الثقافة… والدوائر المتحكمة بالإنسان

د. منصور نعمان

هل الثقافة حاجة ضرورية للإنسان؟ ألا يستطيع المرء الاستغناء عنها؟ أليس الطعام والشراب ضرورتين من ضرورات البقاء على قيد الحياة؟ إذا بالثقافة أو من دونها سنبقى أحياء، سواء كنا من الموسوعيين أم من فقرائها. ستمضي أيام العمر، وستأتي لحظة المفارقة الكبرى حين نغادر الحياة، فالموت لا يميّز بين مثقف وسواه.

وفق ما تقدّم، فإن المرء يحيا، ويمارس حياته، ولكن الفارق بين الاثنين، هو حامل الثقافة يقرن بالمكافح الباحث عن الثراء والتألق والتسامي، كمن يبحث في جنبات الفوضى عن النظام، لهذا فإن من متع الحياة أن تزدان الثقافة بالعقول، لتنهض مستوعبة حركة الحياة من جانب، وليزداد الإنسان قوة وطاقة وحيوية من جانب آخر. وههنا سؤال مثير يقول: أليست الثقافة من السعة والشمول بحيث يصعب الإلمام بها؟ أليست الثقافة الدائرة المهيمنة على وضع الإنسان وتوجّهه، وتفتح له طريقاً يشكّل خطاً استراتيجياً؟ وقد تنبري الثقافة وتتعمق في الوجدان والعقل والسلوك حتى تنظّم الدوائر التي جُبلَ عليها بنو البشر. فإذا كانت الثقافة معنية بنمو العقل وتطوره، فإن الدائرة الثانية ـ المعدة ـ مختصّة بإشباع حاجات الإنسان من الغذاء، فتقيه من الجوع. أما الدائرة الأخيرة ـ الحسية ـ المعنية بإشباع الرغبات التي جُبلَ عليها البشر، المعنية بالتناسل والتكاثر.

الدوائر الثلاث تزيد من حدّة حاجتها إلى الإشباع، حتى لا ينكسر المرء، ويكون سوياً، ويستطيع أن يقاوم في الحياة.

إن الدائرة الثقافة ـ العقل ـ تكون لها سطوة التنظيم، وقوة توجيه للدائرتين الأخريين. وفي ضوئه، فإنّ الثقافة أضحت أكبر من كونها حاجة لتشبع فحسب، إنما هي والحالة التي تمّ توصيفها، لها مَلَكةُ التنظيم ضمن سياق ما، فتحدد مسارات اشتغال الدائرتين السابقتين. إن فخامة الثقافة وسعتها ونموّها وحاجتها، أكبر من كونها دائرة وتملأ بالمعلومات، فغنى العقل الثقافي، وشموليته، يساهمان بدرجة كيبرة في إغناء مفردات الحياة، وإضافة إلى ذلك فإن جمال الثقافة كونها تستوعب المتغيرات والمستجدات، وأحياناً يكون للثقافة موقف، يساعد في استيعاب الجديد والغرائبي في قبوله أو رفضه، وفق معطيات يسبغها العقل الثقافي.

إن سعة الدائرة الثقافية وأهميتها، يجرجران سؤالاً آخر مفاده: أيستطيع المثقف أن يضمّ في الدائرة الثقافية، بالعلوم والآداب والفنون ومختلف ضروب الثقافة؟! وهنا ينبثق سؤال جديد، يقول: كم يحتاج من الوقت ليستطيع أن يضمّ المعارف الثقافية إليه ويتبحر فيها؟

قد يمضي المثقف عمره كله باحثاً، وفي نهاية المطاف، سيشعر بالوهن والضعف وتخور قواه، والنتيجة أنه لن يجد الوقت الكافي بما يتبقى من عمره ليستكمل برنامجه الثقافي ويستوعب ضروب الثقافة على غناها وتنوعها وتشعبها.

والسؤال الآخر المشتق من السؤال الأول هو: أيكون من الملزم على المثقف أن يكون ملمّاً بكل شيء؟ وهل من واجبه القيام بذلك؟

ترى هل الثقافة وقفاً على شخص ما مهما كان ضليعاً؟ وإن كنت أشكّك في الأمر، فالحياة مليئة بالصرعات الثقافية، والاحداث، والمستجدات، والمعارف، والتيارات، والإصدارات الثقافية التي يعج العالم بها، واللغات المتعدّدة التي يتكلم بها مثقفو العالم، من الشرق والغرب والبلدان النامية… إلخ، فما من أحد ما مهما بلغ شأنه وعلت قيمته الثقافية في الحياة يكون قادراً على التواصل التام والكامل.

بالمعنى المشار إليه آنفاً، لن يكون هناك مثقف واحد في العالم لأن المثقف والحالة هذه بحاجة إلى عمر يعادل أجيال، ليطّلع عن كثب على كل ما قيل من أفكار، وينبغي لأن تكون له ألف عين ليقرأ، وألف أذن ليسمع، وألف عقل ليستوعب العلوم والأفكار والآداب والفنون… إلخ.

وما من كائن بشري بهذه المواصفات، ومع ذلك يظهر المثقفين في الصحف والندوات، كما يصدروا الكتب ويقيموا الندوات، ويتهافت عليهم المريدون والمريدات، فكيف يكون الأمر؟ والثقافة سعة وشمول، عمق وأفق.

في البدء يجدر القول: إن الثقافة لا تعني أنك تعرف كل شيء، فالثقافة الكلّية الجامعة، نوع من الكذب والحذلقة الفارغة، وكما يقال: ضرب أخماس بأسداس، وعليه فإنّ الثقافة تخصّص دقيق، ذلك ما ميّز ثقافتنا عن السابقين، فكان الفيلسوف، منظّراً وناقداً، وقد يكون البارع في الرياضيات، عالماً ومهندساً وطبيباً، أو قد يكون الرسام نحاتاً وعالماً ومخترعاً للدواء… إلخ.

وقد يقول قائل: هذا الأمر قد حدث مع عدد من المثقفين الكبار وكانوا «انسكلوبيديا» ـ دائرة معارف ـ إلا أن الأمر اختلف الآن عن ذي قبل كثيراً، إذ لم تكن الثقافة الإنسانية بهذا الحجم من التطوّر والتنوّع والاتساع والتواصل الاتصالي بالثقافة. لهذا، يبدو من الصعوبة بمكان أن يلّم المثقف بكل التفاصيل التي تحملها الأرضية الثقافية، وقد يحدث الأمر مرّة مع رسام ونحات وعالم، لكنه لا يتكرر كلّ مرة، وإن حدث في زمن سابق، لم تكن العلوم بمثل دقتها الآن.

السؤال الآن: من هو المثقف؟ إذ من المحال معرفة كل شيء، ومعناه اللامعرفة هي التي تتحكم بالمثقف.

ينبغي أن تفهم المسألة من زاوية أخرى تماماً. فقد ازداد همّ الناس الثقافي في كل أرجاء المعمورة، وهم يبحثون بنقاط ثقافية تخصصية دقيقة للغاية، ويصلون إلى نتائج ذات قيمة ودلالة ومعنى، يتم من خلالها تطوير الجهاز الثقافي في دائرة من دوائر المعرفة الانفجارية. لهذا، فإنّ الثقة بالنتائج العلمية أمر مهم، وبطبيعة الحال، بعد التمحيص والتدقيق، والشك، إذ إن الشك طريق إلى اليقين وتعزيز لا يهتز وإيمان بالنتائج، بعدما هرسها الشك بالأسئلة، فآمن بها.

إذاً، سعة المعلومات في ميدان ثقافي ستفيد بهذه الدرجة أو تلك ميدان آخر، وبالتزاوج المعلوماتي، سيسفر الأمر عن نتائج أخرى مثمرة. إن الثقة برجالات الثقافة والعلم والأدب والفنون، بوصفهم يكافحون من أجل الارتقاء بميدانهم الثقافي، ما يشير إلى مدى الجهد المبذول من أجل انعاش الحياة الثقافية، ان ذلك جاء واحدة من نتائج التخصص الميداني الدقيق، الذي لا يغفل وجود ثقافات عدّة ستمتد إلى عمقه الثقافي وتغترف منه. فالثقافة هي معرفة شيء من كل شيء، مثلما هو سائد بوصفه مفهوماً للثقافة، لكنه ليس بنطاق ضيق الأفق، إنما بشك يوصل إلى اليقين، وعقل ترجيحي يستأنس بالمنطق والمحتمل والممكن.

الثقافة ضرورة للحياة، ومن دونها يكبح الإنسان وجوده وإن كان على قيد الحياة. فدائرة الثقافة تشمل حاجات العقل وتغذيته وتطويره الإلزامي وتحكمه بالإنسان، أسوة بالدائرتين الأخريين: المعدة والجنس.

وإن استطاع المرء توسيع مداه الثقافي وتلاقحه المعرفي، يكون قد نمّى الجزء المهم من الدوائر المعنية بالدرجة الاساس، بتطوير ملكات الإنسان، وإيجاد المنافذ والطرائق في تغذية الدائرتين الأخريين.

باحث وناقد عراقي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى