مسرح لييُوان الصينيّ يزور باريس ويبهر الجمهور

بين العروض الأجنبية التي تقدّم في باريس وتحوز مسرحية «الأرملة والمعلم» لفرقةٍ من مدينة كانجو الصينية متخصصةٍ في مسرح لِييُوان، الأقدم من أوبرا بيكين بأربعة قرون، ويتواصل عرضها في مسرح بوبينيه شمال باريس قبل أن تحلّ ضيفة على مهرجان «ليالي الفورفيير» في مدينة ليون.

لِييُوان، ومعناه بستان الكمّثرى، هو نوع من مسرح الأوبرا يقدمه الصينيون منذ القدم. ظهر إبّان القرن الثاني عشر الميلادي، في مقاطعة فوجيان جنوب الصين على الساحل المطل على جزيرة تايوان، وظل إلى اليوم يعتمد على الرقص والغناء، ويتميز بإيمائية gestuelle تقوم على ثماني عشرة حركة، وموسيقى تفوق الثلاثمئة لحن.

تعتبر فرقة كانجو التي رأت النور عام 1953 أهمّ فرق مسرح لِييُوان الذي كادت الثورة الثقافية 1966 1976 تقضي عليه لولا ثلة من الفنانين تفانوا في إحياء خصائصه وتقنياته التي توارثوها جيلاً فآخر، وجمع من الباحثين عملوا على استرجاع الأعمال المفقودة أو المهرّبة عن عيون الحرس الأحمر زمن عصابة الأربعة، حين كانت الفرقة مرغمة على أداء أعمال الأوبرا الثورية لجيانغ كينغ زوجة ماو تسي تونغ الرابعة.

بعد القضاء على عصابة الأربعة عام 1976، لم يبق من هذا المسرح التقليدي سوى ذكرى، وكان على الفنانين أن يعيدوا إليه الحياة ويضخّوا فيه دماء شابة، فوقع اختيار فتاة تدعى زينغ جنغبينغ لا يتجاوز عمرها أربع عشرة سنة من بين آلاف المترشحات، فأمست في ما بعد نجمة الفرقة ثم مديرتها، وتوّجت بلقب «أكبر ممثلة في الصين الشعبية» في مناسبتين عام 1989 وعام 2006. هذه المرأة التي جاوزت اليوم الخمسين من عمرها كانت تدرك، بوصفها مديرة الفرقة وممثلتها الرئيسية في الوقت نفسه، أن هذا التقليد المسرحي الفريد لا يمكن أن يكتب له الاستمرار إلاّ بتطويره، مع المحافظة على روحه بالطبع.

إن شكل لييوان التقليدي لا يحول دون حداثة المسرحية، فهي «ميلودراما» تفيد من حكمة كونفوشيوس وهزلية موليير، وأفلحت في نيل دعم الدولة لتقديم عروض في الأرياف والبلدات والقرى تصل إلى مئة وخمسين عرضاً في السنة، مثلما أفلحت في استدراج كاتب متميز هو وانغ رانجي لإعداد نصوص تأخذ من الخرافة عجيبها وغريبها وقوة تأثيرها، ولا تحتل العقدة فيها أهمية كبرى. «حسبنا ثيمة كالحرب أو الحب، يقول وانجي، أو شخصية بارزة أو معطِّلة، أو عائق ما. والباقي كله رقة وعذوبة وغنائية».

كذلك الشأن في «الأرملة والمعلم» فهي خرافة ذات عقدة بسيطة ومضمون يدعو إلى السخرية من بعض التقاليد، وتروي حكاية شاب متعلم اسمه دونغ دعاه المستشار بينغ عندما حضرته المنية ليعرض عليه صفقة: أن يراقب زوجته الشابة كي لا تتزوج بعد وفاته أحداً سواه، ويرفع له تقريرا مفصلاً عن أفعالها وأقوالها في نهاية كل شهر. في المقابل يتعهد هو بغض الطرف عن دَيْن قديم. وافق الشاب مرغماً، وبعد وفاة الزوج صار يتجسس على الأرملة الشابة أثناء الليل وأطراف النهار، حتى وقع في هواها. فراح يعلم تلاميذه قصيدة غزلية تناهت إلى مسمع الأرملة لقرب بيتها من المدرسة وفهمت مغزاها. وفي ليلة أقنع الشاب نفسه بضرورة الوفاء بعهده ومراقبة الأرملة حتى أثناء الليل، فلعلّها تستقدم في الظلمة عشيقاً. دخل البيت خلسة وكاد يقع بين يدي الخادم، لكن الأرملة أنقذته بادعائها أنه مجرد قط قفز من السور، ثم وجدت نفسها أمامه وجهاً لوجه فتبادلا بوحاً ببوح وعناقاً بعناق. لكن المصيبة أن فجر ذلك اليوم هو رفع التقرير إلى دفين القبر الذي لم تكن تخفى عنه خافية إذ سرعان ما بادره شبحه باللوم: «كنت مطالباً بصون الكنز فإذا بك تستولي عليه !»، وناوله سيفا ليضرب عنق المرأة الخائنة. لكن دونغ يستخدم ذكاءه وأدبه في خداع شبح بينغ ويستشهد بكونفوشيوس ومانشيوس ليذكره بأن «ما يصلح للأحياء لا يصلح للأموات» ويقنعه بالعدول عن ملاحقة الأرملة العفيفة، فيحمل شبح المستشار القبر على كاهله ويختفي. وبذلك يفسح المجال للشابين كي يعيشا في حب وسعادة.

هذا العرض وقع أداؤه بلهجة المينّان المحلية لمرفأ كانجو الذي لا يتجاوز تعداد سكانه نصف مليون نسمة، لكنه استطاع بفضل فرقته هذه أن ينال صيتاً خارج الحدود.

إن شكل لِييُوان التقليدي لا يحول دون حداثة المسرحية، فهي «ميلودراما» تفيد من حكمة كونفوشيوس وهزلية موليير، وتنبني على اللُّبس والمكيدة والعشق الحامي والجبن الخجول والشجاعة المستعادة والرغبة الجامحة بين كائنين. والنص، منطوقاً ومُغنّى، يمنح الممثلين توزيعاً عادلاً لناحية التأثر العاطفي والمحاكاة الساخرة والفكاهة، ويزداد سموّاً بموسيقى «نانيين» من الجنوب الصيني الرقيقة الحالمة، فضلا عن الديكور الفاتن والملابس الحريرية والأداء الرائع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى