الهبّة الفلسطينية: ما لها وما عليها
يوسف المصري
حصلت «البناء» على «تقدير موقف» منسوب لجهة رفيعة في السلطة الوطنية الفلسطينية حول الهبّة الشعبية الفلسطينية المستمرة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي منذ نحو أكثر من شهرين، والمشتملة على تظاهرات وطعن مستوطنين وجنود إسرائيليين بالسكاكين، إضافة إلى اشتمالها مؤخراً على عمليات فدائية عسكرية.
ويركز تقدير الموقف الفلسطيني على ثلاثة ملفات أساسية في قراءته للهبة الشعبية الفلسطينية الأول توصيف طبيعة «المادة» الاجتماعية الفلسطينية الجديدة المشاركة فيها والثاني يعرض للسيناريوات المتوقع أن تذهب إليها الهبّة الفلسطينية في المدى القريب والثالث يحلل موقع صراع الاستقطاب بين كل من فتح وحماس داخل وقائعها.
ويلاحظ أنّ تقدير الموقف يستخدم مصطلح «الهبّة الشعبية» وليس «الانتفاضة» لتوصيف ما يحدث، ويكشف عن طبيعة «المادّة» الاجتماعية المشاركة فيها، فيصفها بأنها «جديدة»، ويقول بالحرف إنها تتكون بالغالب من «شباب غاضب تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 20 سنة غالبيتهم غير مؤطرين ولم يسبق لهم خوض أيّ تجارب نضالية ولم يغذوا فكرياً أو تنظيمياً على الأقل». ويشير إلى «أن كل الوقائع على الأرض، وبعد مرور ما يقارب أكثر من شهرين على الهبّة الشعبية، تؤشر إلى أنها ما زالت تعبّر عن حالة وطنية شعبية سلمية غير تنظيمية وغير مسيّسة وليست منقادة من جهة بعينها»، وذلك على الرغم من أنّ حالات تنظيمية بينها حماس حاولت ركوب موجتها، وتوجيهها لتحقيق أهداف عدة تخصّها، لكنها فشلت إلى حدّ بعيد حتى الآن.
ويُستفاد مما جاء في التقرير على مستوى تحليله لوقائع التعاطي الميداني والإعلامي والسياسي لحماس مع الهبّة الفلسطينية منذ انطلاقتها حتى الآن، أنّ حماس أرادت تحقيق أهداف عدة، أبرزها محاولة نقل الهبّة الشعبية من مركز ثقلها الأساس في مدينة القدس الشرقية التي هي تحت الاحتلال والهيمنة الأمنية «الإسرائيلية» لتعمّ أيضاً مدن الضفة الغربية ومناطقها. إضافة إلى هدف مركزي آخر استتباعي حاولت حماس تحقيقه ويتمثل بخلق قيادة ميدانية للهبّة الشعبية تحت أسماء مختلفة: قيادة الانتفاضة القيادة الوطنية العليا للانتفاضة. وهدف حماس من إنتاج هذه القيادات، بحسب تقدير الموقف المعبّر عن وجهة نظر السلطة الوطنية الفلسطينية، كان نقل الهبّة من نطاق نشاطها الفردي العفوي إلى النطاق الجماعي المنظم لتشكل تدريجياً بديلاً عن قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير.
ويلاحظ تقدير الموقف أنه جرى اتباع تكتيكات من حركة حماس وحركات تنظيمية أخرى تؤدّي إلى جعل الهبّة الشعبية منقادة من قيادة سياسية أحادية أو حتى جماعية. وفي هذا المجال جرت محاولات لعسكرتها وتطوير فعالياتها. لكن الهبّة المنتمية إلى جيل جديد بدت عصية على التأطير التنظيمي، وبدل ذلك فضّل القائمون بها العمل وفق أساليب الحراك الشعبي الميداني وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويلاحظ تقدير الموقف أنّ الهبّة ذاهبة في المدى المنظور إلى أحد الخيارات الثلاثة التالية:
الأول، يناقش رهان إسرائيلي كان يرى «أنه منذ الأسبوع الثالث للهبّة لوحظ تراجع حدة المواجهات الدائرة في الضفة وخاصة في مركز ثقل الهبّة مدينة القدس، كما برزت عوامل أخرى من شأنها أن تقلل من زخم الهبّة مثل الحراك السياسي للسلطة الوطنية الفلسطينية، كما أنّ دخول فصل الشتاء وانشغال شريحة الطلاب بالامتحانات الجامعية، سيجعل فعاليات الهبّة الشعبية تتراجع. وما تم اكتشافه الآن بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على الهبّة الشعبية أن كل الرهانات السابقة ثبت فشلها على وقف الغضبة الشعبية الفلسطينية. باختصار فإنّ السيناريو الذي تنبأ بأنه سيحصل مستوى متراجع تدريجياً للأحداث على في الأسابيع الأخيرة من السنة الماضية تفاجأ بسقوط رهانه، وبأن فعاليات الهبّة صارت يومية وليست أسبوعية، كما بشّر أصحاب السيناريو السالف.
السيناريو الثاني توقّع أن تبقى الهبّة الشعبية خلال الأسابيع المقبلة حتى الربيع المقبل على حالها من مستويات التصعيد، ولكن من دون أن تتحوّل إلى انتفاضة وثورة عارمة.
السيناريو الثالث يقول إنّ الهبّة الشعبية ستذهب إلى تصعيد متدحرج وستخلق قيادات ميدانية من لدنها. وهنا سيبرز منشأ قوّتها. وسوف تقوم في مرحلة لاحقة بالمزاوجة بين النضال الشعبي السلمي العارم وبين الكفاح المسلح النوعي. بمعنى آخر لن تخسر الهبّة الشعبية سلميّتها، ولكنها لن تظلّ من دون أنياب تدافع بها عن نفسها توصلاً لإنشاء معادلة رعب بينها وبين المحتلّ.
يقول التقدير إنه لغاية الآن لم تقم حماس داخل الهبّة بأيّ نشاط عسكري. ويعود ذلك إلى وجود خلاف داخل الحركة بين المكتب السياسي الذي يصرّ على عدم التبكير برفع السلاح في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، لأنّ ذلك سيجعل «إسرائيل» تستفرد بحماس، وبين الجسم العسكري لحماس الذي يدعو لأن ينخرط الحماسيون في الضفة والقدس داخل الهبّة عسكرياً ومدنياً.
يرى تقدير الموقف أنّ العمليات العسكرية القليلة التي نفذت داخل الضفة الغربية خلال الهبّة لم تحدّد لغاية الآن هوية الذين قاموا بها، علما أنّ إحدى العمليات تبنّتها كتائب الشهيد عبد القادر الحسيني. وهذا اسم تستعمله بالعادة حركة فتح. لكن الحركة نفت أن تكون المجموعة المنفذة للعملية تابعة لها واتهمت ضمناً حماس بأنها تنفذ عمليات باسمها لزجّها في حرب عسكرية غير متكافئة مع «إسرائيل» فتصبح هي الممسكة بالأرض في الضفة.
وبالنهاية، وبعيداً عن السجال بين حماس وفتح فإنّ الهبّة الشعبية المتشكلة من شباب من خارج البيئات التنظيمية الفلسطينية، سبقت الفصائل الفلسطينية إلى الميدان، وهذا ما سيخدم بالمقبل من الأيام سيادة شعار الانتفاضة ملك جمهورها وشعبها. وهذا شعار بدأ ينتشر بكثرة داخل مدن الضفة.