثراً هوى فلسطين وملفوفاً براية المقاومة.

من عرف سمير القنطار علم أنه لم يتقاعد عن الجهاد والنضال، ولم يرفع الـ»أنا» الشخصانية، التي رفعته على أجنحة الزمن الصعب مقاوماً جريئاً، بل بقي قلبه أسير اللحظات التي تعيده إلى ساحة الجهاد، كي يكتمل الحلم بالذوْد عن الحق والحقيقة أو الاستشهاد، والسيف بتار في يده، مرفوع في وجه الطغاة أناشيد حرية وكرامة، تلوح فوق روابي هذه الأرض العربية المنكوبة بالعديد من الفريسيّين.

نعم سمير القنطار شهيداً بامتياز، وحراً محرّراً بامتياز، ومجاهداً بامتياز، أليس هو الأسير اليافع الصبور في سجنه على تعسّف بني «إسرائيل» وجبروتهم وإجرامهم وتعذيبهم؟ أليس هو الفدائي المقاوم الذي حمل فلسطين ضميراً يقظاً بل راية جهاد واستشهاد، طالما انطفأت شعلتها على طاولات ومنابر طغاة الكون، المراؤون المخادعون الذين لا يعرفون إشهار سيوفهم في وجه العدو الصهيوني، ولا في وجه المؤامرات الكونية وطغاتها الأشاوس، الذين أرهقونا بالإرهاب وأعمالهم الشريرة! أليس سمير القنطار الأسير المحرّر بل عميد الأسرى الذي قرأ الحرب على سورية مؤامرة استكبارية صهيونية أميركية، لهذا التحف سلاحه ومشى في مناكبها قاصداً خطوط النار في الجولان والسويداء وجرمانا كي يكون المناضل الشجاع الذي لا ترهبه صلافة العدو وإجرامه مهما تعاظمت، ما دام الهدف لديه مقدس وشريف، بل هو النذر المأخوذ بكلّ طيبة خاطر على درب الحقيقة الموصل إلى تحرير فلسطين، ومعها هذه الأمة المبتلية بالعصابات الداعشية الإرهابية، وبمن يساندهم ويموّلهم ويفتح لهم ممرات العبور إلى سورية ولبنان والعراق.

سمير القنطار يرتقي شهيداً في جرمانا في سورية، سورية المنكوبة بخيانة ذوي القربى والرحم، الذين أمدّوا العدو الصهيوني بتأشيرة الدخول إلى الأجواء السورية، واغتيال المجاهد سمير القنطار ورفاقه، دون أيّ اعتراض على خرق سيادة دولة عربية، ما زالت تعاني من مؤامراتهم المشؤومة، بسبب مواقفها المتصدّية للعدو الصهيوني. وهنا يصحّ القول: ماذا يعني اغتيال سمير القنطار، ولم يمض بعض الوقت على صدور القرار الأممي 2254 الأخير الهادف إلى الحلّ السياسي والسلمي في سورية، والذي نصّ صراحة على أنّ الشعب السوري هو صاحب الحق بتقرير مصيره، ومصير قيادته، مشدّداً بالنص الواضح على أنّ «الشعب السوري وحده يقرّر مستقبله بما في ذلك مصير الرئيس بشار الأسد، كما أكد على حرص المجتمع الدولي على سيادة سورية وضرورة أن تبقى دولة موحدة وعلمانية تحترم فيها كلّ الديانات والقوميات المتعددة». وهذا ما أكده وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية جون كيري بالقول: «لقد حان الوقت لوقف القتال في سورية، وإيجاد حلّ سياسي سلمي».

هذا القرار وإنْ أتى متأخرا إلا انه كشف هيكلية وهشاشة السياسة الأميركية، المدعّمة بحلفاء لا يتقنون اللعبة الأممية السياسية، كما تتقنها في المقابل روسيا وإيران والصين، وكلّ من أيّد سورية في أزمتها، وكلّ من كان لها حليفاً قوياً وفاعلاً، إنْ في الأرض أو في الجو أو في كواليس المؤتمرات والصالونات السرية التي تدار فيها لعبة الأمم.

فها هي الإدارة الأميركية تعترف بفشلها في إدارة الأزمة السورية، كما اعترف وزير خارجيتها جون كيري علناً أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال اجتماعه به في سان بطرسبرغ، على هامش لقائه نظيره الروسي سيرغي لافروف في زيارته الأخيرة الحاسمة، قبل انعقاد مؤتمر نيويورك، الهادف إلى إنهاء الحرب في سورية، حيث أكد الرئيس الروسي على بقاء الأسد، وأنّ هذا الأمر لا تقرّره أيّ دولة مهما بلغت عظمتها، بل الشعب السوري فقط، عندها باح كيري بهواجسه التي هي قلق حلفائه من سعوديين وقطريين، حيث منهم من هزم في اليمن، ومنهم من هزم من خلال رهاناته الملتبسة.

لهذا يبقى الأهمّ هو الجهاد ضدّ العدو «الإسرائيلي» وكلّ قوى الاستكبار العالمي والإرهاب أيضاً، ومن يدعمه ويموّله، هو المنحى الذي يقلق هذا الغرب اللعين، المذهول من قوة تماسك سورية بكلّ أركانها وصمود حلفائها وثبات مساندتهم التي أسقطت كلّ الرهانات المشؤومة، عدا عن أنّ رهان حلفاء سورية الأقوياء على النصر بات أمراً حاصلاً، لأنه عمد بشهادة المجاهدين الأبطال، أمثال الشهيد سمير القنطار، بينما في المقابل القرار الأميركي مهزوز وضعيف، والسبب ضعف الفريق الآخر من الحلفاء، الذين ارتضتهم أميركا أدوات لتنفيذ مآربها الاستعمارية الجديدة، وآخر المطاف، هذا التحالف الذي أسبغت عليه الصفة الإسلامية وفرض على دول، أعلنت في ما بعد، عدم معرفتها بالأمر، وهنا الفضحية الكبرى التي لم يحسب لها حساب.

والسؤال الذي يخط الحقيقة بوضوح على سطوره، هو: كيف يمكن التوافق بين ما يجري من تحالفات على أرض الواقع وبين ضرب الإرهاب المدعوم من قيادة هذا التحالف المزعوم؟ والمقصود التحالف الإسلامي الجديد، وبين القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن الدولي مؤخراً بإجماع منظور، بخصوص سورية والقضاء على الإرهاب وكلّ منظماته من «داعش» و»النصرة» و»القاعدة» وغيرهم ممن أوكل للأردن إحصاءهم وتقديم لوائح بأسمائهم.

المهم في النهاية أنّ هناك خريطة طريق قد أطلقت، وأنّ التوافق الروسي الأميركي قد تمّ بإذعان الإدارة الأميركية وتسليمها بنقاط الخلاف، مما يعني أنّ هناك مساراً جديداً قد أقرّ، وأنّ المشكلة في سورية ليست بالنظام، بل بمن خطط ونفذ هذه الحرب اللعينة، وبمن نظم الإرهاب التنيني وأفلته من عقاله، بحيث بات يشكل خطراً واضحاً، ليس فقط على سورية والعراق ولبنان، بل على المنطقة ككلّ، وعلى أوروبا الجارة القريبة وحتى على الولايات المتحدة الأميركية التي لم تسلم من مخاطره، لهذا بات الاقتناع ملزماً للجميع بوجوب القضاء على الإرهاب الذي هو أساس المشكلة.

يبقى الصمود في الميدان سيد المواقف، فسورية والمقاومة ومعهما كلّ الحلفاء لن يهدأ لهم بال، مهما سقط لهم من شهداء في أرض المعركة، إلا حين تصبح القرارات بوقف النار وتوقيف الدعم المالي والعسكري عن الإرهابيين، أمراً واقعاً وملزماً، حينها نرفع شارات النصر الذي عمّده الجيش السوري بصموده وبدماء شهدائه، كما عمّدته المقاومة بأرواح شهدائها المجاهدين، وآخرهم الشهيد المجاهد سمير القنطار.

رئيسة ديوان أهل القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى