«داعش» وأولويات أميركا الثلاث
د. عصام نعمان
تطورت «داعش» مؤخراً من «الدولة الإسلامية في العراق والشام» إلى «دولة الخلافة الإسلامية» بإقليمها الجغرافي الممتد من جرابلس في أقصى ريف حلب الشمالي الغربي المحاذي لتركيا إلى الموصل في أقصى شمال العراق الغربي، وصولاً إلى أقصى جنوب محافظة الأنبار حيث منطقة المثلث العراقي الأردني السعودي. إنها «دولة» حدودية وسطى بين العراق وتركيا وسورية والأردن والسعودية.
صحيفة «أوزغور غونديم» الكردية التابعة لـِ«حزب العمال الكردستاني» والصادرة باللغة التركية كشفت 4/7/2014 أن «غزوة داعش» للعراق تمّ طبخها في عمّان بمشاركة من رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني وبرعاية الولايات المتحدة و«إسرائيل» والسعودية والأردن وتركيا، وأن إيران علمت بخطة الغزوة، وأوفدت أحمد الجلبي إلى البارزاني لتحذيره من مغبة المشاركة فيها حتى لا يندم في المستقبل.
ما الغاية من وراء الغزوة؟
تنسب الصحيفة إياها إلى «ديبلوماسي شرق أوسطي» له صلة بطبخة الغزوة أن غايتها «خلق المزيد من الفوضى في الشرق الأوسط ما يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى السلفية للتقدم نحو تحقيق أهدافها…»
كل ذلك يطرح سؤالاً مفتاحياً: ما موقف أميركا وإيران من «داعش» و«دولة الخلافة الإسلامية»؟
لعلهما تتفقان، في الظاهر، على رفضها. لكنهما تختلفان، في الباطن، في طريقة التعامل معها والإفادة من دورها.
المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية جين بيساكي استخفت بإعلان «دولة الخلافة». قالت إنها «لا تعني شيئاً للناس في العراق وسورية إلاّ محاولة السيطرة على الناس بالخوف». لكنها لم تقل إنها لا تعني شيئاً لأميركا.
إيران رفضت «دولة الخلافة» واعتبرتها مجرّد وسيلة لتأجيج فتنة بين السنّة والشيعة في المنطقة. لم تستخف بها بل لعلها استشعرت خطورة مفاعيلها، فأوفدت نائب وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان إلى موسكو ليتدارس الأمر مع وزير الخارجية سيرغي لافروف وليصرّح بعد المحادثات: «الوضع في المنطقة يثير القلق لأنّ بعض دولها يدعم التكفيريين».
واشنطن تشاطر طهران وغيرها التخوّف من «داعش»، وتبدي استعداداً لدعم حكومة العراق، لكنها ترهن الدعم بشروط سياسية. فهي تريد من القادة العراقيين أن يوحدوا إرادتهم السياسية ويترجموها إلى حكومة ائتلافية يتمثل فيها الجميع. الغاية المتوخاة من وراء هذا الشرط مزدوجة: تأمين الفعالية اللازمة لدعم الجيش العراقي في حملته على «داعش»، وتوفير التغطية السياسية اللازمة لأميركا للتدخل العسكري المباشر في الحرب.
لا تبدو أميركا مستعجلة لمواجهة «داعش». ترى أن لـ»داعش» دوراً في تخويف خصوم واشنطن في المنطقة، وأن في إمكانها توظيف هذا الدور في مصلحتها قبل أن يحين الوقت لضرب «داعش» وتقويض «دولة الخلافة». فللولايات المتحدة، حالياً، ثلاث أولويات في المنطقة تتقدم على قضية مواجهة «داعش». إنها، أولاً، حمل إيران على قبول تسوية لبرنامجها النووي تناسب مصالح دول مجموعة 5+1، ولا سيما مصالح دول الحلف الأطلسي. وثانياً، ردع سورية عن محاولة دحر المجموعات المسلحة لـِ«المعارضة المعتدلة» ودفع الطرفين إلى مواجهة «داعش» تمهيداً للذهاب إلى جنيف مجدّداً للتفاوض على حلّ سياسي للأزمة. وثالثاً، تعميق حال الفوضى في المنطقة لتبقى أميركا صاحبة اليد العليا في إعادة رسم خرائطها السياسية.
للوفاء بمتطلبات هذه الأولويات تعتمد الولايات المتحدة سياسة الضغط غير المباشر على طهران ودمشق. الضغط على إيران ترجمته واشنطن مؤخراً بالامتناع عن تسليم بغداد الطائرات الـ36 من طراز «أف 16» التي كانت اشترتها وسدّدت ثمنها وذلك بدعوى وجود موانع فنية ناجمة عن هجمات «داعش» الأخيرة التي حالت وتحول دون إتمام عملية التسليم. التأخير في تسليم الطائرات يؤخر بالضرورة استكمال جاهزية الجيش العراقي لمواجهة «داعش»، كما يلقي على عاتق إيران موجبات لوجستية إضافية لدعم العراق ما يتسبّب بدوره في إرهاقها اقتصادياً.
الضغط على سورية ترجمته واشنطن بتدبيرين: الأول، تخصيص 500 مليون دولار لتمويل وتسليح المجموعات المسلحة لـِ«المعارضة المعتدلة» في صراعها مع حكومة الرئيس بشار الأسد. الثاني، الضغط على حلفاء سورية، ولا سيما حزب الله، ومحاصرته في محاولة لتجفيف موارده المالية. فقد أمكن تمرير قانون «حظر التمويل الدولي على حزب الله» في مجلس النواب تمهيداً لإقراره في مجلس الشيوخ، وهو يقضي، وفق أسبابه الموجبة، بِـ«استخدام كلّ الوسائل المتاحة لمكافحة أنشطة الحزب الإجرامية بغية تعطيل قدرته على تمويل أنشطته الإرهابية العالمية». ويفرض القانون على وزارة الخزانة الأميركية تحديد «المصارف المركزية» التي تخالف القوانين الأميركية بتقديمها الدعم لحزب الله، أفراداً وجماعات».
تستفيد منظمة «الدولة الإسلامية» داعش من ضغوط الولايات المتحدة على إيران وسورية فتمدّد «إقامتها» في المدن والبلدات والمناطق العراقية والسورية وتجذّر وجودها فيها بل تشجع «أمير المؤمنين الخليفة إبراهيم» أبو بكر البغدادي على دعوة المسلمين في كلّ مكان للهجرة إلى دولته، وعلى أن يقطع عهداً على نفسه بحماية المسلمين في أماكن أخرى!
تدرك واشنطن، بلا شك، المخاطر المتأتية عن تجذّر «دولة الخلافة الإسلامية» بمرور الزمن في العراق وسورية. غير أنها تراهن، كما يبدو، على قدرتها على تحقيق هدفيْ خطتها في آن: الإفادة من دور «داعش» في الضغط على إيران وسورية، وتوفير الدعم العسكري اللازم لأعداء «داعش»، ولا سيما حكومة العراق والمجموعات المسلحة لـِ«المعارضة السورية المعتدلة»، للقضاء على عدوهما المشترك حتى لو اقتضى الأمر تدخلاً عسكرياً أميركياً مباشراً.
لطمأنة أعداء «داعش» من أصدقاء واشنطن وخصومها سرّب مسؤولون أميركيون، عسكريون وسياسيون، إلى وسائل إعلام صديقة ومعادية جوانبَ من خطط عسكرية ترمي إلى مواجهة «دولة الخلافة» في الوقت المناسب. تنطوي الخطط على عمل عسكري تقوم بموجبه الطائرات والوحدات الخاصة الأميركية باستهداف مواقع وتجمّعات لـِ«داعش» داخل الأراضي العراقية والسورية. العمليات العسكرية المُراد تنفيذها لا تعيقها أي حدود جغرافية، لكنها لن تتناول أهدافاً للجيش السوري أو للقوات الرديفة الداعمة له بل تتطلب تنسيقاً بين الحكومة العراقية والمعارضة السورية المسلحة.
ما العوامل التي ستجد واشنطن، عند توافرها، أنها تستوجب مباشرة عمل عسكري ضدّ «داعش»؟
يتجنّب المسؤولون الأميركيون التخصيص والتوضيح، لكن أحدهم قال إنه «في حال رأينا أن موظفينا أو منشآتنا مهددة، وإذا ما رأينا أن تهديد «داعش» يمكنه أن يعرّض مصالح الولايات المتحدة للخطر، بالنسبة لأمنها الداخلي «أو في أي مكان من المنطقة والعالم، سوف نقوم بعمل مباشر بما في ذلك الفعل العسكري».
من الواضح أنّ حرص المسؤولين الأميركيين على إحاطة خططهم بمقدار من الغموض يُقصد به إعطاء بلادهم هامشاً واسعاً من حرية الحركة والمناورة يتيح تحقيق غايتين متداخلتين: الضغط على إيران وسورية في محاولة لحملها على تقديم تنازلات أو القبول بالتفاوض حول قضايا معينة من جهة، ومراقبة «داعش» ومحاصرتها وتأمين وسائل ضربها وتقويضها من جهة أخرى.
كلّ ذلك يعني أنّ الصراعات في دول المنطقة مستمرة وكذلك استنزافها لأمد طويل، الأمر الذي يسمح لأميركا، في ظنّها، بأن تبقى صاحبة اليد العليا في إعادة رسم الخرائط السياسية للمنطقة.
وزير سابق