المارّة في دروب الخرافة… قراءة في ثقافة الشارع العراقيّ

صفاء ذياب

«كانت الحكاية الخرافية ترتبط دائماً بالأساطير وحكايات البطولة، كما أنها اقتحمت عالم الشعر الرسمي وعالم القصص والملاحم والروايات فأضفت عليها كلّها حيوية خاصة وجدّة».

يقدّم فردريش فون ديرلاين كتابه «الحكاية الخرافية» بتحديد مفهوم الخرافة وكيفية نشأتها، غير أنه كان يتحدث عن الخرافات في أزمنة ماضية، يسعى إلى تبويبها وقراءة آليات بنائها واشتغالها داخل النصّ الأدبي. إلا أن الزمن لم يسعف ديرلاين لكي يشهد عودة الخرافة ببريق جديد ومختلف عن مرحلة إنتاجها ما قبل التاريخ. فغلغامش عاد بأشكال مغايرة وصار يعبد مرة أخرى، ويوحنا يختبئ في بطن الشجرة كل صباح هرباً من قتلته، أما المسيح فإنه يعاود صلب نفسه كل يوم تمهيداً لظهور أبطال جدد صنعتهم منابر الشيوخ وبراءة مجتمع بات يصدق كل ما يقال له.

فهل نحن نعيش في زمن الخرافة؟

ربما يكون هذا التساؤل ساذجاً لو طرح في مكان آخر غير العراق، أو منطقة الشرق الأوسط عموماً. فما جعل الميليشيات تتشكل هو الخرافة، وما بنى كيانات عسكرية خارج نظام الدولة هو الخرافة، ولم يتشكل ما يعرف بـ«داعش» إلا الخرافة. التاريخ لا يعيد نفسه، بل إننا لم نخرج من هذا التاريخ حتى هذه اللحظة.

اكتمال التاريخ

لم يتردّد سعيد الجعفر على تأكيد أننا نعيش في زمن الخرافة. تأكيده هذا يفسّره قائلاً إن النسق الثقافي العربي اليوم قائم على تصديق الخرافات ونظرية المؤامرة والتنجيم وتشعباته والمعجزات وانتظار المخلص، وهذه المظاهر كلها تنتمي إلى عصر الميثوس ما قبل العقل ما دام العالم يعيش في ازدهار العقل، لا بل بحسب فوكوياما نحن نعيش اكتمال التاريخ ونهايته.

الحلول التي يفكر فيها الجعفر تبدو بعيدة المنال، و«فكرتي عن الحلول تشاؤمية لكني أردد مع غرامشي تشاؤم الفكرة وتفاؤل الإرادة » لو أجرينا بحثاً بسيطاً عن سبب نجاح مشروع التنوير الأوروبي، وعكسنا المقدّمات على وضعنا لأصبنا بالإحباط، فالذي موَّل مشروع التنوير الأوروبي ودعمه كانت البرجوازية الصاعدة من رحم المجتمع الإقطاعي والتي كانت تسعى، كي توطد قيماً جديدة وتشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية جديدة، إلى القضاء على العلاقات الإقطاعية وإلغاء دور الكنيسة وإسقاط الأنظمة الملكية وإقامة أنظمة جمهورية علمانية، ولذا دعمت العلم والعقل وكل المفكرين القائلين بهما».

هذا الكلام يؤكده الشاعر والتشكيلي يحيى البطاط، الذي يقول إننا طوال الوقت نعيش في الخرافة، أو في خرافات تتناسل منذ أكثر من سبعة آلاف سنة، «طوال الوقت ننتج الخرافات ونصدقها… ونموت من أجلها».

غير أن الصحافي منير عبد الملك يرفض تسمية هذا الزمن بزمن الخرافة، بالنظر إلى ما أُتيح حتى لمعتنقي الخرافات من تقنيات تعبيرية وحياتية، فضلاً عن تقدّم جزء كبير من العالم اعتماداً على العلمية الصرفة، لذا فقد تكون التسمية ممكنة محلياً أو إقليمياً وبشكل نسبي أيضاً، لاعتماد كثيرين ممن يعيشون ضمن هذا الإطار على طرد مفاهيم الخرافة من ذهنيتهم.

صانعو الخرافات

ربما يرى كثيرون أن للخرافة كياناً مغايراً لما نعيشه الآن، فتقبلنا لأكاذيب الكثيرين، لا يعني أننا نعيش الخرافة، بل نصنعها… ولذلك أمثلة كثيرة، منها أننا نعي تماماً أن الدماء التي تسيل من العراقيين ليست قرابين تقدّم فداءً لأبطال رحلوا منذ قرون طويلة، غير أننا مع هذا لا نتأنى في إطلاق أوصاف لرفع السيف وضرب الرؤوس، إلا على أنه إحياء لشعائر تعيد اسم بطل ما للحياة، فضلاً عن تصديق ما يقوله شيوخ كل مهنتهم إلهاء الناس عن حياتهم الطبيعية.

الروائية آن الصافي ترى أن الزمن المعاصر في بعض بقاع الأرض يحمل في طيّه الخرافة من قبل بعض العقول التي تصنع الخرافة، وتبتكر لها نماذج متنوعة، ومع ذلك قد تستهجنها من حين لآخر. فنجد العقل يمتطي الخيال ويركض المرء هناك وراء خيوط دخان الخرافات لو فقط يدرك أن هذه الأوهام قد تكون ومضة أمل يضمحل أمامها اليأس وقد تكون هي ذاتها يأساً عميقاً ومدمراً.

وهو ما يشير إليه أيضاً الكتبي فارس الكامل الذي يبيّن أن كل الأديان مبنية على خرافات، «نحن نعيش في مجتمع ديني، غير أن هذا الدين سيتحول مع الزمن وإن طال، إلى تراث نحتفل بطقوسه مثلما نحتفل بالأكلات الموسمية أو الأعياد.

الكامل ينظر إلى عصرنا هذا عصر العلم الذي يفرض نفسه، وكل يوم يمرُّ تسقط حصون الخرافة ويتصدع جدار الدين، فضلاً عن أن الميتافيزيقا لن تصمد طويلاً في مجتمعنا»… غير أنه أيضاً يطالب بإقصاء كل شخص منتج لهذه الخرافات التي غيّرت بنية مجتمعاتنا رابطاً إياه بأمعاء آخر سياسي فاسد.

متلفتون للماضي

كثيرون من الكتّاب والمثقفين يعيدون إنتاج تصوراتهم عن التاريخ وكيفية إعادة تشكله، فالخرافات التي نعيش فيها في غالبية أسبابها أننا نلتفت إلى الوراء فقط، رافضين أن ننظر إلى المستقبل حتى لو كان بطرفة عين… فالتاريخ روح لم نخرج منها. ومن هؤلاء الكاتب الشاب صفاء سالم اسكندر الذي يوضح إننا نعيش في خرافة مستمرة، لأننا ما زلنا نعيش على أنقاض التاريخ، من دون أيّ محاولة للخروج منه.

ويثني الكاتب نعيم آل مسافر على فكرة التاريخ وتلبسنا به، مبيناً أن علينا مراجعة التأريخ ومحاكمته ونقده فهو ليس نصاً مقدساً، وإن كان بعضنا ـ وربما غالبيتنا ـ يعتقد أن النصّ الديني مقدس فإن تأويلاته وتفسيراته ليست مقدسة، بل هي ظنية، على حد قول واضعيها أنفسهم. ويقدم آل مسافر تساؤلاً حول هذا الموضوع، وهو: لماذا نختلف ونتقاتل ونصل إلى مرحلة أن نعيش الخرافة من أجل تأويلات وتفسيرات ظنية؟

وللإجابة على هذا التساؤل يرى أنه علينا مراجعة المفاهيم والمصطلحات ووضع تعريفات واضحة ومحددة لنا نحن العراقيين: كالوطنية والتدين والعلمانية والطائفية والإرهاب والمقاومة والاستشهاد والمقدس والمدنس ووو إلخ، تلك التي يتداولها الإعلام والأدب والصحافة والسياسة، بشكل غير واضح، ويأخذها الناس على عواهنها ويعتقدون بها ويموتون من أجلها. وينهي آل مسافر كلامه حين يقول: «نحن ما زلنا في طور المجتمع الزراعي ونعيش في عالم ما بعد الحداثة، ونستخدم منتجاته ونتداول مصطلحاته، وقد أدّى هذا إلى أن تلتبس علينا الأمور.

وكل ما تقدم هو مهمة النخبة. أن تقوم به وتروج له، وجميع الوسائل متاحة أمامهم. وبداية التنفيذ العملي لكل هذا، تكون من تغيير المناهج التعليمية في المدارس».

تنوير مستحيل

في قلب الحديث الذي كان يدور حول الخرافات وكيفية إنتاجها من قبل رجال دين لكي يتمكّنوا من السيطرة على عقول الناس، دعا بعض رافضي هذه الخرافات إلى حرق الزمن تماماً والبداية بزمن أبيض لم تلوثه عقول دعاة الماضي.

الروائية آن الصافي ترفض فكرة الحرق هذه: ولم حرق الزمن؟! ربما الأجدر نفض الأوهام السلبية والتزام الموضوعية والعلم والتحقق من خطوات التلقي والعمل بما يكفل الخير للبشرية جمعاء وليس لفرد على حساب من عداه. فيما يكمن التنوير، حسبما تشير الكاتبة فرات إسبر، في الخروج من الطائفة والقبيلة والعشيرة وقبول الآخر، وإلغاء الكثير من الفتاوى والتشريعات التي لا تحترم الإنسان ككائن بشري له عقل يفهم ويقدر بعيداً عن الهوس الديني الذي أصابنا، «لا بد من عملية حرق واسعة… أقصد به هذا التطرّف الذي نعيشه اليوم والذبح على الهوية وعقدة إثبات من هو الأفضل».

زمن جديد

وفي جواب عن سؤال: أما كيف نؤسّس لزمن بلا خرافات الآن، كيف نطلق لحظة تنوير؟ فهذه تحتاج إلى ما يشبه المعجزة يقدّم الكاتب يحيى البطاط رؤيته في ذلك، ملخصاً إياها في عدة نقاط: تعليم متقدم منزوع الخرافات، نظام اقتصادي قوي قائم على تكافؤ الفرص، نظام قضائي نزيه ومحترم مؤسس على قوانين مدنية بلا خرافات، نشاط صناعي وزراعي متماسك ومتين قائم على التكنولوجيا الحديثة، حياة ثقافية وفنية وفكرية صحية تتيح حرية مناقشة الأفكار مهما كانت قدسيتها لكنه رغم كلامه هذا، يتساءل تساؤل العاجز: أليس تحقيق هذا من قبيل المعجزات؟ فيما يمكننا أن نؤسس للحظة التنويرية، بحسب صفاء سالم اسكندر، من خلال الخروج عن السائد المألوف وفق قاعدة نظامية متماسكة، والأهم من ذلك وجود شريطة اتفاق تدخل ضمن وعي مجتمعي كامل، وهذا ما نفتقده نحن، وهو ما يعلل ديمومة بقاء الخرافة.

غير أن الكاتب سعيد الجعفر يحاول عكس قراءتنا للعقلية الحالية، قائلاً إننا لو أعدنا قراءة واقعنا بالمقلوب، لوجدنا نوعين من البرجوازية ـ لو سمحنا لأنفسنا بتوصيف كهذا ـ البرجوازية الكومبرادورية التابعة لرأس المال العالمي والبترودولار الخليجي. الأولى لا تهتم سوى بأن تزيد مداخيلها وتقوم بجشع بنهب الناس والدولة ساعية إلى خلق برجوازية طفيلية لا تنفع في تطوير الإنتاج في شيء، بل الاستهلاك فحسب. أما البترودولار الخليجي فهو بطبيعة نسقه الثقافي يسعى إلى تدمير أي مشروع تنويري، بل تشجيع مشاريع التجهيل وفقهاء الظلام. وأخيراً تشجيع الحروب الطائفية والقبلية ولسان حاله يقول عودوا أيها العراقيون والسوريون والمصريون واللبنانيون والتونسيون والجزائريون والمغاربة إلى مستوانا… عودوا بدواً كي نترك تمويل الصراعات في بلدانكم… «قد أكون متشائماً لكن الواقع هو هكذا ونحن بحاجة إلى مِحن أخرى علّنا نأخذ منها عِبراً».

من جانبه، يفكر منير عبد الملك، بأن حرق الزمن قد يزيل الصدأ عنه، الصدأ الذي أكل عليه الدهر وشرب، كما أن محاولات إحيائه خلال العقود السابقة أوصلتنا لإفراز الجماعات المتطرفة من شتى المذاهب، وليس من السلفية التكفيرية فحسب… فضلاً عن الاستمرار بالأنماط الفكرية والعملية المعتمدة لدى المؤسسات التعليمية، التي لا تحتاج إلى إعمال جهد في إيضاح نتائجها الكارثية، بل إلى التغيير الكامل تماماً… ومما تقدّم، فإن عبد الملك يؤكد أن فرصة التأسيس للتنويرية على مستوى «اللحظة» قد تكون ضئيلة أو متعثرة. فالحركة التنويرية فعل تراكميّ ولا يأتي فجأة.

خرافات راسخة

الخرافات التي تحكم عالمنا كافية، بحسب سلوان إحسان، الذي يضيف أنه لم يعد بالإمكان مواجهة الخرافة أخلاقياً فقط، في مجتمع يؤمن بكل ما هو ميتافزيقي كمجتمعنا العراقي، والجنوبي على وجه الخصوص. فليس الأمر هو تناول الموضوع من جهة أنه حقيقة أم كذب فقط، بل يجب تناول الخرافة من جهة قدرتها على تشكيل الواقع.

ويشير إحسان إلى أن الخرافة متوارثة فينا، وستبقى ما دامت الطقوس والشعائر الخارجة عن العقل والمنطق.

وتعقيباً على كلام إحسان، يبني الشاعر علي إبراهيم الياسري رأيه حول تأسيس لحظة تنويرية، مفيداً بأنها لا تأتي إلا من خلال خلق ثقافة التصادم لا الانزواء، وجعل ثقافة المكاشفة بديلاً عن ثقافة التباكي على الزمن الجميل. وفي ردّه على الياسري، يتساءل إحسان: «أي ثقافة صدام وأنت مهدور الدم في مجتمع العشيرة والكوامة ولغة الصك ؟ ما أدّى إلى هروب المتنورين خارج البلاد أو الانزواء للحفاظ على أسرهم».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى