انتفاضة ثالثة بأيّ برنامج؟
د. إبراهيم علوش
لا شيء يكشف زيف «الربيع العربي» مثلما يكشفه تصاعد الصراع مع العدو الصهيوني مثلما يحصل في فلسطين التاريخية هذه الأيام. فـ»الربيع» الذي همّش التناقض مع الإمبريالية والصهيونية، بذريعة التركيز على برنامج «الإصلاح المحلي»، تحوّل إلى صراعات أهلية وطائفية ومشاريع تفكيك تخدم العدو الصهيوني أكثر من أي طرف آخر، لذلك بقي التساؤل دوماً: لماذا لم يقم «ربيعٌ فلسطينيّ»؟! وإذا كان التجاهل الرسمي العربيّ لما يحصل في فلسطين اليوم أمراً مألوفاً، فلماذا يتجاهل «الربيعيون» فلسطين؟!
يخطئ من يظنّ أن الحراك الشعبي الفلسطيني اليوم هو نتاج حملة القمع الصهيونية الشرسة فحسب بعيد أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل وقتلهم، تلك الحملة التي لم يأتِ حرق الشهيد محمد أبو خضير حيّاً إلاّ ثمرةً لها… إنّما جاء تصاعد القمع الصهيوني كصاعق لبرميل البارود المسمّى احتلالاً. ذلك الاحتلال الصهيوني الذي تجاهله «الربيع العربي»، بلى. ولعل أهم دليل على ذلك أن التظاهرات شملت الأراضي المحتلة عام 1948 من منطقة المثلث إلى بئر السبع، إلى جانب الضفة الغربية والقدس وغزة.
إن مشاركة فلسطينيي الـ48 في الحراك واعتقال العشرات منهم في خضم حملة القمع الشرسة التي يتعرضون لها ذات دلالاتٍ بعيدة جداً، فهؤلاء لا يمكن أن يكون مطلبهم «دويلة» فلسطينية في حدود الأراضي المحتلة عام 67، كما أنهم الأكثر التحاماً بقطعان المستوطنين في حياتهم اليومية مقارنةً بفلسطينيي الضفة أو غزة، لذا فإن انخراطهم في مشروع انتفاضيّ سيكون أعمق أثراً على الاحتلال واقتصاده واستقراره، من دون أن يعني ذلك أن انتفاضة الضفة بلا أثر، على العكس تماماً، فانتفاض الضفة وحده يمكن أن يحميها من التهويد المتصاعد، ومجرّد إطلاق الصواريخ على مدن الكيان الصهيوني وبلداته يمكن أن يذكر العالم بأنّها محاصرة جواً وبحراً وبراً.
لا يفوتنا البتّة أن نضالات الأسرى في سجون الاحتلال، خاصة إضراب المعتقلين الإداريين عن الطعام لفترة قياسية، كان كرة الثلج النضالية التي تدحرجت إلى مرحلة أسر المستوطنين الثلاثة، بعد وصول الناس إلى قناعة بأنّ لا طريق إلى تحرير الأسرى إلاّ مبادلتهم بالصهاينة، كما تعلّمنا جيداً من صفقات تبادل الأسرى. وها هو العدو الصهيوني اليوم يعيد اعتقال الأسرى المحرّرين ببعض تلك الصفقات ضمن حملة القمع والتنكيل الإرهابي التي يمارسها على شعبنا كشكلٍ من أشكال العقاب الجماعي.
المشكلة اليوم، والمشكلة التي غالباً ما واجهناها منذ نشأ الصراع العربي-الصهيوني في نهايات القرن التاسع عشر، إلا نادراً، هي أن العوامل الموضوعية التي تخلق الغضب والحراك النضالي ضد الصهيونية لم تقترن إلى الآن بعوامل ذاتية ناضجة لناحية القيادة أو البرنامج أو كليهما معاً، وإذا وضعنا لحظات قليلة مثل لحظة إقرار «الميثاق القومي» عام 64، والميثاق الوطني الفلسطيني عام 68، وهو برنامج الإجماع الوطني الوحيد في التاريخ المعاصر للشعب العربي الفلسطيني، ولو وضعنا جانباً بعض الشخصيات القيادية الفذة من عز الدين القسام كان صوفياً للمناسبة وعضواً في فرع حيفا لحزب الاستقلال القومي التوجه إلى نماذج وديع حداد وعدد من القادة الميدانيين والسياسيين المتميزين الذين لم يتركوا بعدهم مؤسسة تنظيمية تتابع ما بدأوه، فإن مشكلتنا اليوم تبقى في البرنامج والقيادة أكثر من أي وقت مضى.
العبرة أن العوامل الموضوعية لقيام انتفاضة ثالثة موجودة، والغضب الشعبي يتصاعد، ومشروع السلطة الفلسطينية كملحق أمني وسياسي للعدو الصهيوني بات مكشوفاً أمام معظم الناس، لكنّنا لا نرى مشروعاً سياسياً ولا قيادة ولا تنظيماً يقود مثل ذلك المشروع.
من البديهي أننا يجب أن ندعم أي حالة نضالية ضد العدو الصهيوني، خاصة إذا تصاعدت لعمل مسلح ولانتفاضة. هذا من الثوابت التي لا محيد عنها. لكن من الواجب التنبيه إلى أن كثيراً من التضحيات والنضالات سوف تتبدد أو يتم تجييرها على غير مرماها، تماماً مثلما حدث في الانتفاضتين الأولى والثانية، فالقوى والشخصيات الاساسية ذات الثقل في الساحة الفلسطينية تتبنى برنامجاً سياسياً متهافتاً هو «الدويلة» في حدود عام 67، أو «المساواة» مع المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 48، أو «العودة» إلى «إسرائيل» من خرم إبرة القرار 194 الذي لا يضمن عودة ولا من يحزنون.
في الواقع، يمثل كل ما سبق برنامجاً للتفريط وللاعتراف بالكيان الصهيوني، وبالتالي تصبح «استراتيجية» النضال «كسب الرأي العام الدولي والإسرائيلي»، ذلك الثقب الأسود الذي ابتلع مناضلين كثراً، ويذهب البعض أحياناً إلى ضرورة استخدام الكفاح المسلح كأداة ضغط تكيتكية لكي يرضى الصهاينة بالانصياع لـ«قرارات الشرعية الدولية»، وهذا الصنف يعتبره البعض متطرّفاً وهو لا يختلف عملياً عنهم في البرنامج السياسي.
الحقيقة هي أن برنامجاً سياسياً واحداً لا يعاني هذه الثغر والانحرافات كلّها، هو الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل، فهو يقول إنّ فلسطين عربية من البحر إلى النهر، وإن مشاريع التسوية والاعتراف مرفوضة، وإن تحرير فلسطين يتم بالكفاح المسلح، وإن اليهود الذين جاؤوها بعد بدء المشروع الصهيوني في فلسطين لا يعتبرون فلسطينيين. ومع أن الميثاق القومي الذي أقر عام 64 أعلى سقفاً وأكثر قومية، إلاّ أن الميثاق الوطني الفلسطيني الذي أقر عام 68 يتميّز بأنه حمل توقيع جميع الفصائل والشخصيات الناشطة على الساحة الفلسطينية آنذاك.
عدّل الميثاق الوطني الفلسطيني بالطبع على يد ياسر عرفات ونزولاً عند رغبة الرئيس الأميركي الأسبق بِل كلينتون على مرحلتين عامي 96 و98، وكان ذلك تتمة طبيعية لاتفاقية أوسلو، ما فتح الباب اليوم لنشوء حالات مخترقة تماماً تدعو إلى النضال مع «الإسرائيليين» لأجل «المساواة» و«التعايش»، من دون عنف، أو تدعو إلى «دولتين لشعبين»، إلخ… في اختصار، غيرنا حقق أكثر بتضحيات أقل، وعلّتنا تبقى بالقيادة والبرنامج، لا بنقص الحافز النضالي.