هل يبادرالمقاومون العراقيّون؟

غالب قنديل

تعمّدت الرواية الأميركيّة الرسمية، كذلك العراقية، بكلّ أسف طمس القوة الفعلية التي أرغمت الإمبراطورية الأميركية على الانكفاء وإخفاءها، وهي المقاومة العراقية الشعبية والعسكرية التي خاضتها فصائل وطنية قدمت الشهداء والتضحيات وتحمّلت جور المحتلين وعملائهم، وقد ألحقت الهزيمة بالغزاة بكلّ إباء وشرف، ومن غير استعراض سخيف.

الذين خاضوا القتال البطولي ضدّ الاحتلال الأميركي غيّبوا وهمّشوا عن صناعة مستقبل العراق السياسي وهم معروفو الأسماء والعناوين، فمنهم إسلاميّون وقوميّون وشيوعيّون ومجموعات بعثيّة مناضلة تضمّ ضباطاً وجنوداً ومهندسين وأساتذة جامعات وطلاباً وفلاحين وعمالاً انتقلوا إلى مقاتلة الغزاة بعد انهيار النظام السابق، وتناقلت الصحافة العالمية عبر مراسليها من بغداد روايات كفاحهم المشرّف، وهم كانوا ينادون باستقلال العراق وبإعادة بناء الدولة الوطنية العراقية، ولم يقدموا أنفسهم بهويات مذهبية أو عرقية في كلّ ما نقل عنهم.

يعرف العالم سيرة كتائب حزب الله في العراق وعصائب أهل الحق وجيش المهدي الذي انتصر للفلوجة في وجه عصابات بلاك ووتر ومجزرتها المشهودة، إضافة إلى العديد من الجماعات

المقاومة التي سطّرت بطولات مجيدة في استهدافها الاحتلال الأميركي. ورغم تنوّع هوياتها العقائدية فإنّ هذه الفصائل المقاومة لم تقدم نفسها مذهبياً أو عرقياً، واعتنقت قضية تحرير العراق من الاحتلال والتزمت بالعراق وطناً حراً مستقلاً لشعبه من دون تمييز.

في المقابل، كرّست جماعات «القاعدة» في العراق وما سُمي بـ«دولة العراق الإسلامية» جهودها في ظلّ الاحتلال لقتل العراقيين وارتكبت عشرات المذابح الجماعية، ومنها تحدّرت «داعش» التي أعلنت الخلافة حديثاً وانتدبت «وليّها» البغدادي لأخذ البيعة من جميع فصائل التطرّف والتكفير الإسلامية في العالم لرفدها بالحشد الممكن والمنشود لتغطية حاجات حروبها المقبلة في العراق وسورية وعلى مستوى المنطقة، وثمة شبهات يثيرها «قاعديون» سابقون وإسلاميون حول علاقة هذا الفصيل بالاستخبارات الأميركية، وبات بحكم شبه المؤكد أنّ حركته الأخيرة حظيَت بدعم ومساندة حلف ممتدّ من واشنطن إلى «تل أبيب» والرياض واسطنبول، وفقاً للتقارير التي تحدثت عن اجتماع عمان الذي أقرّ خطة ما عُرف بـ«غزوة الموصل»، في حين تحرّك رعاتها لتوظيف النتائج واستثمارها في فرض توازنات عراقية تحقق استيلاء الولايات المتحدة وحلفائها على قرار العراق وقطع الطريق على أيّ جهد إيراني او سوري لتحقيق التواصل الاستراتيجي الذي تخشاه «إسرائيل» وجميع الدوائر الاستعمارية منذ القرن الماضي، وليس بعيداً عن هذا السياق تحفيز فكرة الانفصال الكردي من قبل الحكومات ذاتها، ولا سيما «إسرائيل» وتركيا التي ستتذوّق هذا السمّ الذي تطبخه للعراق.

تساهم في العملية السياسية العراقية قوى تمثل خليطاً من الجهات والأطراف الوطنية والمرتبطة بالغرب، بينما يبدو الطريق إلى إنقاذ العراق مشروطاً بتلاقي القوى الوطنية الحرة والمناهضة للهيمنة الاستعمارية، بحيث يكون حوارها وتفاهمها على رؤية مشتركة عتبة التحوّل التاريخي الذي ينهض بالعراق كقوة إقليمية كبرى وفاعلة في المنطقة. ولمّا كان المقاومون يعرفون بعضهم البعض الآخر فهم مدعوّون وملزمون بتخطي الكثير من الخصومات والحساسيات والحسابات والعصبيات لاختبار فرص الحوار العقلاني في هذا التوقيت المصيري الذي يتعرّض فيه العراق لخطر الانحلال والتمزق.

إنّ عناوين الاختلاف تتركز في معظمها على إعادة تقويم مراحل سابقة تتصل بحكم الرئيس الراحل صدام حسين وبالعلاقة الإيرانية ـ العراقية، مع التأكيد على حقيقة أنّ فهم الماضي واستيعاب دروسه لا ينفصل عن العملية الفكرية والسياسية اللازمة لصوغ برنامج مستقبلي، لكن التحديات الراهنة والملحة في العراق تستدعي السير في الأمرين معاً: الحوار حول الاختلاف في فهم المراحل السابقة منذ انتصار الثورة الإيرانية وتورّط الرئيس العراقي الراحل في محاربتها بدعم غربي خليجي معروف ومن غير تأخير يفترض بفصائل المقاومة العراقية أن تتفاهم على مشروع وطني قوامه تحرير العراق من دستور بريمر وإنهاء خرافة «اجتثاث البعث» التي زرعها الغزاة والمستعمرون لتدمير القدرات الوطنية العراقية ولتأسيس عداوات وانقسامات يصعب تجاوزها والسير معاً في طريق النضال لحماية البلاد ووحدة أرضها وشعبها المهدّدين.

أول شروط الحوار هو الاعتراف المتبادل بقدر الشراكة التي تبنى بين متكافئين أحرار، بعيداً عن الإملاءات الخارجية. وإذا أراد العراقيون دولة وطنية قوية مستقلة عليهم أن يعملوا على تحريك الحوار بين المقاومين البعثيين وأقرانهم من فصائل المقاومة الأخرى، فمن هذه الدائرة تنبثق إرادة النهوض الحاسمة التي تبشّر بعراق جديد، ومن هذه الحلقة ينطلق العمل لمنع تقسيم العراق. السؤال المصيري: هل يبادر المقاومون العراقيون؟ أم ستغرقهم عداوات وخصومات افتراضية بينما يفترس الوطن الذي لأجله استشهد رفاقهم؟

عضو المجلس الوطني للإعلام

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى