تقرير
كتب فابريس بالونش لـ«معهد واشنطن»:
ترزح قوات تنظيم «داعش» في المنطقة الشرقية من محافظة حلب السورية تحت وطأة الضغط منذ تشرين الأول الماضي، إذ تضطر للقتال على جبهات عدّة ضدّ «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي وحلفائه العرب قرب «سدّ تشرين» الضخم، وضدّ الجيش السوري والطيران الروسي في محيط مطار «كويرس» العسكري وبحيرة «الجبول»، وضد اتحاد جماعات «الثوار» المسمّى «جيش الفتح» الذي تهيمن عليه «حركة أحرار الشام» و«جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة» في معبر «أعزاز» بين حلب والحدود التركية، وكذلك ضدّ أهالي مدينة «منبج» التي يتقدم نحوها «حزب الاتحاد الديمقراطي» وحلفاؤه. ومع استحواذ هذا الأخير على الجسر السليم الوحيد فوق نهر الفرات على مسافة مئات الأميال، ومع احتمال تقدم الجيش السوري بصورة أكثر في الشمال أو الغرب، قد يتعذر على مجموعة كبيرة من مقاتلي تنظيم «داعش» المتواجدين في منطقة حلب الوصول برّاً إلى «عاصمتهم» في الرقة. إلا أن هذا الاحتمال يثير السؤال من الذي قد يستفيد من القضاء على تنظيم «داعش» على هذه الجبهة وكيف سيستفيد من ذلك.
رغم أن السكان الحاليين في شرق محافظة حلب سنّيون بمعظمهم تقريباً، إلا أنهم ينقسمون ما بين جماعات عرقية مختلفة وقبائل وعشائر أكثر انقساماً تشكل شبكة التضامن الأساسية في الأرياف والمدن. وبينما يشكل العرب غالبية السكان، توجد أقليات كردية وتركمانية قاومت موجة العروبة، في حين اندمج الشركسيون في المجتمع العربي بعد أن تلاشت هويتهم تدريجياً منذ أن أحضرهم العثمانيون إلى المنطقة منذ أكثر من 150 سنة. أما المسيحيون الذين كانت أعدادهم كبيرة في بلدات «جرابلس» و«كوباني» و«أعزاز» الحدودية حتى خمسينات القرن الماضي فقد رحلوا عنها تدريجياً نحو مدينتَي حلب ودمشق.
إضافة إلى ذلك، إن هذه المنطقة ريفية إلى حدٍّ كبير، فمؤشرات التنمية البشرية فيها تأتي في المرتبة ما قبل الأخيرة في البلاد ويليها «وادي الفرات». وقد شهدت نموّاً سكانياً كبيراً على مدى السنوات ليزيد معدل النمو السنوي عن ثلاثة في المئة قبل الحرب. وحيث تهيمن الزراعة على المنطقة، تحتوي أيضاً على ثلاثة أقطاب حضرية تكاد تخلو من الصناعات، وهي: «الباب» و«منبج» و«جرابلس»، مع الإشارة إلى أن المشروع الصناعي الوحيد فيها هو مصنع الإسمنت التي أنشأته شركة «لافارج» الأوروبية بين عامَي 2008 و2010.
يعتبر الأكراد أنفسهم أصحاب أجزاء كبيرة من هذه المنطقة، بما فيها البقعة الطويلة الممتدة على طول الحدود التركية، لا مقاطعة «عفرين» في الغرب ومقاطعة «كوباني» في الشرق فقط، والمتواجدتين تحت سيطرة الأكراد، إنما أيضاً الأراضي الواقعة بينهما والتي تسيطر عليها مجموعات «الثوار» أو تنظيم «داعش». وللأكراد آراء مشابهة في شأن «منبج» التي تقع في عمق المنطقة الجنوبية من الحدود. ومع أن غالبية سكان بعض هذه المناطق من العرب، إلا أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» لا يزال يعتبرهم «أكراداً من الناحية التاريخية»، مستنداً في حجته هذه بالظاهر إلى مفاهيم من القرون الوسطى وأيام صلاح الدين.
ومن هذا المنطلق، يسعى «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى ضمان تواصل إقليمي بين مقاطعة «عفرين» التابعة له وما تبقّى من منطقته الكردية التي أعلن سيادته عليها من تلقاء نفسه والمدعوة «روج آفا» . وقد سبق لهذه الجماعة أن ضمّت إليها منطقة «تل أبيض» ذات الغالبية العربية التي تقع أكثر بعداً إلى الشرق، وسيصعب عليها تكرار هذا الإنجاز في المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان ـ فابتداءً من عام 2010، أقام أكثر من مليون نسمة في مناطق «أعزاز» و«الباب» و«منبج» و«جرابلس» المتنازع عليها، مقابل 130 ألف نسمة تقريباً في «تل أبيض». وصحيحٌ أن مئات آلاف المدنيين هربوا إلى تركيا منذ ذلك الحين، إلا أن الأكراد لا يزالون يواجهون تحدّي دمج شريحة كبيرة من السكان العرب في «روج آفا»، ناهيك عن الأقلية التركمانية المحلية التي تنعم بحماية حكومة أنقرة.
وبالفعل، ترفض تركيا السماح للأكراد بالسيطرة على كامل الحدود وقد حذّرت عدّة مرات من شنّ هجوم عليهم إذا ما تجاوزوا نهر الفرات كما سبق لها أن فعلت في تموز حين قصفت موقعاً لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» قرب «جرابلس». وفي 26 كانون الأول، قامت «قوات سورية الديمقراطية» وهي عبارة عن تحالف يضمّ «حزب الاتحاد الديمقراطي» وحلفاءه العرب بالسيطرة على «سدّ تشرين» قبل أن تستحوذ بعد ثلاثة أيام على بلدة «أبو قلقل» عند الضفة المقابلة من النهر لتصبح بذلك على بعد اثني عشر كيلومتراً فقط من «منبج». ورغم أنّ البلدة لا تقع في مرمى الصواريخ التركية، إلا أنه يمكن لأنقرة أن تضرب قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» هناك بأسلحة أخرى، مع أن ذلك قد يكون صعباً من الناحية السياسية في وقت ينخرط الأكراد في قتال تنظيم «داعش» على الحدود التركية الجنوبية وعندما تكون المنطقة الحدودية التي يحاول «حزب الاتحاد الديمقراطي» السيطرة عليها هي الممر الرئيس لإرهابيي تنظيم «داعش» العابرين إلى أوروبا من الشمال وللمتطوّعين القادمين من الجنوب للانضمام إلى التنظيم في سورية. ومع ذلك، يبقى بوسع الحكومة التركية أن تحاول تبرير ضرباتها على الأكراد بالنظر إلى العلاقات الوثيقة بين «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«حزب العمال الكردستاني». وفي الواقع، من دون التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع أنقرة، يرجّح أن تعمل تركيا على تقويض أي مكاسب كردية في سورية.
ومع ذلك، فإن العائق الرئيس أمام أهداف «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو التحدي المتمثل بإخضاع مثل هذه المنطقة العربية والتركمانية الواسعة وإحكام سيطرته عليها. فهل يتقبّل السكان المحليون وصول المقاتلين الأكراد؟ من المؤكد أن الوضع بين العرب والأكراد في شرق محافظة حلب لا يحمل على المواجهة بقدر ما يحمل عليها في شمال شرق سورية، فالاختلاط السكاني في المنطقة الأولى أكبر منه في الثانية، كما يشيع فيها الزواج بين الفئتين. إضافة إلى ذلك، بما أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» قد تحالف مع الميليشيات العربية، يمكن أن تكون القبائل المحلية أكثر استعداداً لإعلان ولائها للطرف السياسي المهيمن كما أعلنت الولاء لتنظيم «داعش» خدمةً للمصالح القبلية.
بينما سيطر «حزب الاتحاد الديمقراطي» وحلفاؤه على «أبو قلقل»، أشارت عدة مصادر إلى أن تنظيم «داعش» قد يتخلّى عن «منبج»، وذلك بالدرجة الأولى لأنه يواجه عداوة محلية كبيرة فيها وقد يتعذّر عليه الدفاع عن البلدة في وجه الزحف الكردي. ففي 12 تشرين الثاني، احتجّ المدنيون في «منبج» على تجنيد الشبان بشكل إجباري للقتال مع تنظيم «داعش» على جبهة «أعزاز» الأمامية. وفي 19 كانون الأول، قام التنظيم بإعدام أربعة عشر مدنياً خوفاً من نشوب تمرّد ضده.
وفي الوقت نفسه، كان الهجوم الذي يشنه «حزب الاتحاد الديمقراطي» مصحوباً بضربات جوّية من قوى التحالف، ما يشير إلى أن الخطوة تمت بتنسيق جزئي على الأقل مع الولايات المتحدة ولم تأتِ نتيجة قرار فردي من «حزب الاتحاد الديمقراطي». ومن هذا المنطلق، قد يشكل الزحف نحو «منبج» جزءاً من استراتيجية تهدف لاستعادة الرقة. فإذا سقطت «منبج»، قد تصبح «عاصمة دولة الخلافة» معزولة في النهاية عن سائر الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش» في سورية. كما أن كافة جسور الفرات المنتشرة من الحدود التركية جنوباً حتى «بحيرة الأسد» أصبحت مدمّرة أو تحت سيطرة الأكراد. لذلك، إذا تقدّم «حزب الاتحاد الديمقراطي» بصورة أكثر نحو الجنوب وشنّ الجيش السوري هجوماً باتجاه منطقة «الباب» أو «بحيرة الأسد»، سيُحاصَر عدد من عناصر تنظيم «داعش» في شرق محافظة حلب.
أما في الجهة الغربية، فتنخرط حالياً مجموعات «الثوّار» المسيطرة على معبر «أعزاز» في عمليات دفاعية ضد تنظيم «داعش» الذي سيطر على عدة قرى في تلك المنطقة منذ أيلول، ويتقدم ببطء نحو «أعزاز». كما أن أولوية «جيش الفتح» المدعوم من السعودية وتركيا تتمثل بالدفاع عن طريق الإمدادات إلى شرق حلب في وجه الأكراد غرباً وبوجه الجيش السوري جنوباً. بيد أنّ الطيران الروسي يضاعف غاراته على المعبر ويُضعف دفاعات «الثوار»، لا سيما قرب معبر «باب السلام» الحدودي، وخسارة تلك الطريق ستترك وحدات «الثوار» في المناطق الشرقية محاصرةً بشكل شبه كامل من قبل قوات النظام. وفي حين قد تنجح بعض المساعدات في الوصول من معبر «باب الهوى» الحدودي الغربي، إلا أن تقدم الجيش السوري حول حلب يهدّد تلك الطريق أيضاً.
وبالتالي، لن يكون «الثوار» هم المستفيدون الرئيسيون من تراجع تنظيم «داعش» في محافظة حلب إلا إذا سُمح لهم بشنّ الهجمات من تركيا. ومع أن حكومة أنقرة لا ترغب في التدخل مباشرةً في سورية، إلا أنها قد تسمح لـ«الثوار» العاملين كوكلاء لها باستخدام الأراضي التركية كمنصة لإطلاق عملياتهم ضد تنظيم «داعش» في «جرابلس»، على سبيل المثال، مع هدف ضمني هو الحؤول دون سيطرة الأكراد على كامل الحدود. وبالطبع ستعتمد أي استراتيجية تُتّخذ على ما إذا كان «الثوار» مستعدين لقتال تنظيم «داعش» وما إذا كانوا قادرين على القيام بذلك على نحو فعال.
وفي الوقت نفسه، كان المقصود من الهجوم السوري الأخير على مطار «كويرس» العسكري إنقاذ الموقع العسكري من مجزرة أخرى كتلك التي ارتكبها تنظيم «داعش» في مطار «الطبقة»، إضافةً إلى حماية طريق حلب ـ السلمية المهدّدة بغارات تنظيم «داعش». ولكن حتى الآن لم تكن للجيش أي نيّة بالانخراط في أي وقت قريب في حملة أوسع لاستعادة الأراضي التي خسرها في الشرق. فأولويته القضاء على جماعات «الثوار» في مدينة حلب ومحيطها. وقد أدرك الرئيسان بشار الأسد وفلاديمير بوتين أنه لا يجدر بهما منازعة الأكراد في السيطرة على مناطق أخرى، على الأقل موقتاً، إنما عملا في المقابل على تسهيل الجهود الكردية من خلال قصف «الثوار» في معبر «أعزاز».
ولكنّ إذا نجح الهجوم الكردي الأخير، فقد يغيّر الاستراتيجية السورية ـ الروسية ـ الإيرانية في تلك المنطقة. وإذا وصل الأكراد إلى «منبج»، فقد يدفعون الجيش السوري إلى شنّ هجوم على منطقة «الباب» الواقعة شمال شرق حلب. ويحتمل أن تلتقي القوتان في النهاية فتحتجزان بذلك قوات تنظيم «داعش». ورغم أنه لا يبدو أن الرئيس الأسد ولا «الثوار» في وضع جيد لاستعادة الأراضي التي خسرها تنظيم «داعش» في شرق حلب، قد يتقبّلهم العرب المحليون أكثر مما قد يتقبلون الأكراد.
منذ الهجوم الإرهابي الذي استهدف باريس في تشرين الثاني الماضي، يصرّ الأوروبيون على إقفال الطريق ذي الاتجاهين التابع لتنظيم «داعش» عبر تركيا بشكل تام. ولكن في غياب قوة عربية سنّية معتدلة قادرة على تلبية هذا الطلب، قد يفضّل الغرب أن يتولى الأكراد إقفال المعبر عوضاً عن الجماعات التابعة لتنظيم «القاعدة» على غرار «أحرار الشام» أو «جبهة النصرة». فالأكراد يتوقون إلى تحقيق حلمهم بمنطقة «روج آفا» موحدة على طول الحدود الشمالية بكاملها، لذلك فإن حرمانهم من بعض التقدّم على الأقل نحو بلوغ هذا الهدف قد يعني ردع الحليف الفعال الوحيد ضدّ تنظيم «داعش» في شمال سورية. وإذا لم يعمل الغرب معهم لبلوغ هذه الغاية، سيدفعهم بذلك في أحضان موسكو التي سبق وأوضحت لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» استعدادها التام للمساعدة، مع العلم بوجود تنسيق كردي واضح مع القوات السورية في شمال محافظة حلب.
ولكن في الوقت نفسه، لن تقبل تركيا بالسماح لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» بالاستحواذ على كامل الحدود، بينما الغرب بحاجة إلى مساعدة تركيا على عدة جبهات، بما فيها مسألة اللاجئين والحرب ضدّ تنظيم «داعش». ولذلك، إذا واصل «حزب الاتحاد الديمقراطي» هجومه باتجاه «منبج» وربما أبعد من ذلك متخطياً الخط الأحمر الذي رسمته تركيا عند الفرات، يتوجب على الولايات المتحدة وشركائها في التحالف أن يتخذوا الحيطة في تحديد ما إذا كانوا سيدعمون هذا التقدم وأين وكيف سيدعمونه، فضلاً عن ردودهم على الاحتجاجات التركية. ومن جانبها، سيتعين على أنقرة أن تقرّر إلى أي مدى هي مستعدة لفرض الخط الأحمر نظراً إلى المخاطر السياسية والدبلوماسية التي ينطوي عليها أي تدخل أكثر عمقاً، خصوصاً ضد القوة البرّية الوحيدة التي تحرز تقدّماً في وجه تنظيم «داعش» في سورية. وفي هذا السياق، يعتبر الهجوم الذي يشنه «حزب الاتحاد الديمقراطي» إشارة واضحة بوضوح مقولة يوليوس قيصر عندما عبر وجنوده نهر «روبيكوني» في إيطاليا: «سبق السيف العذل».