خواطر من وحي الأيام

معن بشور

تلاقي المولدين

«كان محمد كلّ العرب فليكن كلّ العرب اليوم محمداً»، دعوة أطلقها مؤسس البعث ميشيل عفلق على مدرج جامعة دمشق عام 1943 في ذكرى الرسول العربي، وما زالت صالحة في زمن التمزّق والتناحر الدموي مستوحية المعاني السامية والقيم الإلهية التي حملتها سيرة «رسول الحرية»، كما عنوان الكتاب الرائع للكاتب المصري الكبير الراحل عبد الرحمن الشرقاوي، بما يؤكد تلازم الحرية والوحدة والعدالة في رسالة الإسلام الخالدة.

ولعلّ تزامن إشراقة المولد النبوى الشريف مع إطلالة ميلاد السيد المسيح هذا العام هي إشارة إلهية بتكامل الرسالات السماوية، فيما يسعى أهل الغلوّ والتعصّب والتوحّش الى تشويه هذه الرسالات وتحويلها الى متاريس دموية بين الناس.

فكلّ عام وأمتنا بخير وقد استعادت لمسرى الرسول حريته ولمهد السيد المسيح ألقه ولأقطار امتنا السلام والأمان والكرامة والوحدة.

هدية يونانية لأهل الأقصى والقيامة

أجمل هدية يقدّمها اليونانيون لأهل الأقصى والقيامة في عيدي المولد الشريف والميلاد المجيد هو اعتراف برلمانهم بالإجماع بدولة فلسطين مجسّدين إنسانية القضية ومذكّرين بعض المنتسبين اسماً إلى أمتنا انّ فلسطين هي البوصلة. بالمناسبة اليونان الدولة الوحيدة التي رفضت عام 1947 قرار التقسيم رغم ضغوط واشنطن واغراءاتها. فتحية لشعب اليونان لا سيما أولئك الرواد في كسر الحصار على غزة.

اختلفوا معه ولم يختلفوا عليه

حين أبلغني الصديقان أحمد الدان أمين عام حركة البناء الوطني الجزائرية والوزير السابق عبد القادر بو قرينة خلال انعقاد ملتقى الشيخين نحناح وبو سليماني في مدينة بومرداس خلال احتفالات الذكرى الـ61 لانطلاقة الثورة الجزائرية في تشرين الثاني الماضي أنني سأكون في عداد باقة من الشخصيات الجزائرية والعربية التي سيجري تكريمها، وانّ المجاهد الكبير حسين آيت احمد سيكون بين المكرّمين، كانت سعادتي كبيرة ان تجمعني باقة التكريم مع من كان في بلاده ثائراً عظيماً ثم معارضاً عنيداً في كلّ عهود الاستقلال منذ أوائل الستينات حتى اليوم.

لقد اختلف جزائريون كثر مع الراحل حسين آيت أحمد الذي أمضى الجزء الأكبر من عمره متنقلا بين السجون والمنافي، لكن الجزائريين في المقابل لم يختلفوا ابداً على وطنية الرجل وصدقه وحسن خلقه ونظافة كفه، فبقيت له مكانة خاصة وموقع متميّز بين أبناء شعبه، وهو أمر نحتاجه كثيراً في حياتنا السياسية العربية حيث «يؤله» البعض من يؤيده و«يشيطن» من يختلف معه، فنبتعد عن نهج الإنصاف والموضوعية في تقييم الأشخاص والحركات والتجارب، لنحمّل الحاضر عبء صراعات الماضي وندمّر المستقبل في توترات وحساسيات عشناها في مراحل سابقة.

رحم الله حسين آيت أحمد أحد التسعة الأوائل الذين فجروا الثورة الجزائرية، ورفيق الرئيس الراحل احمد بن بله في عملية السطو الشهيرة على بريد وهران لتمويل الثورة وزميله في السجن لسنوات بعد ان اختطف الفرنسيون طائرتهم في 22 ـ 10 ـ 1956 عشية العدوان الثلاثي على مصر، وممثل الجزائر في مؤتمر باندوننغ عام 1955، كما المدافع عن ثورتها في الأمم المتحدة، ورحم الله رفيقه في الثورة عبد الحميد مهري، واأطال الله عمر رفيقه في الحزب المجاهد الميداني سي لخضر بورقعه، فقد انصفا عندي الرجل الذي ظلمه كثيرون وظلم بدوره كثيرين، فقد كان آيت أحمد وطنياً جزائرياً كبيراً، وكان ابناً مخلصاً لبيئته «القبائلية» مدركاً انّ الأوطان لا تقوم إلا بتكامل بيئاتها، وانّ وحدة المجتمعات لا تتعزز إلا باحترام التنوّع فيها.

لاهوت التغيير والتجديد

منذ ان غيّر المطران الجليل الراحل غريغوار حداد اسمه من نخلة إلى غريغوار تيمناً بقريبه بطريرك العروبة والانفتاح غريغوريوس الحداد رفيق الأمير فيصل في رفض الانتداب الفرنسي وفي رفع العلم العربي في لبنان، والمطران غريغوار، «مطران الفقراء»، كما كان يطلق عليه، يقود لاهوت التجديد والتغيير داخل الكنيسة والمجتمع مواجهاً لعقوبات كنسية قاسية جعلته في نظر البعض «المطران المحروم»، فاجتمع عليه حلف غير مقدّس بين أهل الجمود وأهل المصالح اتهموه بالانحراف، وهو اتهام ما لم توافق عليه كلّ لجان التحقيق الكنسية المحلية والفاتيكانية. مع ذلك واصل المطران مسيرته الإصلاحية في الكنيسة والمجتمع ليتحوّل رائداً في لاهوت التغيير والتحرير في المنطقة والعالم، لا سيما في اميركا اللاتينية في أواسط سبعينات القرن الفائت. كان بحق ابو المجتمع المدني الذي رفض ان يراه إلا عابراً لمجتمعات الطوائف والمذاهب المنغلقة، كما رفض ان يفهم الدين الا خدمة للناس، فمن يخدم الناس يخدم الله، فأسّس مع لبنانيين من البيئات والطوائف كلها «الحركة ا جتماعية» ليصل الى كلّ المناطق النائية مقدّماً نموذجاً متقدّماً للتكامل بين الدولة والمجتمع قبل ان تصبح الدولة في واد والمجتمع مجتمعات. وحين قام متعصّب مهووس في حزيران 2002 بالاعتداء عليه بسبب «الآفاق» التي حاول ان يفتحها بعيداً عن الجمود والتزمّت اكتشف اللبنانيون ومعهم كلّ العرب انّ التعصّب الذي يبدأ ضدّ الدين أو المذهب الآخر سرعان ما يتحوّل ضدّ أبناء الدين والمذهب ذاته.

وداعا ايها المطران غريغوار فما تركته من بصمات لن تمحوه الأيام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى