«التنمية حرّية» كتاباً بحثيّاً لحائز نوبل أمارتيا صنّ حول اقتصاد الحرّيات والمجاعات
كتب حازم خالد من القاهرة: مؤلف كتاب «التنمية حرية» هو عالم الاقتصاد الهندي أمارتيا صن، يعمل أستاذ في جامعة «كيمبريدج ترينر كوليدج»، وزميل رئاسي للبنك الدولي عام 1996، حائز جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية عام 1998. أما مترجم هذا الكتاب فهو شوقي جلال، مواليد القاهرة عام 1931، له ثلاثة عشر مؤلفًا وأكثر من ستين كتابًا مترجمًا.
يقول المؤلف: «يعاني كثر في مختلف أنحاء العالم أنواعاً شتى من اقتصاد الحرية، والمجاعات مستمرة الوقوع في أقاليم بذاتها. ومن مظاهر حرمان أخرى من الحرية نجد كثرة في بلدان متعددة حول العالم حرمت بشكل منظم من الحرية السياسية، ومن الحقوق المدنية الأساسية، وثمة من يزعم أن إنكار هذه الحقوق عليهم يساعد في حظر النمو الاقتصادي، وأنه «مفيد» لتحقيق تنمية اقتصادية سريعة».
يتناول صَنْ العلاقة بين الأسواق والحريات، معتبراً أن دور آلية السوق موضوع مختلف يستلزم استعادة بعض التراث القديم. كما أن علاقة آلية السوق بالحريات، ومن ثم بالتنمية الاقتصادية، تثير تساؤلات تتعلق على الأقل بنمطين متمايزين تمامًا يحتاجان إلى التمييز بينهما بوضوح، أوّلهما أن إنكار فرص الصفقات عن طريق ضوابط تعسفية يمكن أن يكون مصدرًا لاقتصاد الحرية ذاتها، وثانيهما أن السوق تعمل على نحو نمطي لتوسيع نطاق الدخل والثروة والفرص الاقتصادية المتاحة للناس. هاتان الحجتان الداعمتان لآلية السوق وثيقتا الصلة بمنظار الحريات الموضوعية، لذا يتعين إبرازهما مستقلتين.
يتطرق المؤلف إلى مسألة الأولوية الكاملة للحقوق، بما في ذلك حقوق الملكية، حسبما وردت في أكثر الصيغ تدقيقًا للنظرية التحريرية، مشيراً إلى نظرية روبرت نوزيك التي عرضها في كتاب «الفوضى والدولة اليوتوبية» وتفيد بأن الصلاحيات التي توافرت للناس من خلال ممارسة تلك الحقوق لا يمكن عامة ترجيحها بسبب نتائجها بعضها نتائج نمطية وثمة استثناء واحد يقول به نوزيك ويتعلق بما يسميه «مظاهر الذعر الأخلاقي الكارثية»، بيد أن هذا الاستثناء ليس مندمجًا مع بقية النهج الذي التزم به.
إن الأولوية المطلقة للحقوق التحريرية يمكن أن تمثل إشكاليةً محددةً، فالنتائج الفعلية المترتبة على تفعيل تلك الصلاحيات يمكن أن تتضمن نتائج مروعة، إذ يمكن أن تفضي بخاصة إلى انتهاك الحرية الموضوعية للأفراد في إنجاز أمور لديهم كامل الحق في أن يولوها أهمية كبرى، بما في ذلك الإفلات من موت يمكن تجنبه امتلاك تغذية وصحة جيدتين، وأن تتوافر لهم قدرة على الثراء والكتاب والحساب، إلخ.
كما يرى المؤلف أن تطوير الأسواق الحرة عامة، والالتماس الحر للعمالة خاصة، واقع يحظى بتقدير بالغ في الدراسات التاريخية. وها كارل ماركس، أعظم من انتقدوا الرأسمالية، يرى في ظهور حرية العمل مظهرًا لتقدم كبير جدًا. بيد أن هذه المسألة لا تهمُّ التاريخ فحسب بل الراهن أيضًا فالحرية مهمة بشكل حاسم الآن تحديدًا في كثير من أنحاء العالم. وسوق العمل يمكن أن تكون عامل تحرير في سياقات كثيرة مختلفة، كما أن الحرية الأساسية للمعاملات يمكن أن تكون ذات أهمية محورية، بغض النظر عما يمكن أو لا يمكن لآلية السوق أن تنجزه لناحية الدخل أو المنافع أو غير ذلك من نتائج.
ثم ينتقل المؤلف إلى مشكلة الحكمة المالية التي أضحت همًا رئيسيّاً في كل أنحاء العالم خلال العقود الأخيرة، والملاحظ أن المطالبة بالتزام النزعة المحافظة في الشؤون المالية أضحت قويةً جدًا الآن بعد الآثار المدمرة للتضخم المفرط وعدم الاستقرار. فبيت القصيد للنزعة المحافظة المالية ليس تلك الميزة التي تبدو واضحةً في ظاهر الأمر أن «يعيش المرء في حدود قدراته» رغم مما في هذا الرأي من جاذبية بلاغية، بل مثلما عبّر عن ذلك السيد ميكاير ببلاغة أيضًا في رواية «ديفيد كوبرفيلد» للروائي شارلز ديكنز إذ قال: «الدخل السنوي عشرون جنيهًا، والإنفاق السنوي تسعة عشر فاصل ستة، النتيجة هي السعادة. الدخل السنوي عشرون جنيهًا، والإنفاق السنوي عشرون جنيهًا فاصل ستة، الحاصل بؤس».
استخدم الكثير من المحافظين المعنيين بالمالية هذا التشبيه حول القدرة على الإيفاء بالدين، ولعل مارغريت تاتشر كانت أكثرهم بلاغة، بيد أن هذه الحجة لا تهيئ لنا قاعدة واضحة لسياسة الدولة. فعلى عكس ما ذهب إليه السيد ميكاير، تستطيع الدولة أن تستمر في الإنفاق أكثر من دخلها، عن طريق الاستدانة، وهذا ما تفعله في الواقع جميع البلدان.
القضية الحقيقية ليست إذا كان ذلك ممكن الحدوث على هذا النحو يمكن يقينًا أن يحدث بل ما هي نتائج الإنفاق الزائد، لذا فإن القضية الأساسية التي ينبغي التصدي لها هي الأهمية المترتبة على ما يمكن أن نسمّيه أحيانًا «الاستقرار الاقتصادي الكلي أو الماكرو»، خاصةً في حالة عدم وجود ضغط تضخمي خطير.
لكن ما هو دليلنا على الآثار الضارّة للتضخم؟
يذكر ميشال برونوني دراسة مسحية مهمّة حول التجارب الدولية في هذا المجال كالآتي: «إن العديد من الحوادث المسجلة عن التضخم المعتدل 20 40 ارتفاع الأسعار سنويًا ومعظم حالات معدلات التضخم الأعلى التي يتوافر منها عدد كبير تشير إلى أن التضخم المرتفع يقترن بآثار نمو سلبية كبيرة. وعلى العكس، فإن الشواهد المتجمعة تفيد بأن الاستقرار الحذر بعد تضخم مرتفع يفضي إلى نتائج نمو إيجابية على المديين القصير والمتوسط.
يشير المؤلف إلى الحجج المناهضة للحريات السياسية والحقوق المدنية، قائلاً: «إن معارضة الديمقراطيات والحريات المدنية والسياسية الأساسية في البلدان النامية تتمّ في اتجاهات ثلاثة. أولاً: الزعم بأن هذه الحريات والحقوق تعوق النمو الاقتصادي والتنمية. ثانيًا قائل بأن الناس إذا أعطوا حرية الاختيار بين أن تتوافر لهم الحريات السياسية أو الحاجات الاقتصادية، فإنهم يختارون جميعًا الثانية. ثالثًا: كثيرًا ما يعتبر البعض أن التأكيد على الحرية السياسية والحريات الاجتماعية والديمقراطية إنما يمثل تحديد أولوية «غربية»، ويتعارض مع «القيم الآسيوية» التي من المفترض أنها رهن النظام والانضباط أكثر مما هي رهن الحرية، ومثل على ذلك أن الرقابة على الصحافة كما يُقال قد تكون مقبولةً أكثر داخل مجتمع آسيوي نظرًا إلى التأكيد على النظام والانضباط ، على عكس الوضع في الغرب. ففي مؤتمر فيينا عام 1993 حذّر وزير خارجية سنغافورة من «أن الإقرار العالمي الشامل بأن حقوق الإنسان مثل أعلى قد يكون ضارًا إذا استخدمنا النزعة العالمية الشاملة لإنكار أو حقيقة التنوع أو إخفائها»، وأكثر من ذلك، سجل المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية عبارة يبدو أنها سائدةً في الصين وفي غيرها من بلدان آسيا إذ قال: «على الأفراد أن يولوا حقوق الدولة أولوية على حقوقهم».
في الختام، يرى أمارتيا صَنْ «أن لظاهرة عدم المساواة دورًا مهمًا في تطور المجاعات وغيرها من الأزمات القاسية. حقًا أن غياب الديمقراطية في حد ذاته عدم مساواة. ولكن الأكثر من ذلك أن المجاعات وغيرها من الأزمات إنما تنمو وتطرد تبعاً لازدياد عدم المساواة في صورة قاسية ومفاجئة أحيانًا. هذا ما توضحه حقيقة أن المجاعات يمكن أن تحدث حتى مع عدم حدوث نقص كبير أو أيِّ نقص في مجمل المعروض من الغذاء، بسبب فبعض الجماعات قد تعاني فقداناً مفاجئاً لقوة السوق نتيجة بطالة مفاجئة وواسعة النطاق على سبيل المثال، مع معاناة الجوع الناجم عن حالة اللا مساواة الجديد .
صدر كتاب «التنمية حرية» للكاتب أمارتيا صن، في ترجمة لشوقي جلال لدى الهيئة المصرية العامة للكتاب.