عوالم متّسعة رغم ضيق المكان… والشخوص تعيش أقدارها ولها مواقفها من الحياة والواقع
ترتبط كل دراسة لنص عمل فني حكماً بعلاقتين، قبْليّة وبعْديّة، وبمرتكز منهجي. ويتعلق نسق السرد بمكوّنات عديدة، لغوية ونفسية وفلسفية واجتماعية، ويعتبر عالم السرد الذي نسل من مضامين مطردة من نهج الحكي في جزء منه إطاراً وصفياً ذا بعد منهجي بنيوي وأسلوبي وتفكيكي، وهو تجربة تعتمد وسائل شتى متداخلة شعورية ووجدانية تدخل في قيم جمعية شديدة التعقيد والتضافر مع سلوكيات فردية.
انطلاقاً من هذه المحدّدات، نجد عالم نجيب محفوظ مرتبطاً بمرجعيات زمانية ومكانية تعود أولاها إلى عمره التسعيني إذا ذهبنا معه في التقصي إلى أقاصي رواياته، عند إبحار العمر على مقربة من نهابات المرافئ. أما بعض مرجعياته المكانية فهي أرض مصر بتداخلات جغرافيتها، فيما ينحصر عالمه الاجتماعي في إطار جماعة ناطقة بالعربية. ومن أخلاط هذه المكوّنات المكتسبة نتج إبداعه الفني، مرتكزاً على عوامل ذاتية الدافع، متمثلة في مواهب واستعداده الإرادي للعطاء الفني بتدرج وتماهٍ مع صرير وقع المتغيّرات، فثمة روايات متناثرة نشرت له في حقبة الثلاثينات من القرن المنصرم في بعض الإصدارات مثل مجلة «الرسالة»، جمعها وأصدرها تحت عنوان «همس الجنون»، وكانت آخر أقاصيه في تلك الحقبة مجموعة «قشتمر». صدرت تلك المجموعات في وعاء يحتوي على قراءة متعمقة ومعرفة مدققة المفردات في واقع بلاد نشأ ووجدها ترزح تحت نير المستعمر.
نجيب محفوظ ابن أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى. إلى كونه درس الفلسفة ويحمل فيها إجازة، ومن مرابع نشأته هذه انطلق غير جامد في قراءاته، متجاوزاً موقعاً إلى ما يليه، غير غافل عن ملمّات الزمن، إذ تفتق وعيه كطفل نبيه وهو في الثامنة من عمره فطالع وعيه حوادث ثورة 1919، ثم عاش تداعياتها فكان أول ما التقط من تضاد المتغيّرات وثقافتها، مع مكوّنات ما التمس خياله من ملاعب الطفولة. وما لبثت الحرب العالمية الثانية أن وسمت رؤى الشاب القاص وتفاعلت في داخله، وانفجرت إشراقة ثورة 1952 التي غطت مساحة الوطن وتداعت تأثيراتها فشملت محيطها العربي وما وراءها من بلدان أفريقية. غير أن الثورة تعثّرت في مسيرتها وأصابها الخلل وكشفت عن نفسها بوضوح في هزيمة 1967 وما أعقبها حقبة من حقبة ساداتية وعدد من الممارسات على مستوى السلطة السياسية ألقت بظلال على الجماعات المصرية والعربية معاً، فشكلت مناخات روايات «بداية ونهاية» و«زقاق المدق» و«القاهرة الجديدة» والثلاثية «قصر الشوق» و«بين القصرين» و« السكرية»، و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف» و«الكرنك» و«يوم قتل الزعيم» و«حديث الصباح والمساء»، وهو يقدم في سرده الواقع الاجتماعي للأسرة المصرية الكبيرة، وهذا ما يمكن أن نسميه طبقات من الفكرة وتيارات من السرد المتين الذي تطوف في آفاق المستقبل.
تعامل نجيب محفوظ أيضاً مع السينما واحداً من مشاهير الكم والنوع، وكقطاع حيوي بدأ العمل فيه منذ منتصف الأربعينات.
يقول المؤلف محمود قاسم في كتابه «نجيب محفوظ بين السينما والرواية»: «أتاحت لي الفترة التي قمت فيها بإعداد هذا الكتاب أن أعاود قراءة إبداعك الجميل، مرة واحدة في فترة متقاربة، وأن أشاهد الأفلام المأخوذة عن بعض هذا الإبداع من روايات وقصص كثيرة، ما جعلني أعايش عالم الكاتب البالغ الاتساع، رغم ضيق المكان فيه، وذلك من خلال شخوصه، والأماكن التي يعيشون فيها والمصائر التي تنتظرهم، بالإضافة إلى مواقفهم من الحياة والكون والمسائل القدرية. وجاءت فكرة هذا الكتاب من خلال اهتمامي بالمقارنة دوماً بين النصوص الأدبية والأفلام السينمائية المأخوذة عنها، سواء في الآداب العالمية أو المحلية، وهذا أمر مهم جداً، إذ لاحظت دوماً أن كثيراً من المهتمين بالسينما المصرية، وبينهم نقاد، لا يقرأون الآداب إلاّ قليلاً، وأن أدباء ينظرون إلى السينما في بعض الأحيان، نظرة دونية فلا يتابعون الجديد منها، وإن يكن بعض الأدباء صاروا نجوماً في السينما بفضل إبداعاتهم، لذا، فإن الدراسات المقارنة الحقيقية بين الآداب والسينما قليلة جداً، رغم هذا الكم الكبير من الأفلام الجيدة والمتميزة المأخوذة في كل أنحاء الكون عن الأدب. مهما قيل إن الفيلم صورة فهو أيضاً قصة وحوار. وكم قيل حول هذه العلاقة بين الفيلم والنص الأدبي، وكم نوقشت مسأله الالتزام أو الخروج على النص الأدبي. وكانت أعمال نجيب محفوظ الأكثر جدالاً في هذا الصدد، ليس لأن أعمال الكاتب كانت الأهم فحسب، لكن أيضاً لأن محفوظ هو أقدم الروائيين ارتباطاً بالسينما، سواء ككاتب سيناريو منذ بدايته عام 1947، أو مذ حصل الانتباه إلى إنتاج رواياته عام 1960 وحتى الآن. فليس هناك أديب آخر ظلت لديه هذه العلاقة بالسينما طوال هذا السنوات الطويلة، فضلاً عن أنه تعاون في كتاباته للسيناريو مع أبرز المخرجين، وفي مقدمهم صلاح أبو سيف الذي كان يفاخر دوماً بأنّه علّم نجيب محفوظ حرفية كتابة السيناريو لذا فإن مناقشة مسيرة محفوظ في السينما ستظلّ أمراً متجدداً في مسألة الدراسات والبحوث السينمائية، خاصة المقارنة منها.
لفتت هذه العلاقة الكثير من الباحثين، فقدموا العديد من الدراسات والمقالات في هذا الشأن، ولعلّ الموسوعة التي أعدها الدكتور مدكور ثابت عن نجيب محفوظ والسينما في أكاديمية الفنون تكشف قوة هذه العلاقة، رغم أنه ليس كل ما كتب عن الكاتب والسينما مرصود في هذه الموسوعة. كما أن الكتب التي تناولت إبداع محفوظ في السينما لم تتوقف إلاّ عند أفلام بعينها، إذ بدا لي إلى أي حد بات صعباً لأيّ باحث أن يرصد هذه العلاقة.
من هنا، كان هذا الكتاب حول العلاقة بين الفيلم والرواية لدى الكاتب، أو عامة بين النص الأدبي، أياً يكن، رواية أو قصة قصيرة، وبين النص الروائي والنص السينمائي. إنه كتاب مقارنة في المقام الأول بين الطرفين: الفيلم والرواية. وبالعكس. هو قراءة لكلا النصين معاً، أي قراءة النص السينمائي مع أصله النص الأدبي، وما لفت كاتب السيناريو في النص الأدبي، وما توقف عنده، وما حذف من النص؟ ثم إضافات السيناريو، إذ لوحظ أن ثمة كتاب سيناريو تعاملوا مع النص الأدبي بالتزام واضح في أفلام عديدة بينها «اللص والكلاب» و»أهل القمة» و»الحب فوق هضبة الهرم» و»بين القصرين»، وبدرجات مختلفة في «السمان والخريف» و»الطريق» و»السكرية» و»الحب تحت المطر» و»ميرامار»، و»القاهرة 30» و»الحرافيش»، وراحت أفلام أخرى تأخذ بعض السطور أو الفصول، مثل «الخادمة» و»نور العيون» و»وصمة عار» و»ليل وخونة»، بينما من الصعب جداً أن نرى أي علاقة بين أفلام كتب في ملصقاتها أنها مأخوذة عن نجيب محفوظ، من دون أن تكون مأخوذة حقيقة عن أي من أعمال نجيب محفوظ، مثل «الشريدة» لأشرف فهمي و»أميرة حبي أنا» لحسن الإمام و»فتوات بولاق» ليحيى العلمي و»المذنبون» لسعيد مرزوق».
لدى توقفنا عند المقارنة بين النص الأدبي والسينمائي، وحين لا نجد شيئاً يستدعي المقارنة أو التحليل، يقول محمود قاسم: «تجاهلت المقارنة والكتابة عن هذه الأفلام، ففي البحث عن الأصل الأدبي لفيلم «فتوات بولاق»، ثمة معركة مفتعلة خيضت في بداية الثمانينات أن الأصل هو «الشيطان يعظ»، علماً أن هذا الاسم هو للمجموعة، وليس للقصة المأخوذ عنها الفيلم، وقيل آنذاك إن القصة بيعت مرتين، كما ادعى البعض أنها مأخوذة من إحدى قصص «أولاد حارتنا»، وهذا ليس صحيحاً، وذكر البعض أن الفيلم مأخوذ من الحكاية رقم 22 في رواية «حكايات حارتنا» وبقراءة الحكاية التي لا تزيد على صفحتين، اتضح أن لا علاقة لها بقصة الفيلم، والأرجح أنها مأخوذة من «الشيطان يعظ». أما فيلم «أميرة حبي أنا» فهو مأخوذ عن واحدة من قصص «المرايا»، وثمة تشابه واه جداً بين بطلة القصة وأميرة، كما أن كاتب السيناريو أحمد صالح كتب سيناريو مختلفاً تماماً عن أقصوصة «الشريدة» المنشورة في أول مجموعة قصصية للكاتب باسم «همس الجنون» عام 1939 وكتب مقالاً في أخبار اليوم حول هذه الظاهرة، بعدما كتبت عن الفيلم لمناسبة تكريمه في مهرجان الإسكندرية عام 2009.
إذن، هذا كتاب قوامه الأساسي المقارنة بين النصين من دون الرجوع إلى أي مراجع أخرى وعلى نحو متعمد، سوى النص الأدبي كقراءة، والفيلم كمشاهدة. ولن نرجع إلى ما كان يردده محفوظ عن عدم تدخله في الفيلم باعتباره وسيلة مختلفة، ولم نر في العالم كاتباً يتدخل البتة في حذف أو إضافة لفيلم مأخوذ عن رواية أدبية له، فالكاتب لم يشارك قط في كتابة أي من الأفلام المأخوذة عن نصوصه الأدبية، ولا نعلم ما كان سيؤول إليه النص لو فعل ذلك، لكننا نذكر أن كتاباً عديدين تركوا زميلهم محفوظ يكتب لهم سيناريوات أفلام مأخوذة عن قصصهم، مثل إحسان عبدالقدوس في «أنا حرة» و»بئر الحرمان». ولعل تدخل أي كاتب في روايته تجلى بشكل واضح في تجربة صبري موسى وهو يكتب سيناريو فيلم «حادث النصف متر»، فبدا كأنه يكتب سيناريو لرواية مختلفة تماماً عن روايته. والأمر يحتاج إلى بحوث عديدة عن السينما في أنحاء الدنيا كلّها.
من هنا كان هذا الكتاب الذي يعتمد على قراءة النصين معاً ومقارنتها. النص الأدبي والنص السينمائي، كنوع من التسجيل، من دون اللجوء إلى التأصيل أو التحليل. وفي آخر فصول الكتاب قدم الكاتب قائمتين لجميع البيانات عن الأفلام التي كتبها نجيب محفوظ مباشرة للسينما، وأخرى عن الأفلام المأخوذة مباشرة من نصوصه الأدبية في أول تجميعة من نوعها.
صدر كتاب «نجيب محفوظ بين الفيلم والرواية» لمحمود قاسم لدى الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، في 220 صفحة قطعاً كبيراً.