مثلث الصراع بين السعودية وروسيا…!
سومر صالح
للمفارقة التاريخية كان الاتحاد السوفياتي أول دولة أجنبية اعترفت بالمملكة العربية السعودية وأقامت معها علاقات دبلوماسية في شباط من عام 1926، وللمفارقة التاريخية أيضاً عكست تلك العلاقات الدبلوماسية طوال العقود الماضية حالة أشبه بمناخي البلدين، فبين برودة شديدة أبدتها روسيا الاتحادية في أعقاب استئناف العلاقات الدبلوماسية في عام 1990 كإجراء طبيعي على السياسة السعودية المعادية للاتحاد السوفياتي طوال العقود السابقة إيديولوجياً، ودخولها في حرب بالوكالة ضدّها عبر تنظيمي «القاعدة» و»طالبان» في أفغانستان، هذه العدائية السعودية استمرّت لاحقاً ولكن بمستويات أقلّ عن الحقبة السوفياتية، تخللتها فترات من التوتر وأحياناً الغليان كما حصل في الشيشان والقوقاز، ولاحقاً سورية وتترستان، ولكن برودة أعصاب القيادة الروسية منعت مراراً انفجار تلك العلاقات والانزلاق نحو المواجهة الشاملة أمام رعونة سياسات آل سعود، لتأتي الأزمة السورية عام 2011 كمنعطف حساس ومصيري للعلاقات السعودية الروسية.
ففي مقابل سياسة سعودية صِدامية وثأرية مع روسيا تعكس البنية البدوية لهيكليتها السياسية في محاولة ثنيها عن موقفها من سورية عبر بعث رسائل تهديدات مبطنة بزعزعة استقرار روسيا مستغلة ورقة الإسلاميين في الشيشان وتترستان تارة، والتلاعب بأسعار النفط تارة أخرى، في محاولة إرباك الخيارات الروسية، كانت السياسة الروسية متوازنة وهادئة وحاولت مراراً احتواء الرعونة السعودية في سورية في مقابل الاعتراف بمصالحها الحيوية في اليمن، وتجسّد ذلك بامتناعها عن التصويت على القرار 2216، ودعوتها لإقامة تحالف دولي لمكافحة الإرهاب بتاريخ 29/6/2015 في الشرق الأوسط من دون ذكر الجمهورية الإيرانية في إشارة روسية تؤكد مسعى موسكو للتوصل إلى تسوية مقبولة مع المملكة في الملف السوري، ولكن السعودية أصرّت على موقفها من سورية، ولم تجدِ إغراءاتها الاقتصادية وعروض الاستثمار السعودي لروسيا في مجالات الدفاع والطاقة والفضاء وحتى الطاقة النووية في ثني موسكو عن موقفها.
على ما يبدو، لم تدرك المملكة جدية النوايا الروسية في تغيير نمط العلاقات الدولية القائم على مفاهيم الهيمنة والعبودية الاقتصادية إلى نمط جديد تحكمه مبادئ القانون الدولي والاعتراف المتبادل بالمصالح الحيوية، كمقدّمة لإعادة ترتيب النسق الدولي ولاحقاً تغيير شكل النظام الدولي إلى عالم متعدّد الأقطاب، حتى وإنْ بقيت الولايات المتحدة قوة عظمى، وأمام احتمالات العدوان خليجياً وتركياً بقيادة أميركية على سورية جاء الدخول الروسي المباشر في الميدان السوري بتاريخ 30/9/2015 بطلب من القيادة السورية ليفرض معادلات ميدانية تعجّل في القضاء على الإرهاب في سورية، وتقوّض دعائم المشروع الأطلسي الخليجي في سورية، وحتى الأسبوع الأول من الدخول الروسي حافظت روسيا على سياستها الهادئة بعدم المواجهة مع السعودية ولم تشنّ الطائرات الروسية أيّ غارات على مواقع الإرهابيين المقرّبين من نظام آل سعود، لا سيما في ريف العاصمة دمشق، ولكن آل سعود أصرّوا على موقفهم في سورية وصدر بيان من علماء الدين في المملكة يدين بشدة الدخول العسكري الروسي في رسالة سعودية مفادها أنّ التجربة السعودية في أفغانستان ضدّ الاتحاد السوفياتي تمثل خياراً متاحاً، وتلاه مباشرة قرار سعودي بتزويد بولندا بالنفط عبر سياسة إغراق نفطية تفضي إلى إخراج موسكو من أحد أهمّ أسواقها في أوروبا الشرقية، والتلويح بالانضمام إلى خط الطاقة بين بولندا وليتوانيا المموّل قطرياً وأميركياً في تأكيد ثان على الرسالة السابقة بأفغنة التجربة الروسية والدخول في استراتيجية الاستنزاف الاقتصادي ضدّ روسيا كما فعلت في الحقبة السوفياتية إبان استراتيجية حرب النجوم الأميركية في مرحلة التدخل في أفغانستان، وألمحت المملكة بتغيير قواعد الاشتباك بين روسيا والمجموعات المتطرّفة في إشارة منها إلى إمكانية إرسال صواريخ أرض جو «ستنغر» الأميركية وتمويل تجنيد الإرهاب عبر ضخّ ملايين الدولارات إلى سوق تجنيد الإرهابيين في تركيا والأردن.
سريعاً أتى الردّ الروسي مع البدء بضربات جوية لمواقع المتشدّدين المحسوبين على نظام آل سعود في معركة كسر نواة العدوان السعودي على سورية والمتمثل بفصائل الإرهابي زهران علوش وميليشيا «فيلق عمر» الإرهابية، وحاسماً في اتجاهين: الأول تكتيكياً من خلال البدء بتنفيذ صفقة اس300 المطوّرة إلى إيران بما يؤمّن تفوّقاً جوياً إيرانياً على مستوى الشرق الأوسط ويكسر محاولات التوازن الجوي بين إيران والمملكة السعودية، والثاني استراتيجياً ويتمثل بمحاولة إخراج باكستان من العباءة السعودية، حيث أبرمت روسيا وباكستان بتاريخ 16 تشرين الأول 2015 اتفاقاً لبناء أنبوب نفط بطول يفوق ألف كيلومتر في باكستان، وللأمر دلالات تتخطى العوائد الاقتصادية التي لا يمكن تجاهلها لا سيما في مجال البحث عن أسواق جديدة لبيع النفط والغاز كبديل محتمل من خروج روسيا من سوق الطاقة في شرق القارة الأوروبية، فباكستان تمثل عمقاً دينياً لمملكة آل سعود، وطالما لعبت المملكة بهذه الورقة في مواجهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية باعتبار أنّ باكستان دولة إسلامية نووية ولا يخفى على أحد أنّ السعودية هي المموّل الرئيس لبرنامج باكستان النووي، هذا الدخول الروسي على خط الطاقة الباكستاني واتفاقيات التطوير العسكري المتبادل يشكل دخولاً مباشراً إلى حدائق المملكة الخلفية وتقويضاً لنفوذ مخابراتها في تشغيل الإرهاب، لأنّ إسلام آباد تملك نفوذاً واختراقاً أكبر للتنظيمات القاعدية بحكم العلاقة التاريخية التي تربطها بحركة «طالبان» الأفغانية و»قاعدة الجهاد العربية» في أفغانستان، كما حثت موسكو إيران وباكستان على استئناف مشروع أنبوب الغاز إيران – باكستان الذي دشن في 2013، وفي سياق آخر بدأت موسكو خطوات فعلية تقوّض المساعي السعودية باستغلال ورقة الإسلاميين في روسيا، فجاءت احتفالات رأس السنة الهجرية في روسيا وافتتاح جامع موسكو في سياق تأكيد الهوية الإسلامية للأقلية المسلمة الروسية في إطار القومية الروسية، كما بدأت قوات الأمن الروسية الخاصة بحملة أمنية ضدّ المتشدّدين الإسلاميين في جمهورية داغستان في عملية وقائية للحفاظ على الأمن العام، وبعملية تدريب واسعة لمواجهة الإرهاب.
إذاً القيادة الروسية بدأت بكسر مثلث المواجهة السعودية معها والمتمثل بملفات الطاقة والإرهاب ومسلمي روسيا، ولكنها حتى الآن لم تنتقل إلى مرحلة المواجهة مع نظام آل سعود، والمقاربة الروسية للأمر ليست معقدة، على اعتبار أنّ المملكة ليست سوى أداة تنفيذية في الاستراتيجية الأميركية، أو على أقلّ تقدير لا يمكن للمملكة تجاوزها، وأنّ الانتصار السوري الروسي على الإرهاب في سورية يعني حكماً ارتداد الإرهاب على مشغليه بما فيهم مملكة آل سعود والتي بدأت بفقدان المناعة الأمنية تحت تأثير العدوان على اليمن وتآكل قدرتها العسكرية وإنهاك جيشها، والأهمّ هو خسارة التنسيق الأمني مع روسيا والذي كان بإمكانه تجنيب المملكة ويلات الإرهاب التي تغذيه مالياً وتسليحاً، وبالتالي المواجهة الفعلية ليست مع نظام آل سعود بل مع الولايات المتحدة، وفي هذا الإطار لم تبد القيادة الروسية أيّ تنازل في حماية أمنها القومي على المدى الطويل، بل كان القرار الروسي أن لا حدود لاستخدام القوة إذا ما تعرّض الأمن القومي للخطر، وتجلى ذلك في أحداث القرم وقبلها جورجيا وحالياً سورية ومستقبلاً اليونان، ومن الثابت القول إنّ الوجود الروسي في حوض شرق المتوسط بهذه الفاعلية والقوة والإرادة على تحقيق الهدف يمثل حدثاً جيوبوليتيكاً أربك الحلف الأطلسي وفقد معه التوازن، لتبقى الأداة السعودية في إطار المناوشة والتشويش وعلى أبعد تقدير الاستنزاف ريثما يتمّ وضع رؤية أو استراتيجية أطلسية للتعامل مع المتغيّر الجيبوليتكي الروسي الجديد.