ما بين يسوع وسعاده أقرب من النبض إلى القلب
شوكت الياس البشارة
في الثامن من تموز، مثل هذا اليوم من كلّ سنة، تستيقظ الإنسانية من رقادها العميق وتقف أمام أشباح الأجيال، ناظرة بعيون مغلفة بالدموع نحو كثيب من الرمال وشجرة، لترى أنطون سعاده واقفاً أمام الذين كلّفوا باغتياله.
وعندما تغيب الشمس عن مأتي النهار، تعود الإنسانية فتركع مصلّية أمام الأصنام المنتصبة على قمة كلّ رابية وفي سفح كلّ جبل.
اليوم تقود الذكرى أرواح القوميّين من جميع أقطار العالم إلى جوار هذا الكثيب وهذه الشجرة، فيقفون هناك بأرواحهم صفوفاً.
وفي مثل هذا اليوم من كلّ سنة، يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة، والمفكرون صوامعهم الباردة، والشعراء أوديتهم الخيالية، ويقفون جميعهم على جبل عال صامتين متهيّبين مصغين إلى صوت فتى يقول لقتلته: «أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكنّ قليلين منّا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أنّ الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد».
في مثل هذا اليوم من كلّ سنة تستيقظ الإنسانية بيقظة الربيع وتقف باكية لأوجاع من سأل: «من الذي جلب هذا الويل على أمتي»؟ ثم تطبق أجفانها وتنام نوماً عميقاٌ. أما الربيع فيظلّ مستيقظاً، متبسماً، سائراً، حتى يصير صيفاً مذّهب الملابس معطّر الأذيال.
الإنسانيّة امرأة يلذّ لها البكاء والنحيب على أبطال الأجيال. ولو كانت الإنسانيّة رجلاً لفرحت بمجدهم وعظمتهم.
ما عاش سعاده مسكيناً خائفاً، ولم يمت شاكياً متوجّعاً، بل عاش ثائراً واقتيد متمرّداً واغتيل جباراً، وهو الذي علّمنا «أنّ الحياة وقفة عزّ…» وكان أوّل من ترجم كلامه وسطّره بدمه. وهو القائل: «إنّي متكبّر على كلّ متكبّر على القضيّة والحركة والنظام. ومن ظنّ منهم أنّ رأسه بين النجوم فليعلم أنّي أرى النجوم مواطئ لقدمي. أمّا الذي يترك الكبرياء ويحسب نفسه صغيراً بالنسبة إلى القضيّة المقدّسة والعمل العظيم الذي وقفنا نفوسنا عليه فهذا أخي وصديقي ورفيقي يسير معي ولا أتخلّى عنه».
لم يكن سعاده طائراً مكسور الجناحين بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجّة، ألم يعلّمنا: «نحن حركة هجومية لا حركة دفاعية. نهاجم بالفكر والروح، ونهاجم بالأعمال والأفعال أيضاً. نحن نهاجم الأوضاع الفاسدة القائمة التي تمنع أمّتنا من النمو ومن استعمال نشاطها وقوتها. نهاجم المفاسد الاجتماعية والروحية والسياسية».
لم يجئ سعاده من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمزاً للحياة بل جاء ليجعل الحياة رمزاً لكلّ ما هو حق وخير وجمال.
لم يخف سعاده من مضطهديه ولم يخشَ أعداءه ولم يتوجّع أمام قاتليه بل كان حُرّاً على رؤوس الأشهاد، جريئاً أمام الظلم والاستبداد، يرى البثور الكريهة فيبضعها، ويسمع الشرّ متكلماً فيخرسه، ويلتقي الرياء فيصرعه.
لم يهبط سعاده من دائرة النور الأعلى ليهدم، بل ليبني لنا مجداً بشّرنا به من خلال حقيقتنا التي هي نحن، ويستهوي الرجال الأشدّاء ليقودهم رجالاً فوق العادة وهو القائل: « لم آتكم مؤمنًا بالخوارق، بل أتيتكم مؤمناً بالحقائق الراهنة التي هي أنتم. أتيتكم مؤمناً بأنكم أمّة عظيمة المواهب، جديرة بالخلود والمجد». جاء ليبث في فضاء هذا العالم روحاً جديدة قوية تقوّض قوائم العروش المرفوعة على الجماجم وتهدم القصور المتعالية فوق القبور وتسحق الأصنام المنصوبة على أجساد الضعفاء المساكين. ألم نسمعه يقول لنا: «إنّ غايتنا هي الوصول إلى حياة أجمل وأسمى، إلى حياة تبرز لنا الحياة والجمال والقوّة لتكوين الأمة العظيمة التي تبني مجداً».
لم يجئ سعاده ليعلّم الناس بناء الجوامد الشاهقة والصروح الضخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بل جاء ليجعل قلب الإنسان هيكلاً ونفسه مذبحاً وعقله كاهناً. ألم يقدّم إلينا فلسفة جديدة ويعلّمنا «أنّ المجتمع معرفة والمعرفة قوة… وأن العقل هو الشرع الأعلى». وهو نفسه من بشّرنا قائلاً: «إنّ العالم قد شهد في هذه البلاد أديانًا تهبط إلى الأرض من السماء، أما اليوم فيرى ديناً جديداً من الأرض رافعًاً النفوس بزوبعة حمراء إلى السماء».
هذا ما صنعه أنطون سعاده، وهذه بعض من المبادئ التي اغتيل لأجلها، ولو عَقِلَ البشر لوقفوا اليوم فرحين متهلّلين منشدين أهازيج الغلبة والانتصار.
وأنت أيها الشهيد، أنت يا من اغتالوك ولم ينجحوا، غيّبوك جسداً ولم ينجحوا في القبض على روحك وفكرك.
أنت بكآبتك أشدّ فرحاً من الربيع بأزهاره، أنت بأوجاعك أهدأ بالاً من الملائكة بسمائها، وأنت بين الجلاّدين أكثر حرية من نور الشمس.
إنّ العصبة التي على عينيك هي أجمل من تاج بهرام، والرصاص في جسدك لهو أفخم من صولجان المشتري، ودمك المتناثر لمعاناً من قلائد عشتروت. فسامح هؤلاء الضعفاء الذين ينوحون عليك لأنّهم لا يدرون كيف ينوحون على نفوسهم، واغفر لهم لأنّهم لا يعلمون أنك صرعت الموت بالموت ووهبت الحياة لمن في القبور.
ها قد اخترت صليبك يا سعاده وتركت مسرّات عشتروت وأفراحها.
ولد مع الفجر واستشهد عند طلوع الشمس، فأيّ بشريّ يستطيع أن يقيس الزمن ليخبرنا ما إذا كانت الساعة التي تمرّ بين مجيء الفجر وطلوع الشمس هي أقصر من الدهر الذي يمرّ بين ظهور الأمم وتواريها؟
ولد مثل الفكر، واستشهد مثل التنهيدة، واختفى مثل الظلّ. حياة قصيرة ابتدأت بنهاية الليل وانقضت بابتداء النهار، فكانت مثل قطرة الندى التي تسكبها أجفان الظلام ثم تجفّفها ملامس النور.
كلمة لفظتها النواميس الأزلية، ثم ندمت عليها وأعادتها إلى سكينة الأبدية.
لؤلؤة قذفها المدّ إلى الشاطئ، ثم جرفها الجزر إلى الأعماق…
ضيف عزيز ترقّبت الأمّة قدومه، لكنّه ما حلّ حتى أرتحل، وما فتح مصراعي الباب حتى اختفى…
فكرة ونبضة وشعاع وطفرة ما أن تجلى حتى اختفى كالبرق في الليالي الدهماء…
هذه هي حياة العظماء.
أخيراً وليس آخراً، لن أجد أجمل من كلماته كي أختم كلامي:
«نحن أمّة كم من تنّين قد قتلت في الماضي ولن يعجزها أن تقتل هذا التنين الجديد…»
– نحن لسنا مستسلمين. نرى في الحياة متاعب ونرى أننا قادرون على حمل تلك المتاعب والانتصار عليها…
– خذوا كلّ شيء من قمصان وجزم ومظاهر خارجية واعطوني قلوباً ملؤها الإيمان بالحياة والعزيمة والثبات وأنا كفيل بأنّ هذه الأمّة تنال حقوقها بعد قليل…
– قوميّون، افعلوا واجباتكم واذكروا أنّ الوطن في خطر. إنّ العمل عظيم ولكن اذكروا دائماً أنّ قوتنا عظيمة إذا كان لا بدّ من هلاكنا يجب أن نهلك كما يليق بالأحرار لا كما يليق بالعبيد…».
بتصرّف عن جبران خليل جبران