المطران غريغوار حداد ثائراً ومفكراً: المسيح لم يقدّم طقوساً لأحد ولم يأت لجماعة تحتكره لها وفيها وكأنه زعيم عصابة

تقديم وحوار هاني الحلبي

في البدء كان الحب.. وكان الحب غريغوار حداد!

وبتوقيت الميلاد قرّر الرب ميلاداً جديداً للحب في بلادنا والعالم فبعث غريغوار حداد فكرة لا تموت وقضية لا تتوقف، بموت جسد صبور على نفس صاحبه الكبيرة، فإن كانت النفوس كبيرة تعبت في مرادها الأجساد!

فأمس، عرّى تشييع المفكر الكبير، فيلسوف التيار المدني والعلمانية الشاملة في لبنان، المطران غريغوار حداد في كاتدرائية النبي إيليا في وسط بيروت، بحضور بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك غريغوس الثالث لحام وعائلة المطران الفقيد، لبنان دولة ومجتمعاً لولا تيار مدني ينظم مسيرة ولولا حضور سياسي محدود قدّم التعازي.

وكان تيار «المجتمع المدني» نظمّ مسيرة وداعية حاشدة، لمؤسسه المطران حداد، خلال تشييعه، شارك فيها مناصروه ومحبوه الذين أتوا من مختلف المناطق والطوائف والأطياف اللبنانية.

وانطلقت المسيرة من أمام مركز التيار في منطقة بدارو في بيروت، مروراً بمنطقة المتحف، ثم ساحة الشهداء، وقد حُمل نعش حداد على الأكتاف، وصولاً إلى كاتدرائية مار الياس للروم الكاثوليك في ساحة النجمة وسط بيروت، حيث أقيمت الصلاة لراحة نفسه.

وتقبلت عائلة الراحل التعازي في صالون الكنيسة، وحضر معزياً النائب ميشال موسى ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، وزير السياحة ميشال فرعون ممثلاً رئيس مجلس الوزراء تمام سلام، النائب إيلي عون على رأس وفد كبير من الحزب «التقدمي الاشتراكي» ممثلاً النائب وليد جنبلاط، رباب الصدر ووجوه إعلامية وثقافية وسياسية وحشد من مناصري المجتمع المدني.

المطران حداد كان بنّاء جسور بين اللبنانيين في أحلك الظروف وفي الأوقات العصيبة التي انقطعت فيها أواصر الصلة بين اللبنانيين، بإقامة ندوات ولقاءات ثقافية تؤكد نهج الحوار والتفاعل والتواصل بين مكـونات المجتمع اللبنـاني المتعددة. ولا شك في أن لأفكاره الإصلاحية، كتيار مدني وعلمانية شاملة، رغم ثوبه الكنسي، دوراً فاعلاً في تأكيد المواطنة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد بمعزل عن انتمائهم الطائفي أو المذهبي. فأطلقها تيار إصلاح في الكنيسة والمجتمع تركت صداها في الإصلاحات الكنسية الأخيرة التي استحدثها الحبر الأعظم البابا فرنسيس.

… لا يغيب صوتُ المصلح عن الوجدان، مهما وصفه كثيرون بـ«المطران الأحمر» أو بلون آخر، وبتحرير لاهوت أم بدونه هو هو، لا يأخذه استسلام للحظة في انتصار الوعي وتحرير الإنسان والمسيح معاً من تاريخ مديد من انحرافات كنسية وإمبراطورية وإسلامية سلطانية ودينية، نَحَتْ بالأديان نحواً حزبياً خالصاً بلا روح.

كان لا بدّ من «صوت صارخ في البرية»، ولو كان من سريره الأبيض بعد 4 سنوات على إقامته القسرية في «بيت السيدة»، في بيروت، حافلاً بسنينه الست والثمانين الغنية بالجهاد، والتي لم تفتّ في عضده في ريعان شيخوخته الهادئة.

باركتُ له أن تلتفت «الرابطة الثقافية» بتكريم الشهر الماضي في انطلياس، وسألتُه أن آخذ معي وردة حمراء. فرح بالفكرة، لكنه طلب بسمتي وكفى. قبلتْ. زرتْه حاملاً كاميراي وأسئلتي وفرحي كله.

كان هادئاً كعادته، لكنّ آراءه، ليست كذلك، واثق من ثورة الكنيسة على نفسها، ولو بعد حين، لتعود مسيحية روحية حقة متحدة في إسلام موحّد شعاره لا إله إلا هو، فرد صمد، واحد أحد، مسيح قيّوم..

لم نتحدث في السياسة، لكنه لم ينسَ تمني الخلاص لسورية من محنتها وقيامتها واحدة موحّدة بالوحدة الوطنية فوق الجراح.

زرتُ المطران غريغوار حداد، في حوار روحي عن الفصح والإيمان والمسيحية، هنا نصه..

مطران غريغوار، ما نظرتك إلى الفصح؟

أرى الفصح أنه انتصار المسيح على الشر، الشر بما هو خطيئة. هذا الانتصار نفسه هو انفتاح المسيح على جميع البشر. هذه هي حقيقة المسيح مخلصاً للبشرية وهذا الخلاص هو المسيحية نفسها، المسيحية بحق.

ولسوء الحظ، تمّ فُهمُ المسيحية عبر التاريخ خطأ، على أنها كنيسة، او مجموعة كنائس متناقضة أو متباينة على الأقل، وهذا اختزال مدمّر للمسيحية مناقض لطبيعتها الأصلية. فعندما تكون المسيحية كنيسة يصبح المسيح مسيح جماعة معدودة بأشخاصها وبطقوسها، والمسيح لم يقدّم طقوساً لأحد ولم يأت لجماعة تحتكره لها وفيها، وكأنه زعيم عصابة أو مسيح فئة ضد فئة معاكسة. وهذا الخطأ تمت ترجمته سابقاً بأن المسيح أتى لبعض الناس، أي للمسيحيين دون غيرهم، بينما الآخرون مصيرهم الهلاك والجحيم. وحقيقة المسيح أنه خلاص مطلق للبشرية جمعاء، رحمان رحيم. فهو للبشر كافة بمساواة كاملة.

وشهد تاريخ المسيحية انحرافات كثيرة، كما شهد تاريخ الإسلام انحرافات كثيرة أيضاً، أدخلت الرسالتين نظرياً وتطبيقياً في منزلقات بعيدة جداً عن الحكمة منهما.

كيف يمكن تصحيح هذه الانحرافات، والحد من انحرافات جديدة؟

تحاول المؤسسات الدينية ورجال الفكر والتنور المسيحيون والمسلمون حالياً معالجة هذا التاريخ من الانحرافات والتشققات والانقسامات داخل كل دين منهما، وبينهما كذلك، لتنقية هذا التاريخ من التشويهات التي أصابت جوهر الرسالتين باكتشاف المسيح وتحرير مفهومه من تلك التشويهات.

اكتشاف المسيح وتحريره

كيف تكتشف المسيح وتحرّره؟

نحاول اكتشاف المسيح على قدر ما وُهبت أرواحُنا من شفافية ونفوسنا من عرفان وعقولنا من تنوّر، ونحاول اكتشافه على حقيقته وكما هو وكما أراد أن يكون لنا، وليس كما صوّر لنا، حسب ما اكتشفه بعضُهم وفق مقاييسهم هم أو أحكامهم المسبقة. وفي الواقع جمعتُ ما توصلتُ إليه في كتاب هو «تحرير المسيح والإنسان»، تحريره من كل المشوّهات اللاحقة به بوصفه زعيماً بشرياً حزبياً وليس مخلصاً للبشرية جمعاء.

وكيف تحرّر المسيح في نفسك؟

أحرّره مما علق به، بمعرفته على حقيقته فيتميّز عما علق به. حالياً كثرٌ من المؤمنين توصلوا إلى عرفان معرفة المسيح على حقيقته ويبشرون به هكذا. فالمسيح مؤمن بالإنسان، كل إنسان، بلا تمييز عنصري أو عرقي أو فئوي، فلا يرفض بشرياً أو إنساناً، كل إنسان بأبعاده الإنسانية الجسدية والنفسية والروحية، لأنه مطلق الحب والرحمة.

لكن الحقيقة بحسب الواقع، أن المسيحية منذ ألفًي سنة كنائس، كيف تستطيع تحرير نفسها من تعدديتها لتحرّر المسيح فيها؟

المسيحية الحقيقية ليست كنيسة ولا كنائس متعددة، بل هي روح محبة مطلقة لا تحدّها طقوس أو نواميس. حالياً يتّجه المسيحيون المتنورون لتحقيقها هكذا بعد أن يتحرّروا هم من انقساماتها وتشويهاتها وتأثيرها عليهم.

والحقيقة أن الإقرار بالتعددية ليس فقط ضرورة، بل هو تكشّف جوهر حضور المسيحية وغير المسيحية من الرسائل السماوية الأخرى. إنها تعدّدية. هذه لفظة حلوة وقيمية أيضاً، وهي صفة لازمة للمسيحية عبر تاريخها، وهذه التعدّدية ليست كحالة جزئية فئوية حزبية ضد فئات وأحزاب أخرى غيرها، مختلفة عنها ومتعدّدة معها، بل تتجه البشرية، وإن ببطء، إلى لقاء حضاراتها وأديانها وشعوبها في حياة روحية واحدة، فيلتقي المسلمون والمسيحيون في بوتقة إيمانية واحدة.

رغم أن هناك تباينات اعتقادية ليست قليلة بينهم، في مقولة صلب المسيح وموته، بينما يعتبر المسلمون أنه شبّه للمسيحيين أن المسيح صُلب، لكنه رُفع إلى السماء…

المسيح رابط مشترك بين كل المؤمنين في الأديان السماوية، كل دين يقول بالمسيح، ولو رَسَمَهُ بما يباين الدين الآخر، لا دين منها يقول بأنه ليس مخلصاً. المسيح هو كلمة الله وروح الله، كما يقول القرآن، وهذا التعبير الروحي رائع وشفاف في ذات المسيح، في أنه كلمة وروح، الكلمة تعبّر عن معنى الله والروح هي جوهر الله، وما جوهر الأمر غير الأمر نفسه وهو ذاته. وهذا وجه من وجوه الالتقاء الجوهري في الإيمان الواحد ولو تعدّدت مصطلحاته وتوصيفاته.

المسيح ابن الله؟

لكن المسيح يوصف كذلك أنه ابن الله، فكيف يكون ابنه وهو كلمته وجوهره وروحه؟

المسيح هو ابن الله، كما يقول بعض المسيحيين، وهذه البنوة لا يمكن أن يظن عاقل أنها بنوّة جسدية، بنوّة المسيح لمريم العذراء، فالمسيح روح موجود قبل وجود مريم كإنسان وجسد بشريين، والروح خالدة موجودة بوجود مسببها منذ بدء التكوين والأزل، وبما هو كلمة الله فهو التعبير الكامل عن ذات الله بحقيقته الشاملة الكاملة. والقول بالثالوث، هو ثالوث الأبعاد في ذات واحدة، كما أن أسماء الله الحسنى لا تدل إلى 99 إلهاً بل 99 بعداً لإله واحد أحد فرد صمد، كذلك ليست الأبعاد الثلاثة هي ثلاثة آلهة: آب، إبن وروح قدس حتى يظن بعضهم أن التثليث في المسيحية شرك. هذا فهم خاطئ وقاصر للمسيحية. رغم أنه رائج جداً شعبياً.

حكمة الفصح!

برأيك ما الحكمة من الفصح؟

لإرادة في ذات الله عندما حان وقت تغيُّر الزمن، كان الفصح خلاصة تجربة صلب المسيح وموته وقيامته، يعني أن الحياة الجسدية لم تعد محصورة فيه، بل صار حضوره في أي إنسان في العالم وعبر الأجيال بلا انقطاع، لم يبق محاصراً ومحصورا في الجسدية المادية.. في الإنجيل تقرأ أن الحواريين كانوا 12 حوارياً داخل القاعة والأبواب مغلقة ويحاصرها اليهود من خارجها، لكن المسيح دخل إلى القاعة من دون أن تُفتح له الأبواب ومن دون أن يقرعها! ما يعني بوضوح أن الحواجز والقوى المادية، أياً كانت، لا تعيقه او تحدّه بل يخترقها، هو روح الله في العالم بأبعاده الشاملة.

في الفصح لم يعد الموت موتاً بل صار انتصاراً على الموت، من حيث اعتبار الموت زوال جسد فقط، الفصح هنا هو حياة جديدة بلا عمر محسوب بالسنوات يحياها المسيح في قلب ووجدان كل مؤمن بالله الحي القيّوم وأراد لكل إنسان أن يعيشها معه بموته في الفصح.

ولو لم يكن الفصح لكان مضى جسد عيسى بن مريم في جنازة ودُفن وأُهيل عليه التراب، وأُهيل النسيان على الإيمان المسيحي، لأنه لا يكون إيماناً حقيقياً حينذاك، فيكون موتاً بلا قيامة. القيامة أهم أسرار المسيحية، لأنها إرادة الحياة التي لا نهاية أو ولا موت بعدها.

ليتمكّن كل إنسان من لقاء كل إنسان والتواصل معه وفيه، هكذا المسيح أيضاً يقبل الله الكل كما هم بتنوّعهم وتعددهم وتباينهم…

هناك اعتقاد شائع أن المسيح ولد في أسرة يهودية بينما هناك دلائل كثيرة تناقض هذا الزعم، مثلاً نفى المسيح أن يكون من نسل داود بقوله «أنا رب داود فكيف أكون ابنه؟». كذلك تكلّم بالآرامية السريانية وليس العبرية… ماذا تقول؟

المسيح ولد يهودياً وسمّى اليهودية بالناموس، لكنه تحرّر من أحكامها الجامدة وثار على كهنتها ومنطقها وما تعنيه من علاقات مادية أرضية معيقة انطلاق الروح وسموّها، ليكون الفصح المسيحي قيامة بعد موت جسد مادي والتحرر من ربقة قيود الشريعة، تحرراً من أية عنصرية مسبقة مهينة للإنسان وسامية بحبها لخلائق الله على اختلافهم لوناً وشكلاً ولغة وطريقة حياة.

بعض الباحثين قارنوا بين تجربة بعل من عذاب وموت وقيامة وفصح المسيح، كيف ترى إلى هذه المقارنة؟ وإلى أي مدى مرتبطة المسيحية بالتراث الديني المشرقي السابق عليها؟

نقرأ في الإنجيل «في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله»، أي قبل اعتبار المسيح يهودياً في دور ما، كان مسيحاً كلمة، ابنا لله، وروحا لله، والروح في القرآن هي «من عندِ ربي»، ما الذي يمنع أن يكون بعلاً في دور بعل وغير بعل في دور آخر؟ كلمة واحدة لأقمصة بشرية عدّة ولو اختلفت التسميات. إنما حقيقتها ورسالتها واحدة.

«شركة ومحبة»

«شركة ومحبة» شعار طرحه غبطة البطريرك بشارة الراعي، هل قدر هذه الشركة والمحبة أن تصلب دائماً على أيدي جهلة البشرية؟

يتأمَّل ويبتسم نعم، قدرُها أن تصلب وتموت وتقوم وتصبح الإنسانية الجديدة. أتذكّر قولاً للسيد محمد حسين فضل الله، رحمه الله، «نحن والمسيحيون مختلفون خطأ. فهم يقولون إن المسيح صُلب ومات وقام. ونحن المسلمين نقول رفعه الله إليه». تعابير مختلفة لحقيقة واحدة. المسيح الحيّ القيّوم. وأرى أن تطور الفهم المسيحي والإسلامي يرسم قدرهما معاً وهو اللقاء في توحيد الله والمسيح القيّوم. فيقبل كل منّا الآخر ليكون الإيمان الواحد في الله الواحد الكلمة الأزلية، وإن تعدّدت تعابيرها عبر العصور والحضارات والأجيال.

في يوم ما، ربما قريب، أتمنى أن يتعمق المسلمون في الإسلام والمسيحيون في المسيحية فيدركوا أن المسيح علاقة الإنسان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد ولا إله إلا هو.

الدين إسلام توحيدي برسالات عدّة

أشار أنطون سعاده إلى لقاء الرسالات السماوية في بلادنا بمقولة «الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية»، واعتبر كلاً منا مسلماً لله إما بالإنجيل أو بالقرآن أو بالحكمة، هل التوحيد في المسيح هو هذا الإيمان التوحيدي الإسلامي؟

نعم، لكن ليس فقط بين الرسالتين المسيحية والمحمدية فقط، بل مع كل الديانات الأخرى اليهودية والبوذية التي تؤمن بإله واحد، ولو تعدّدت طرائق الإيمان به أو عباداته.

هل تخشى على مصير المسيحيين في الشرق وسط التغيرات الراهنة عربياً وصعود نجم السلفيات المتطرفة؟

نعم، أخشى من هذه التطورات العربية على المسيحيين الذين اختزلتهم المسيحية التاريخية في كنيستها ولم يكتشفوا روح المسيحية الحقة انطلاقاً نحو الآخر بحبٍّ. هذه المسيحية الروح الكاملة للقاء المتجسدة في كل إنسان وفي كل فرد بلا استثناء. هذه المسيحية الأصيلة لا أخشى عليها مطلقاً، مهما كانت الظروف، لأنها بقوة الحبّ تقهر التحديات وتنتصر عليها.

قيمة الإيمان

كيف تواجه الألم؟

يبتسم ويصطبغ وجهه بحرارة دافئة وفرح باسم ويقول: بالإيمان. فالألم بالأمل والأمل بالإيمان. كل القوة عند المؤمن تختصرها عبارة التوحيد: لا إله إلا الله. الله وحده لا شريك له. الله أكبر…

قلتُ: أحتجّ: القول إن الله أكبر أي أنه أكبر مما هو أصغر منه، حاشا الله أن يحدّه مقياس وبُعد وحجم…

يبتسم للفكرة هو أكبر من دون تحديد ومقايسة، أي أنه أكبر من شيء ما، إنه الأكبر المطلق مما ليس هو، وبرأيي من الأفضل القول: لا مطلق إلا الله، وكل ما هو غيره محدود.

أصرّت «حازوقة» عليه حتى أعاقته عن الحكي بوضوح.. فاعتذر عن المتابعة وحبكت الطرافة ..

قلتُ: غارتْ منا؟

ضحك وقال «بتحبّ تعملّلي سربريز» مفاجأة .

مفاجأة إيجابية؟

كل شيء هو إيجابي.. أتمنّى فقط أن تسلَمَ سورية مما يصيبها.. «ضيعانو بشار». يا رب تحمي سورية.

قلتُ: استعادت الدولة المبادرة، تراجع مستوى الجنون الدولي، كما يُلاحظ من القرار الأخير في مجلس الأمن في إصراره على قيادة سورية للحوار والإصلاح ووقف العنف. وهذا تقدُّم كبير للإمساك بالوضع الداخلي مجدداً وحماية الدولة والمدنيين وتكريس الإصلاح بحقّ.

أومأ برأسه الوديع موافقاً.. داعماً أمنيته السورية…

.. وكان اقترب موعدُ عملي، فاستأذنتُه. ودّعني بهدوئه المطمئن. وانكبّ على كتاب محظوظ بين يديه عاد كان يطالعُه قبل مجيئي، يفتح باب التأمل.

لم ينسَ أن يطلب مني أن أطفئ مصباح الغرفة قبل إغلاق بابها .

وأغلقتُ باب غرفته حينها، لكن الأبواب التي فتحها لقاؤه وحواره في روحي وعقلي وثقافتي لم توصد قط، بل انفتحت على آفاق بلا حدود أنارت عقلي وإرادتي وغدت عصية على الإغلاق.. هل هي تسلم مهمة الثورة الفكرية على أصنامنا التي يجدر بنا حقاً انتزاعها من أذهاننا ومن قلوبنا ومن أرواحنا وإيداعها متاحف الحياة والمجتمع؟ هل هي المسؤولية التاريخية التي يتنكبها الأحرار ولا يعنيهم ما يسومه من عذاب وإنكار من الآخرين لأجل فكرة وحركة الحياة وتجويدها؟ هل هي العقيدة التي تنبث فينا نازعة بأجسادنا إلى جلجلة الحب وبأروحنا على جنة الصلب لتتجوهر؟ لكن المطران الجليل لم يطلب مني مهمة ولا أمراً ولا مسؤولية.. فقط ألقى بسمته ومشى… بل لم يمش لأنه متوسّد سريره بهدوء كأن حركة الحياة طوع إصبعه.. عاجز عن إطفاء مصباح غرفته، فلم يجد حرجاً أن يوكل إلي مهمة إطفائه.. هو فعل الكلمة المحبّة التي تحيي وتنبث كالهواء في الأحياء فتنمو بها قضية تساوي الوجود.

عَزْلُ المطران حداد، ومحاصرته والتضييق على أفكاره وتنويره، بل وضربه بأساليب جاهلية يندى لها جبين الإنسانية والمسيحية الحقة حصراً، يدين من قاموا به ومن ارتكبوه عبر الأجيال.. هو فعل كهنوت بليد ترفّعت عنه الحياة ولفظه العقل إلى حيث يستحق. وبقي المطران الراحل صوت حقيقة جاذبة حية نابضة معطاء نامية بقوة الحياة وفعلها.

الفعل التحرير للعقل والذهن والإيمان والتفلسف الأنيق والنابض الذي حول الفكرة الواضحة والمدققة بمسؤولية إلى حركة علمانية بانية ممتدة وتترسخ بالتفاعل اليومي النفسي والاجتماعي، بوأ المطران غريغوار حداد، فيلسوفاً بلا جدال، ومحرراً العقول والقلوب من أصنام السوق ومن أصنام المسرح ومن أصنام الكنيسة والناموس. وعلى المثقفين مهمة لا تقل جلالة عن دور الراحل، هي تفعيل هذا الزخم واستدامته فعلاً حياً لا تأتيه سكينة موت ولا تأخذه سنة نوم قط. وأول ما يجب القيام به تحويل جامعاتنا حراكاً فكرياً علمانياً يتعرف ويعرف الشاب على تراث المطران الراحل، وتحول كنائسنا ومساجدنا وحوزاتنا وخلواتنا حلقات إيمان راقٍ يرى إلى الدين صراط وحدة روحية في الله غنية عن رتابة الطقوس وما تراكم عليها وعلق بها من تقولات جزئية وغريبة عنها شكلت فقهاً حزبياً في الدين لتفجيره من داخل بالمذهبية والطائفية واللاهوت المتطرف والفقه الإرهابي المتحرج تكفيراً وعنفاً، تحويلها حركة إيمان جامع مانع ترى إلى المسيح مخلصاً حقاً من جمود الكهانة التي أصابت قلب الأديان كافة وحولتها احزاباً تصطرع على جنس الملائكة وعلى شرعية الخليفة!!

ومَن أجدر من أمتنا بمخلص وتتناتفها أطماع أمم كواسر من الشمال والجنوب والغرب، كل يريد منها إقليماً وابتدع فيها كنيسة أو دولة او جيشاً دينياً أو فرقة أو بدعة تسوّغ مطامعه السياسية القومية باسم سلطة الله!

ومَن أجدر بشعبنا ان يحفظ دماء أبنائه الميامين الذين تستسقيها أحزاب الفتنة باسم حور العين والغداء مع الأنبياء في سماء ما، فتدمر عمرانه، وتسلبهم عقولهم ليتحولوا قنابل موقوتة على صمام المشغل الجاهلي والقواد المحلي، ويهتفون بالتكبير وهم يتناثرون في زوايا الأزقة والشوارع وأحياء التنك التي ابتزها الأجنبي في فقرها جهلاً وأتى مجدداً ليبتزها بالاستعباد الداخلي المتدين في دينها في تجهيل مطبق يغطي سماح الله بتخدير سياسي واستغلال مصلحي واستهداف طائفي!!

متى نعي؟ عندما تتكشف لنا هذه الحقيقة لله، للمسيح، للدين، للأمة المؤهلة للانتصار بشبابها الناهض، عندما ندرك «أن لم يتسلط اليهود على جنوب بلادنا إلا بفضل يهودنا الحقيرين في ماديتهم، الذليلين في عظمة الباطل». وإن مواجهة هؤلاء ما زالت هي هي، بالسوط أطردكم من بيت أبي، يا بناء الأفاعي»، بأي زي تلبّستم، وبأي هيكل من هياكل الرب كرزتُم وتلوتُم، ما لم ينير قلوبكم الحب، فلستم منه وليس منكم!!

ليكن رحيل غريغوار حداد جسداً باعث إطلاق عمل فكري وسياسي واجتماعي موحد يصلح الكنيسة والمسجد والخلوة والحوزة، في آن واحد، ويصلح الدولة والسياسة والمجتمع، على اختلاف مكوّناتنا وتياراتنا وأفكارنا، وفي هذا الرد الحضاري المؤسس لدينامية جديد تتخطى ذبح «داعش» وأكلة الأكباد في «النصرة» وأخواتها..

ناشر موقع حرمون، www.haramoon.org gmail.com

هو نص المقابلة المنشور في موقع حرمون ونشرة صدى النضال، أردنا تعميمه عبر «البناء» في الصفحة الثقافية لقيمته وتحية للمطران الراحل.

غريغوار حداد.. مقتطفات من سيرة نضاله

اسمه الحقيقي نخلة أمين حداد من منطقة سوق الغرب ولد عام 1924، وغيّبه الموت عن عمر يناهز الـ91 سنة بعد صراع طويل مع المرض. سُمي مطران الفقراء والمطران الأحمر.

العام 1968 انتخبه سينودس الروم الكاثوليك مطراناً على ابرشية بيروت وجبيل وتوابعهما سنة وبقي حتى سنة 1975. وأسس خلال هذه الفترة مجلة آفاق ونشر فيها مقالات لاهوتية روحية. في آب 1975 نشبت أزمة بينه وبين البطريرك والسينودس، بسبب مقالات آفاق. وتقرّر عزله عبر نقله من أبرشية بيروت إلى أبرشية «أضنا» الفخرية، لكن تقرير الفاتيكان أقرّ ببراءته من كل انحراف لاهوتي نسب إليه.

وفي العام 1978 طُلِب منه أن يكون مطراناً بديلاً عن المطران الياس زغبي في بعلبك، مدة ستة أشهر.

1986-1987 طلب السينودس من المطران حداد أن يكون مدبراً بطريركياً لأبرشية صور بعد وفاة مطرانها لسنة وثلاثة أشهر. 1992-1997 اعتكف في دير للمتوحّدين في فاريا، ثم اللقلوق – العاقورة.

في العام 2000 أسس مع مجموعة من المناضلين العلمانيين «تيار المجتمع المدني». وهو حركة سياسية مجتمعية علمانية تسعى لبناء مجتمع الإنسان. 1998-2002 اعتكف المطران حداد في بطريركية الروم الكاثوليك – الربوة وبقي حتى وفاته.

تمّ الاعتداء عليه بالضرب من شاب مغمور وموتور يُدعى كارلوس عبود في 15-06-2002. ولما اتصل به رئيس الجمهورية مستنكرا وطلب منه ماذا يريد أجابه بأنه يريد تيسير مطالب الفقراء والناس.

له كتب عديدة أبرزها: – العلمانية الشاملة – علم العَروض – تحرير المسيح والإنسان – المسيحية والمرأة – تأملات روحية – البابا ولبنان – القواعد العربية -.Liberer le Christ et LHomme – Meditations Spirituelles.

نادي الشقيف ـ النبطية أضاء الشموع «تحية إلى روح المطران حداد»

مصطفى الحمود – النبطية

أضاء نادي الشقيف في النبطية، الشموع تحية إلى روح المطران غريغوار حداد «الرمز اللبناني الوطني الديني السلمي والمتسامح والمنفتح والإنساني»، بحضور ممثل النائب ياسين جابر المحامي جهاد جابر وعدد من الشخصيات والفاعليات الاجتماعية والتربوية والسياسية والمدنية. وقد حمل رئيس وأعضاء الهيئة الإدارية للنادي والمنتسبون إليه والحضور الشموع أمام مقر نادي الشقيف في النبطية ووقفوا دقيقة صمت حداداً على رحيل مطران الفقراء ووفاء لنضاله الوطني والروحي نحو مجتمع مدني حيّ وإنسان نقي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى