تركيا بين فكَّيْ كماشة

د. هدى رزق

لا تمر تركيا اليوم بأفضل أيامها، إذ يبدو أنها دخلت مرحلة خطرة ربما لم تمرّ بها الجمهورية التركية منذ تأسيسها. هي اليوم محاطة بخصوم صنعتهم بنفسها على الصعيدين الخارجي والداخلي.

يحفر الانقسام في كلّ مفاصل البلاد بدأ من الخلافات السياسية انتهاء بالتفجير الانتحاري الذي قامت به داعش في منطقة السلطان أحمد السياحية. وصلت الخلافات وليس التباينات في تركيا الى حدودها القصوى بعد أن قام المجلس الأعلى للراديو والتلفزيون بطلب من رئاسة الوزراء بعدم بث خبر التفجير الانتحاري. أصدرت محكمة اسطنبول حظر شامل على كل الأخبار والانتقادات والمنشورات المماثلة في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة والالكترونية. هي نفس الصيغة التي اتبعت إثر تفجير أنقرة في 10 تشرين الأول الماضي والذي أودى بحياة 100 من نشطاء السلام. تختبئ السلطة السياسية خلف القضاء الذي وضعت يدها عليه وتقمع حرية التعبير من خلاله. التزمت المحاكم سريعاً بأوامر الحكومة التي أرادت التعتيم على هذا التفجير تماماً كما عتمت وما زالت على العمليات الأمنية والعسكرية ضد حزب العمال الكردستاني في مناطق جنوب شرق تركيا حيث استمرت أسابيع بفرض منع التجول وعتمت على انتهاكات مسؤولي الأمن ولا يزال يمنع الحديث عن العمليات لعدم إثارة غضب الرئيس ومؤيديه.

أعلنت الحكومة أن داعش هو من يقف وراء التفجير هو نفسه داعش الذي وصفه أحمد داوود أوغلو في 7 آب 2014 بأنه مجموعة من أهل السنة الغاضبين والمضطهدين واعتبرهم نتيجة للسياسات الطائفية في العراق. لماذا يضرب داعش اليوم في تركيا؟ لا سيما في قلب اسطنبول وفي المنطقة السياحية في الوقت الذي تخوض فيه الحكومة حرباً مع حزب العمال الكردستاني؟ هل تريد الحكومة القول إن داعش يضرب في تركيا لأنها تخوض حرباً ضدّه وإنّ داعش أصبح ملاحقاً في تركيا بعدما دخلت الأخيرة في التحالف وبدأت بالاعتقالات بضغط من الاستخبارات الغربية. تطرح هذه الأسئلة في الداخل التركي الذي يشهد استقطابا حاداً لم يدع فرصة لأي قوة سياسية بلعب دور الوساطة بين الخصوم في الداخل، الذي يذكر حزب العدالة والتنمية بوعوده بالعمل على الاستقرار بعد فوزه في الانتخابات. فالحكومة لا تخدم البلاد اليوم بقدر ما تخدم طموحات القائمين بها. كما أن أردوغان يتصرف بعد كل حدث أمني يقع في الداخل التركي وكأنه ليس رئيس كل الاتراك بل كرئيس يمثل فقط من صوّتوا له فهو يطارد اليوم 1000 أكاديمي محلي ودولي وقعوا عريضة انتقدوا من خلالها العمليات الأمنية في جنوب شرق تركيا، انتقدهم بشدة واعتبرهم حشداً يطلق على نفسه صفة الأكاديمية وبأنهم يدعمون ذهنية الاستعمار لوجود بعض الأكاديميين الأجانب بينهم، وقال إن البلاد تواجه خيانة ممن يسموا نفسهم مثقفين والذين يمثلون الجهل والظلام. اعتبر هذا النقد بمثابة إشارة لمؤيدي أردوغان بالهجوم على هؤلاء الأكاديميين كما فعلوا منذ أشهر بهجومهم على جريدة حريات بعدما انتقدها الرئيس. ليست الصحافة وحدها في خطر اليوم، حتى المحللين الذي يستقبلهم الإعلام أصبحوا متهمين بنشر الإرهاب.

يعجز كل من داوود أوغلو وأردوغان عن إيقاف التطورات الدراماتيكية التي تحدث في الداخل بعد ما سمحا بحدوثها. وأطلقا منطق القوة في جنوب شرق البلاد الأمر الذي أظهر نتائج عكسية لما كانا يتوقعانه. فهل اعتقدا بأنه يمكنهما لملمة أثار التحريض القومي التركي على الأكراد وإعلان انتهاء التفاوض معهم والنفي بوجود مسألة كردية لأسباب انتخابية والعودة الى الاستقرار بعد انتهاء العملية الانتخابية؟

نجحت سياسة حزب العدالة والتنمية بتطويق تركيا بخصوم على الصعيدين المحلي الإقليمي، فأوغلو وأردوغان عاجزان عن رؤية الوقائع وتحديد السياسات الواجب اتباعها. وعلى الرغم من التحالف مع الولايات المتحدة، بدأ التباين في ما خص العراق وسورية يطفوا على السطح. تحاول واشنطن عبر مبعوثيها الى أنقرة إذابة الجليد بين الطرفين تمهيداً لزيارة جو بايدن في 23 الشهر الحالي، تريد تهدئة تركيا ودعم مساهمتها في القتال ضد داعش، كذلك دعم حهودها لمساعدة اللاجئين السوريين، وشكرها بسبب سماحها لها باستعمال قاعدة انجرليك الاستراتيجية. كل هذا لا يخفي موقف وزير الدفاع الاميركي اشتون كارتر في شهر كانون الأول الماضي الذي شدّد على وجوب أن تعمل تركيا المزيد ضد داعش وتراقب حدودها مع سورية حيث لا يزال الإرهاب يتسرّب.

تركيا الغاضبة من دعوة أوباما لها بالانسحاب من بعشيقا بالقرب من الموصل اتهمت إيران بالضغط على العبادي من أجل سحب أنقره لجنودها، لكن أوباما طالب أردوغان باحترام سيادة العراق.

باتت القيادة التركية مشككة من الموقف الأميركي الداعم لوحدات الحماية الكردية، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي وهي تعتبره جزءاً من حزب العمال الكردستاني، فالقوات الأميركية تدعم قوات الحماية الكردية تحت غطاء قوات سورية الديمقراطية وتقدم لها الغطاء الجوي. لقد ستولت هذه القوات على جسر تشرين ووصلت غرب الفرات، تحدت الخط الأحمر الذي وضعته تركيا التي تخشى إعلان أكراد سورية حكم ذاتي، على طول الحدود التركية السورية. تخشى أنقره من أن يعزز هذا الأمر النزعة الانفصالية الكردية في تركيا. وفي الوقت الذي تشتكي فيه تركيا من دعم واشنطن للأكراد في سورية. جرى وضع المجموعات المدعومة من تركيا على لائحة الإرهاب.

تشعر تركيا بأن مواقف واشنطن أضعفها كما أضعفت نفسها عندما أسقطت طائرة السوخوي الروسية التي كانت تقصف جبل التركمان، وأسفر الحادث عن زيادة الدعم الروسي لقوات الحماية الكردية في شمال شرق سورية وغرب نهر الفرات.

ماذا تنتظر تركيا من واشنطن في 25 كانون الثاني أي عند بدء المحادثات بشأن سورية؟ بعدما اتضح أنه لا تأثير لها على الولايات المتحدة. أصبح جلياً أن الحكومة التركية تعيش ضياع وتبدو عاجزة عن تحديد مصالحها ومصالح بلادها بعد خسارتها لمشروعها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى