رجل من أمّة… أمّةٌ في رجل
محمد ح. الحاج
جاء باكراً يسابق الزمن. تفتّحت براعمه مع أول الزهر في آذار، وما مضى من القرن العشرين إلاّ أربع. وعى آلام أمّته في ذاته، تلمّس جراحها، وبالسمع المرهف التقط آهاتها. أطلق آلاف إشارات الاستفهام والتعجّب، وأجاب عليها. أوليس التساؤل هو تطواف ما برح يستنهض الإنسان منذ أن جسّ نبض الدهر وارتجل الدروب فواكب الزمان وخالط المكان. هو تطوافه في نفسه… في الإنسان1 والنتيجة، إدراك الذات. وعلى قدر الأسئلة يكون الوعي والإدراك، بل إدراك جوهر الأشياء وأسرارها، بتراكيبها المغلقة، وتفاصيلها. الوجع وجع أمّة، والســـؤال الأكثر إلحاحاً كان: ما الذي جلب على أمّتي هذا الويل؟
عرف تاريخ أمّته جيّداً فاعتزّ به، لكنّه اكتشف جهلها هذا التاريخ فقال: «من أتعس حالات هذه الأمّة أنها تجهل تاريخها، ولو عرفت تاريخها معرفة جيدة صحيحة لاكتشفت فيه نفساً متفوّقة قادرة على التغلّب على كلّ ما يعترض طريقها إلى الفلاح2. ومن هذه المعرفة انطلق مجتهداً فأبدع أسس النهضة وصاغ لها مبادئها وغايتها للارتقاء نحو فلاح أراده».
غاندي، غاريبالدي، بسمارك، أبراهام لنكولن… عظماء من أمم أخرى. لا أحب المقارنة فلكلّ أمة عظيم أو أكثر خلّده تاريخها. أنطون سعاده عظيم هذه الأمّة، خالد، نحتفي بذكرى ميلاده، ونستذكر يوم اغتياله. عظيم ظلمَه التخلّف والجهل والتبعية. اغتالوه قبل أن ينتصف القرن كأنّه مقدور للأمم المتخلّفة أن تغتال عظماءها ولو بتهمة باطلة، ومحكمة صوريّة… كان القرار خارجيّاً، وفي هذا قال الأديب الكبير سعيد تقي الدين: «عرفوك وأدركوا مدى خطرك عليهم فاغتالوك! وفي كلّ ذكرى لاغتياله نحثّ الخطى لمواكبة نهضته وتحقيق غايته. لكن الذين اغتالوه ما برح كيدهم مزروعاً في ثرانا، وإنْ ندم بعضهم فماذا ينفع الندم»؟
في عشرينات القرن الفائت أشرق سعاده قمراً سورياً تاماً، وليس قمراً كنعانياً فحسب3. كان له أن يضيء عتمة ليل الأمة الطويل، لو أدرك الآخرون مصدر ظلمتها مثلما أدركه كما تآمروا عليه، لكنّهم ما امتلكوا الوعي ولا القرار. كانوا مجرّد أتباع تلقوا الأمر فاغتالوه.
العقيدة التي أسّس لها ومنهجَها لغاية سامية وقضية تساوي الوجود، ستبقى بالتأكيد خالدة، بل تتطوّر وتستمرّ وتنمو وتزرع الوعي في الأبناء فيكثرون ويعملون لنصرها الذي هو نصر الأمّة، وإذا ظن المتآمرون أنهم باغتياله يضعون حداً لنبتة تجذّرت في تراب الأمّة فقد كانوا من الواهمين. جذورها راسخة في التربة التي استسقت دماءه فكان الفادي، أما اختلافه عن عظماء الأمم الأخرى فلأنه بقيَ القدوة والمثال لكلّ من أدرك فكره وبُعد مراميه وما وعاه من مصلحة الأمّة على قاعدة العصبيّة القوميّة الوطنيّة، ووحدة المجتمع والإيمان الكلي بحق هذه الأمّة في أن تكون لها مكانها تحت الشمس.
يقول سعاده: «نحن نعمل لحياة هؤلاء الذين يعملون لموتنا، أما الانتقام فجوهره الانتصار، انتصار العقيدة لتحقيق مصلحة الأمّة، ومؤكد أنّ في ذلك حياة لجميع أبناء الأمة، وهزيمة لأعدائها ومن يكيد لها لتبقى أمّة تابعة. الانتصار الذي يقوم على قاعدة أننا أحرار من أمّة حرة، وإلاّ فإنّ حرّيات الأمم عار علينا. وفي هذا تحفيز واضح على العمل لأجل الحرية وعدم التنازل عنها. الحرية التي هي أهمّ ركائز النهضة، وهي الحرية الملتزمة بالنظام والواجب، المحروسة بالقوّة التي أرادها سعادة لأبناء أمّته».
«إنْ كنتم ضعفاء وقيتكم بنفسي» ولم يقصد بالضعف الهزال الجسدي، بل النفسي. النفوس الضعيفة لا تقوى على الصمود والمجابهة. سمتها التخاذل والتردّد والمساومة. والأمّة التي هذه صفات أبنائها لا تنتصر أبداً. نفس سعاده الأبيّة المصارعة، الثابتة على إيمانها، هي النبراس والقدوة: «وإنْ كنتم جبناء أقصيتكم عني». القائد المبدع يدرك أنّ جيشاً من الجبناء بإيمان ضعيف وأنفس متخاذلة لا يمكن أن يربح الحرب، وحربنا هي حرب وجود. «وإنْ كنتم أقوياء سرت بكم إلى النصر». أقوياء بالعقيدة، بالموقف، بالإيمان بأنّ النصر حتمي وإنْ طال الصراع. ويؤكد ذلك قوله: «إنّ أزمنة مليئة بالصعاب تواجه الأمم الحية، فلا يكون لها خلاص إلا بالبطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة». هذه هي القوة التي عناها سعاده.
ليلة الثامن من تموز، قبل خمسة وستين عاماً، خجل بها التاريخ. أدار وجهه ألماً وغيظاً. هي ليلة يخجل من ذكرها كلّ إنسان، عدا من باعوا ضمائرهم للشيطان بثلاثين من الفضة مثلما باعوا المسيح الفادي. ويتوالى زمن اليهود، من يهود الخارج إلى يهود الداخل، ويبدو أنه ما آن الأوان لأبناء الأمّة ليدركوا خطر هؤلاء فيقصوهم مثلما أقصى سعاده المنحرفين، المساومين، وحاربهم مثلما حارب المسيح ع تجار الهيكل، ومثلما حارب النبي محمد ص أصحاب هبل واللات. آن لهذه النهضة أن يقف لها الأوفياء الذين يعطون ولا يأخذون، ويبتعد عنها السماسرة والطامحون إلى مجد أنفسهم، فالزعيم المؤسس واحد، ومبادئ حزبه واحدة، وغايته واحدة، والتعريف بحدود أمّته جليّة واضحة… فكيف بعد هذا يقبل التجزئة والانحراف والانتحال.
في ذكرى استشهاد سعاده، لا يجدر بالقوميين الندب وإعلان الحزن، وإنْ كان يستحق أكثر من ذلك بكثير. هذا الكثير هو العمل الخالص لانتصار النهضة، لنصر سورية، ولا يكون ذلك إلاّ بوحدة الصف ووحدة الكلمة واستنهاض الهمم واستذكار كلّ ما قاله الزعيم واستشرفه. ولننطلق من استذكار ما تعاقدنا عليه معه وهو قضية تساوي وجودنا، ولنبدأ من استعادة دقائق القسم فنبرّ به مع أنفسنا قبل مطالبة غيرنا… وحتماً ستنتصر النهضة ويرتاح سعاده في مرقده.
دعوة من القلب تخاطب الوجدان، عسى أن تلقى قبول ومؤازرة القوميين الاجتماعيين، جميع القوميين في الوطن وعبر الحدود. المجد لسورية والخلود لسعاده.
1 من كتاب «نحو شمولية سعاده»، باسل البرازي.
2 المحاضرات العشر ص 152، طبعة 2014.
3 قمر كنعاني، صفة أطلقها أمين عام الجبهة الشعبية القيادة العامة المناضل أحمد جبريل.