صعود العصر الإيراني… مع الحلفاء والثوابت والحقوق
هتاف دهام
سجّل الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني خرقاً هاماً في السياسة الخارجية الإيرانية. لا ينفرد روحاني وحكومته باعتراف منه شخصياً، بإنجاز هذا الخرق، بل شاركت فيه الدولة الإيرانية برمّتها من المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية السيد علي الخامنئي إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية كلّها، «فلو لم تكن هناك مساندة من المرشد لمسار المفاوضات وأداء المفاوضين وتوجيهاته الحكيمة لما وصلنا إلى هذا النجاح»، كما قال روحاني.
فتح هذا الخرق عهداً جديداً لإيران يختلف عن كلّ ما سبقه بعدما فشلت واشنطن في تهديداتها وعقوباتها العسكرية بجعل الجمهورية الإسلامية تتخلى عن حقوقها النووية، ولو رضخت للضغوط الأميركية لما كان الشعب الإيراني يحتفل بهذا الانتصار. وبطبيعة الحال ستستثمر طهران هذا النجاح في المجالات الداخلية والخارجية كلّها وسينعكس هذا النجاح في الآن نفسه في الداخل الإيراني وعلى المحيط بشكل كبير، وستشهد نقلة نوعية على الصعيد الاقتصادي، لأنّ إعادة انتظامها في النظام الاقتصادي العالمي معطوفة على قدراتها الذاتية سيمكّنها من احتلال مقعد لا يمكن أن تصل إليه دولة من الدول الإقليمية. من هذه النقطة سينعكس النمو الإيراني تراجعاً في الإقليم، برغم منطق التنافسية غير المتكافئة، ولم يكن صدفة أمس الأحد تراجع البورصات في الخليج في الساعات الأولى من الافتتاح 6.5بالمئة بعد دقائق من بدء التداولات .
إنّ تحرّر إيران من عبء العقوبات، سيجعل من حركتها في الإقليم أكثر فعالية، وهنا سيكون التأثير المباشر في ساحات أساسية ثلاث تختصر المشهد في الشرق الأوسط… وهي العراق، سورية واليمن، ولن يكون في مقدور الدول الإقليمية المناهضة لها أن تجاريها في التنافس على هذه الساحات، فإذا كانت طهران قبل رفع العقوبات استطاعت مع حلفائها في محور المقاومة أن تحقق إنجازات هامة على مختلف الصعد أنبأت بفشل العدوان على هذا المحور، رغم الكمّ الهائل من الضخّ الإعلامي والمادي، فالسؤال الكبير الآن كيف سيكون أثر الفعل الإيراني بعد تحرّر الجمهورية الإسلامية من القيود الاقتصادية والسياسية التي كانت مفروضة عليها وخروجها من عزلة اقتصادية استمرّت سنوات وعودتها إلى السوق النفطية وإعلانها بعد دقائق من رفع العقوبات الدولية على لسان نائب وزير النفط الإيراني أمير حسين زماني أنها مستعدّة لزيادة صادراتها من النفط الخام 500 ألف برميل يومياً؟
سيكون العالم على موعد مع عصر صاعد جديد لإيران وللمحور الذي تنتمي إليه. لقد دخل الاتفاق النووي التاريخي بين إيران والسداسية الدولية حيز التنفيذ، ورُفعت العقوبات الدولية عن طهران بعدما تحققت الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA أنها نفذت التزاماتها النووية، وفق بنود الاتفاقية الشاملة حول البرنامج النووي الإيراني.
تجاوزت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مرحلة الحظر ودخلت مرحلة التنمية من خلال تثبيت حقوق الشعب النووية ووضع الاقتصاد الإيراني في مدار الاقتصاد العالمي، مع مراعاة مطالب واحتياجات الأطراف كلّها، ما يشكل فرصة للمساهمة في استقرار وأمن المنطقة والعالم ويمهّد الأرضية لاتّخاذ خطوات جبّارة في مجال العلاقات الخارجية على المستوى الإقليمي والدولي.
لن تتراجع طهران التي خاضت المباحثات النووية بأفضل شكل ممكن عن ثوابتها ستبقى تحالفاتها على ما هي عليه وستترسّخ أكثر بعد تنفيذ الاتفاق النووي، وستكون المعارك التي تخوضها أكثر إصراراً عليها. فهي تعتبر أنّ هذا الصمود على كلّ ساحات الاشتباك مع حلفائها هو الذي أوصل إلى هذه اللحظة التي تحقق فيها هذا الإنجاز الكبير، لكن هذا لا يعني أنها قبل توقيع الاتفاق ليست كما بعده بالنسبة لعلاقتها مع العالم والمجتمع الدولي مع تأكيدها على خياراتها الاستراتيجية والثوابت التاريخية للثورة الإيرانية، ولا يعني أنّ الإيراني عاد ومن الباب العريض إلى ما يسمّى المجتمع الدولي، فهذا الأمر ما كان ليحدث لولا ثبات الإيرانيين وإصرارهم على موقفهم واعتبارهم أنّ الغرب هو الذي تغيّر وسلّم بإيران القوية المستقرّة صاحبة الدور الإقليمي، وهو لو استطاع أن يحجب عن إيران ما سلّم به أخيراً لها ما كان تأخر.
سيراعي الإيرانيون الحفاظ على المكتسبات التي تحققت نتيجة توقيع الاتفاق، ولا شك في أنّ إدارتهم لعلاقتهم بالغرب قد تغيّرت، لكن أيضاً بالتزامن مع هذا التغيير، تغيّرت علاقة طهران مع موسكو نحو المزيد من الترسيخ للمصالح المشتركة، وقّعت عقوداً لشراء سلاح من روسيا بقيمة 21 مليار دولار، وهذا يعني أنّ إيران تسعى إلى إدارة توازن حساس من هجوم الغرب نحوها بالحب وذهابها في المقابل لتوازن هذا الحب الغربي المسموم، لتحالف مع روسيا، بدأت تطبيقاته بصفقات السلاح وبتجسيد هذا التحالف على الأرض السورية، وفي التعاون بمجالَيْ النفط والغاز.
لا يقتصر الانتصار الذي حققته JCPOA على المعتدلين دون المحافظين، فالاتفاق النووي ما هو إلا «حصيلة مقاومة وحكمة وتدبير شعب يعارض الحرب والعنف» كما يقول روحاني. إنّ مسألة محاولة تمييز الغربي للاتفاق على قاعدة الاعتدال والتطرف في إيران، مسألة قد لا تكون دقيقة، فهي تعبّر عن أحلام غربية وأميركية تريد للاتفاق مع إيران أن يُحدث وبضربة واحدة ما فشل به الحصار والحروب والعزل والتآمر على مدى 36 عاماً، لكن الإيراني هو أكثر من يعرف هذه النيات الغربية الخبيثة التي تسعى لأن تحقق بالقوة الناعمة ما فشلت في تحقيقه بالقوة الخشنة، وبرغم التسليم بأنّ هناك إصلاحيين ومحافظين، وهناك صراع سياسي بينهما، لكن الأكيد أنّ الجمهورية الإسلامية بتناقضاتها الداخلية كلّها، بإصلاحيّيها ومحافظيها، بثورتها ودولتها، بحدودها الوطنية ومشروعها الإقليمي هي المستفيد بكلّ هذه المعاني حتى لو تناقضت من الاتفاق النووي.
يمثل إلغاء العقوبات وفق الرئيس روحاني انفراجة كبيرة أمام الشعب الإيراني وسيزيد من مدخول البلاد من العملات الصعبة، بسبب رفع القيود عن صادرات النفط والإفراج عن الأرصدة المجمّدة، وسيخفض تكلفة التبادل التجاري مع الخارج ويوفر إمكانية الاستفادة من خدمات النظام المصرفي الدولي والاستفادة من الرساميل الأجنبية وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والحصول على التكنولوجيات الجديدة وزيادة الصادرات غير النفطية، ولذلك فإنّ الاتفاق النووي يشكل نقطة تحوّل في التاريخ الاقتصادي للبلاد. وبناء على ذلك ستكون كلّ المعارك الإقليمية، سواء الاقتصادية أو العسكرية أو المالية أمام لحظة تحوّلية مع بدء تطبيق الاتفاق من خلال رفع الحظر، وبالتالي هناك انفراج ومتنفّس وأوكسجين ومال وسلاح وقدرات بعد صبر وتحمّل وضغوط ومعاناة، وسيجني حلف المقاومة المضحّي مع إيران والشريك في الدم والصبر معاً ثمار المرحلة الجديدة، ومنه حزب الله وسورية لا بل هما على رأسه.
وفي موازاة ذلك سيشهد حلفاء إيران بعد رفع العقوبات عنها تضييقاً وحصاراً، باعتبار أن واحداً من المآخذ السعودية والأوروبية على الإدارة الأميركية أنها ستحرّر طهران من الضغوط الاقتصادية، وتساعدها على استعادة قوتها العسكرية والاقتصادية، بشكل أنّ حلفاءها سيستفيدون أكثر، ما يعني أنّ كلّ إزالة للعقوبات عن إيران سيقابلها مزيد من التضييق على هؤلاء، لكن في المقابل ستبقى التزاماتها حيالهم مستمرة، لن يتأثر أصدقاؤها بالعقوبات طالما أنّ هناك مئة طريقة للالتفاف عليها، فهذه العقوبات محدودة المفعول ولا تتعدّى الخربطات الغربية التي جاءت بطلب من بعض الأطراف الداخلية اللبنانية.
إنّ من شأن عودة إيران إلى موقعها الطبيعي سياسياً وجيو استراتيجياً ونفطياً ومالياً، أن توسّع من دائرة تأثيرها في المنطقة، لا سيما أنّ دول الخليج قدّمت نفسها في كلّ الحالات في موقع الخاسر، وهذا ظهر في هبوط أسواقها كردّ فعل لهذا التموضع، ولو تحكّمت الموضوعية والعقلانية والحكمة بسياسة هذه الدول اتجاه إيران لكان من المفروض أن تكون استجابة الأسواق الخليجية لحدث كهذا ارتفاعاً في الأسهم لا العكس.
وعليه، تنظر السعودية بريبة لبدء تنفيذ الاتفاق وستحاول عرقلته بمختلف الطرق، فهي بدأت قبل أيام من بدء تنفيذه بحملة تصعيد كبيرة، كانت باكورتها إعدام الشيخ نمر النمر، في محاولة منها لجرّ طهران إلى تصعيد مقابل، من شأنه أن يُطيّر الاتفاق، غير أنّ الإيرانيين كانوا متنبهين جيداً إلى هذا الأمر، ودرسوا خطواتهم بدقة. ولذلك، ستكون المرحلة المقبلة مرحلة تصعيد سعودي و»إسرائيلي»، فلن ترضى الرياض بمرور هذا الاتفاق وستلجأ إلى افتعال أزمات جديدة من خلال ملفات أخرى، ومحاولة استدراج طهران إلى التصعيد، برغم أنه لم يعد بمقدورها التصعيدإالا بورقة الحرب التي لن يسمح الداخل السعودي – المنقسم إزاء السياسة السعودية – باستخدامها، وكذلك الولايات المتحدة لكي لا تحترق مصالحها في الخليج. أما «إسرائيل»، فمن جهتها ستعمل من خلال اللوبي «الإسرائيلي» في أميركا على التأثير على الجمهوريين عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، لاستصدار قرارات تكون بمثابة التنصّل من هذا الاتفاق.
ويبقى أنّ الأميركي والإيراني أبديا حرصاً كبيراً على تنفيذ الاتفاق، وهذا ظهر في قضية البحرية الأميركية وطريقة تعاطي الطرفين، بإفراج الحرس الثوري عن العسكريين الأميركيين المحتَجَزين عقب اعتذار أميركا للمسؤولين في إيران وتعهّدها بعدم تكرار تجاوزها للمياه الإيرانية، وصولاً إلى تبادل المسجونين وتأكيد وزيري خارجية البلدين جون كيري ومحمد جواد ظريف أنّ الديبلوماسية قادرة على إحداث نتائج إيجابية.
ويمكن القول إنّ المنطقة أمام إيران جديدة تدرك كيف تميّز بين نوعين من الانعكاسات عليها، أكانت الإيجابية منها أم السلبية، كنتيجة للاتفاق النووي، ولذلك تسعى هي لأخذ الإيجابيات ورفض السلبيات.