أشكالية الوضوح والغموض في العمل الفنّي
د. منصور نعمان
تعدّ مسألة الوضوح والغموض قضية جوهرية من قضايا فلسفة الفنّ، وإن تعدّدت مستويات الوضوح والغموض واختلفت المعالجات من أوجه عدّة، إلا أنّها تشكّل إشكالية في مجمل العمل الفنّي. وإذا كان الوضوح مسلّمة يتقصّد الفنان إيصال رسالته الضمنية في عمله الفنّي إلى جمهوره العريض، فإنّ الغموض في العمل الفنّي يتضمّن هو الآخر رسالة ويبتغي الغاية ذاتها في إيصال رسالته، وخلق استجابات ما، باتجاه محدّد أو باتجاهات متنوّعة. والغموض من هذه الناحية لا يعني تشرنق العمل الفنّي حول نفسه، من غير محاولة لفتح بنيته، ومدّ الجسور بينه وبين المتلقي ـ الجمهور.
ويلاحظ أنّ غموض العمل الفنّي، ولنفترض أنّه مسرحيّ، يجتهد في إثارة فضول المتلقّي والغوص فيه. وبالتالي خلق استجابات من زوايا غير متوقّعة، انبرى الفنان من أجل أظهارها وزجّها ضمن عمله المسرحي، أو في ابتكار صوَر فريدة من خلال كيفية ما في استخدام تقنيات العرض، أو في معالجة نصّ العرض ذاته بما يساهم في زيادة درجة التعلّق والاندفاع صوب العمل المسرحي.
وقد يثار عدد من التساؤلات أو علامات الاستفهام، في موضوع ما أو موضوعات، وقد لا تجد جواباً عما نصل إليه أو نصطدم به من التساؤلات لأنها بدورها تثير عدداً آخر من التساؤلات، وهكذا دواليك. فالسؤال الذي يطرح للإجابة عنه، جنينياً يحمل في داخله سؤالاً آخر، وكأنا نعجز عن الإجابة، إلا أننا في الوقت عينه، نزداد حيطةً وقدرةً ونشاطاً في فهم ما يدور حولنا أو محاولة تفهّمه.
إن الإثارة في العمل الفنّي، سواء كان مسرحاً، أدباً، تشكيلاً، أمر لا بدّ منه، وتتوقف درجة الإثارة على وعي الفنان من جانب، ووعي المتلقي من جانب آخر. فكلما كان الفنان باحثاً متمرّساً، قادراً على الالتقاط، منتبهاً، وشغوفاً، يتميّز بذاكرة حادة، استطاع أن يستنفذ طاقته ويزجّها ضمن إطار عمله الفنّي، الذي يشكّل منجزاً جمالياً يدخل إلى دائرة الضوء، ولهذا يتم التركيز على الشكل الفنّي. للعمل بوصفه حاوياً لبنيته.
ومن هذه الزواية يعدّ الشكل عمقاً للمضمون، مثلما يكون المضمون عمقاً للشكل، وقد يكون صوغ العمل المسرحي من حيث حواره المنطوق سواء كان شعراً أم نثراً، أم في الصياغات الأسلوبية المختلفة للحوار، كأن يستخدم فيه المجاز أو التورية، والشخصيات المسرحية وما تحمله من حيوية وطاقة في الحركة الداخلية لهم وما ينتابهم من خلجات واحتراق أو الحركة المجسدة فعلياً على خشبة المسرح. وقد يولي الفنان المخرج ومصمّم سينوغرافيا العرض، غموضاً في درجة تنظيم فضاء المسرح، وبطبيعة الحال، إنه يبتكر وسائلهُ من خلال تقنياته المسرحية من أجل تكوين عمل فنّي، بشكل جمالي يسترعي الانتباه والدهشة، وزجّ التساؤلات تباعاً، حتى لا يكاد المتلقي يلتقط أنفاسه. فالتساؤلات والتشوق ولهفة المتابعة، كلها تجري دفعة واحدة من أجل أسر المتلقي وضمّه ضمن نطاق العمل المسرحي. وقد تتجلّى مستويات الغموض في الخوض المسرحي في درجة الالتماعات الفلسفية المنطوقة على لسان الأبطال، أو تلك المرئية من خلال التكوين الجمالي لتوزيع الممثلين على خشبة المسرح المينرانسين أو بفعل طبيعة تنظيم مساحة العرض المسرحي السينوغرافيا ، أو شكل ترتيب الفعل الدرامي، سواء كان ينمو أو يتقاطع أو يتجاور أو يتناظر، أو يتداخل الفعل ـ الحدث مع فعل آخر.
إن الفنان الذي يجد في عمله وسيلة من وسائل الكشف عن رؤيته إزاء الحياة وما يعتمل فيها من اصطراع، فإنه يروي تعطشه من خلال إشراك المتلقي في خضمّ تجربته التي قد توصف بأنها غامضة. ولا نجد غرابة في ذلك، فقد لا يفهم العمل الفنّي في حينه سواء كان مسرحاً، أم فناً تشكيلياً، أم عمارةً، فأحياناً تتجاوز رؤية الفنان زمانه وعصره وقد يتجاوز حدود درايته الفنية والجمالية والفلسفية، قصوراً في معرفة مجتمعه، بعدم فهم كلّي أو جزئي لفنّ من الفنون، وهو لا يلغي الدور المناط بالفنان ولا يعني فشله. فالبحث عن المتلقّي النبه وإشراكه يتطلّب مهارة ودقة، مثلما يتطلب من المجتمع تنمية الذائقة الجمالية وتربيتها، ليصاغ مفهوم يتعلق بعدم نبذ الجديد والغريب وغير السائد وغير المستساغ جمالياً.
الوضوح والغموض يشكلان معاً موقفاً فلسفياً في الحياة. فالوضوح لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال تسطيح الأفكار بقدر اختيار أقصر الطرق وأقربها إلى ضمّ المتلقي ـ الجمهور إليها. من غير أن يفقد العمل الفنّي الكثير، وإن بالغ في التوضيح، سيسقط في هاوية التسطيح وبالتالي عدم وجود منافذ حقيقية للتأثير، وخلف استجابات الذوق الفنّي وتنميته.
ويرتبط وضوح العمل وغموضه في الحاضنة الاجتماعية والفكرية التي تشكّل مناخاً موائماً لعملية النمو والتأصيل. فكلما كانت المجتمعات تنشد التطوير والرقي، بحثت عن الوسائل الكفيلة لتحقيق هذا الهدف السامي، فضلاً عن كون الفنّ برمّته، يقرن بحركية الحياة ومفاصلها المتعدّدة. فمن الصعب القول، هناك مسرح متقدّم، ورواية متخلفة، ذلك لأن دائرة نظرية الأدب، التي تتشكل في حياة المجتمع، هي في جلّها تنشد التكامل والتعاضد، ولهذا يكون الوضوح والغموض مقرونَيْن بحيوية الإنسان وحركيته العالية في مجتمعه، لأنه في نهاية المطاف هو من يشكّل وجود العمل الفنّي أو نفيه.
باحث عراقي