وجوه فرجينيا وولف… فوتوغرافيّات فرويند تقول إنّ الكاتبة العميقة المكتئبة «كانت هناك»
كتب عبد الإله مجيد: كلّ يوم يمشي مئات على بورتريه فرجينيا وولف. غالبيتهم يعرفون ما تطأه أقدامهم، فهي مرسومة على أرض بهو الغاليري الوطنية بالموزاييك الذي أنجزه الفنان بوريس أرنيب عام 1933. وتظهر وولف بوصفها إحدى ربات الوحي «كليو ربة التاريخ» يوقظها «أبولو» أوسبرت ستويل و»باخوس» كلايف بيل بين بورتريهات أخرى مثل بورتريه الممثلة المشهورة غريتا غاربو. لكن وولف المعروفة بنفورها من أضواء الإعلام والشهرة أزعجها كشف الفنان عن هوية الأشخاص الذين جلسوا أمامه لرسم آلهته وآلهاته. وكان هذا النفور في صلب الموقف الذي اتخذته من رسمها ونحتها وتصويرها فوتوغرافيا على أيدي محترفين.
لاحظت عضو جماعة بلومزبري الكاتبة فرانسيس بارتريج أن وولف بدت في العديد من الصور الفوتوغرافية كأنها امرأة «مجنونة على نحو خطيرا» ، لها السحنة ذاتها التي عرفتها في مرضى راقبتهم بارتريج في مستشفى للأمراض النفسية. ولعل وولف نفسها أدركت ذلك وكانت تمقت أن «ترى نفسها». لكن الطلب على تصويرها وإجراء مقابلات معها تعاظم مع تنامي شهرتها ابتداء من منتصف العشرينات. ورفضت وولف إجراء مقابلات معها ، وقدمت بعض الحقائق الى وينيفريد هولتبي التي كانت تكتب دراسة عن روايات وولف لكنها رفضت لقاءها. كما أن كتب وولف لم تحمل على غلافها أي سطور عن سيرة حياتها، في حين أن غالبية ما كُتب في نعيها عام 1941 تضمن أخطاء أو ثغرات. ومن المعروف أن وولف لم تظهر إلاّ مرة واحدة في صورة نشرت في الحصف التُقطت لها خلال منحها جائزة أدبية عن روايتها «إلى المنارة».
تبدَّى وعي وولف الذاتي بشكلها في مظاهر متعددة. ومن أشد هذه المظاهر حدة أن ارتداء ملابس جديدة لحضور مأدبة عشاء أو حفلة كان مصدر رعب لها يضاهي تقريباً رعبها لدى نشر كتاب جديد. وفي حين أن العديد من أصدقائها وصديقاتها كانوا يتذكرون جمالها وتميّزها جسدياً فإنهم لم يغفلوا التعليق على ضيقها الذي يكاد يكون طفلياً حين تكون مع آخرين ، ولم تكن تشعر بالاسترخاء في الواقع إلاّ مع عائلتها وأصدقائها الحميمين. ومن حسن الحظ أن بعض أفضل صورها الفوتوغرافية هي التي التقطها زوجها ليونارد أو شقيقتها فانيسا بيل.
أما صور المحترفين فقضية أخرى. هناك سلسلة مشهورة لصور فرجينيا ستيفن اسمها قبل الزواج التقطها جورج تشارلس بيريسفورد في صيف 1920 يوم كانت في العشرين من عمرها، وكان الجمال الذي ورثته من أمها جوليا واضحاً للعيان، لكنه تأثر ربما بما نعرف نعرفه اليوم عنها، خاصة التغيير الذي أحدثته في قسماتها تلك الفترة الرهيبة من الجنون بين عامي 1913 و1915 إذ كانت أربع ممرضات يسهرن عليها وبالكاد كانت تعرف أن روايتها الأولى نُشرت. وظلت ملامح ذلك الجمال باقية لكن رؤيتها كانت «مؤلمة»، بحسب قول زوجها ليونارد.
كانت ترتعب بالقدر نفسه من الجلوس أمام الرسامين. ويكتب المؤرخ الفني ريتشارد شون في صحيفة «الغارديان» أن الفنان دنكان غرانت الذي رسمها حين كانت لم تزل فرجينيا ستيفن عام 1911. قال له إنه كان يعرف أن عليه العمل بسرعة فائقة «وإلا فإنها قد تنهض وتغادر». ويبدو أن ذلك ما فعلته حقا لأن عمله كان ناقصاً بجلاء ومن شبه المؤكد أنه أُنجز في جلسة واحدة. لكنه مع ذلك اقتنص شيئاً من حضورها اللماح إن لم يلتقط الجوانب الظاهرة من جمالها. وبعد نحو عام رسمتها شقيقتها في أربع مناسبات، وكانت كلّها بورتريهات صغيرة ظهرت فيها بوضعية بعيدة عن التكلّف. وثمة صورة واحدة تصور قسمات وجهها في المعنى التقليدي. ورغم أن بيل أنجزت عدة بورتريهات لها كانت الوجوه فيها خالية من التعبير فإن مما له مغزاه أن ثلاثاً من لوحات شقيقتها تشترك بهذه السمة تحديداً. لكن صورة واحدة لفرجينيا على كرسي شاطئ بدت فيها فرجينيا على حقيقتها، بحسب زوجها الذي ربما كان يعني أن وضعية الاسترخاء والتأمل كانا خير تعبير عن حياتها.
ممّا لا شك فيه أن وعي وولف بنفسها كاد يؤدي الى كارثة حين وافقت على مضض على الجلوس للنحات الشاب ستيفن توملين في صيف 1931. وكان توملين من معارفها ومعارف العديد من أصدقائها ، ومتزوجاً من الكاتبة جوليا ستراتشي. كانت فرجينيا في صحبة أليفة. وكانت مقررة ست جلسات، لكنها انتفضت بعد الجلسة الرابعة. إذ بات الجلوس عذاباً وهي التي كانت في حالة من التوتر بعد إعادة روايتها الأشدّ تعقيداً «الأمواج» للمرة الرابعة. وكرهت فرجينيا دراسة النحات لرأسها من الزوايا كلها، وبعد إقناعها بالجلوس مرتين أُخريين صرفت النظر عن المشروع.
مع تعاظم شهرة وولف كان يُطلب منها في أحيان كثيرة الجلوس أمام مصورين محترفين، وخاصة بطلب من الناشرين الاميركيين. ورفضت مرات كثيرة تلك الطلبات وكانت تعتمد على ليونارد لالتقاط صورها أو إرسال صور قديمة نسبيا. لكن هناك سلسلة مختلفة من الصور لم تُنشر إلاّ بعد سنوات على انتحارها ، ربما تعيدها الى الحياة أكثر من أي شيء آخر. وكانت تلك السلسلة هي الصور التي التقطتها أوتولاين موريل يوم كانت وولف ضيفة عليها في قريتها عام 1926. فهي تصور وولف واقفة أو تضحك أو تقرأ او جالسة تتحدث مع ضيوف آخرين ، بعضها تصوّرها وهي تدخن واضعة نظارات، لكنها التُقطت كلها في فترة قصيرة ، ساهمة ، ضاحكة ، تبحث عن تعبير. وهي صور، بحسب المؤرخ شون ، أقرب ما تكون الى «فيلم» عن وولف التي لم تُصوّر سينمائياً قط وثمة تسجيل واحد غير موثوق لصوتها طوله بضع دقائق.
هناك في مرحلة لاحقة صور من عقد الثلاثينات التقطها مصورون معروفون بينهم مان راي وجيزيل فرويند ألمانية المولد. وغير معلوم إن كانت وولف مطلعة على أعمال راي قبل أن توافق على الجلوس أمام عدد ستة في لندن عام 1934. لكن صور فرويند التي التقطتها عشية اندلاع الحرب عام 1939 ذات قيمة عالية، ليس لأنها فريدة بتصويرها وولف في منزلها في لندن فحسب بل، لأنها صور ملوّنة أيضاً. وكانت فرويند رائدة التصوير الفوتوغرافي الملون والتقطت بورتريهات لكتاب مثل جيمس جويس وصامويل بيكيت والدوس هكسلي والعديد سواهم.
رفضت وولف مرتين السماح لفرويند بتصويرها قبل أن تذعن. وأبدت موافقتها على تغيير ملابسها لاختيار الأنسب مع تناغم الألوان، لكنها أصرت على تصويرها مع زوجها ليونارد وكلبهما بنكا. وتظهر وولف في بعض الصور شاحبة ، تجاعيد وجهها بارزة وتظهر في اخرى مبتسمة قليلاً وأكثر شبابا. وتضفي خلفية القماش واللوحات الجدارية التي وضعها المصوّران بيل وغرانت قيمة إضافية على قيمة الصور. فتلك كانت صومعة ملكة جماعة بلومزبري تقام فيها حفلات ويحضرها أصدقاء لتناول الشاي. وبعد ما يربو قليلاً على عام دُمر المنزل في الغارات الألمانية، ولكنّ الصور الجدارية تُركت لبعض الوقت معلقة ، مكشوفة للزمن ، مثلما كتب لاحقاً صديقاها ستيفن سبندر ووليام بلومر ، بوصفها بقايا عالم آيل الى الزوال.
لا يمكن للصور أن تنقل إلينا إلاّ قدراً محدوداً من الموضوع نظراً إلى تأثرها بمتطلبات المصور ونزواته وأسلوبه. والتقط بيريسفورد صوره بموافقة وولف، لكن لأجل أن تكون هذه سجلاً عائلياً. وكانت سلسلة اوتولاين موريل أقرب المتاح الى وولف بوصفها كائناً اجتماعياً. وكانت صور مان راي صفقة محض تجارية. وسلسلة فوتوغرافيات فرويند خليط مجزٍ من الموضوع كشخصية معروفة والمعلومات البيتية عنها. وسيبقى «صوان شخصية وولف وقوس قزحها» يفلتان دائماً منا. ولنا أن نقرأ ما نشاء في هذه الصور كلها، لكننا قد لا نستطيع البتة القول «فإنّها كانت هناك» ، مثلما تكتب وولف في السطر الأخير من روايتها «مسز دالواي».