جعجع من قائد ميليشيا إلى صانع رؤساء… نموذج حيّ برسم السوريين
روزانا رمّال
الحالة التي قُدِّمت إلى اللبنانيين بتوقيتها على مشارف جنيف السوري، أو ما يعادله، تتخطّى في خفاياها الوضع السياسي العام، وتتعدّاه إلى ما هو أعمق، مما يؤثر عادة على النفوس والعقول والخيارات، فالمشهد الذي ظهر فيه قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، يؤسّس إلى مرحلة تسامح مقبلة على يد «ولي أمر المسيحيين» في البلاد، وهي ولاية يبدو أنّ هناك من أراد له أن يرفع رايتها وهي بحدّ ذاتها مؤشر على تغيّر منهجي بطريقة التفكير وروح المسؤولية والمكانة التي قرّر جعجع وضع نفسه فيها، وهو الإطار المرسوم بشكل مباشر و«المطلوب»، لأنه ربما يخدم أكثر من مدرسة أو قضية أو «تخريجة» شرق أوسطية عالقة.
وإذا كان المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا قد أشاد يوماً في معرض طرحه حلولاً للأزمة السورية بالنموذج اللبناني «المدهش»، فإنّ المشهد اليوم يؤكد فعلاً على كلامه القادر أن يكون حجر أساس تنطلق منه رؤى وخيارات عدة، سياسية وديبلوماسية واستخبارية دولية.
يعرف سمير جعجع أنّ كلّ شيء قد تغيّر اليوم، وأنّ الظهور بمشهد العداء والخصم اللدود الدائم أمام فريق عون، أيّ التيار الوطني الحر، لن يخدم المرحلة ويعني أيضاً أنّ المضيّ نحو مصالحة مسيحية ـ مسيحية بات أسهل بعدما أفرزت السنوات شباناً وشابات جدداً لم يعايشوا تلك المرحلة الصعبة بين الأحزاب المتناحرة أهلياً، وهم على استعداد أكثر من غيرهم لتقبّل فرصة الصفح والعفو عما مضى.
لم يكن ممكناً إخفاء تلك الضحكات التي ظهرت على ملامح قيادتي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، وعناصر كلتيهما وجمهورهما المتابع لحظة إعلان جعجع دعمه ترشيح عون للانتخابات الرئاسية، ولم يكن ممكناً أيضاً تبسيط ما جرى، ومن رفع الأنخاب الذي يقدّم المشهد كأنه «عيد»، وهو الحدث الأهمّ مسيحياً، ويشرح تعطُّشاً إلى الحلّ منذ زمن طويل، وهنا تصبح «المصالحـة المسيحيـة» يومـاً مجيداً من دون أدنى شك.
كلّ هذا لا يعني أنّ جعجع يستطيع المخاطرة بكلّ تعهّداته ونسفها، ولا يعني أنه قادر أن يقدم على خطوة استراتيجية بهذا الحجم تشبه إلى حدّ بعيد اليوم الذي تصالح فيه حزب الله وحركة أمل ضمن الساحة نفسها، وما قدّمته هذه المصالحة على الساحة الشيعية التي حُكي حينها عن قرار ومباركة إيرانية بضرورة حصول هذه الوحدة، بعد توقعات بأنّ الساحة الإسلامية مُقبلة على مخاطر عدّة، فتوجّب توحيد الصفوف وحرق الورقة السوداء، وهي الورقة نفسها التي أراد لها عون أن تحرق مع القوات اللبنانية لفتح صفحة بيضاء مكانها، من هنا فإنّ القرار القواتي ليس عبثياً ولا كيدياً، بل هو قرار نابع من أولويات وجهات راعية، لأنّ حدثاً كهذا يستحيل أن يحدث من دون عرّاب، ولو جاء عبر معراب. وفي هذا الإطار تصبّ الترجيحات في خانة الترحيب الأميركي بهذه الخطوة التي أخذها جعجع على عاتقه، وهنا يختلف الحساب الأميركي كثيراً ولا ينسحب على تأثيره وحصره بلبنان أو بالمسيحيين.
دراسة ما جرى تقدّم عن قرب بعض المخاطر، وهو مثال ناجح يقدّم بعد سنوات الحرب السورية لكلّ الذين يمانعون دخول بعض الأطراف السورية المسلّحة في الحلول، بأنه من الممكن أن تقدم ميليشيات سورية مسلحة تعاطت مع العدو أو تقاطعت مصالحها معه على فتح صفحة جديدة بيضاء، وتدخل اللعبة السياسية بمقبولية الأفرقاء، طالما أنّ قائد الميليشيا يحمل الجنسية السورية كـ»الجيش الحر» مثلاً، ومَن يدري ربما قادة سوريون من «جبهة النصرة»، وهنا تشتدّ المخاطر، ويصبح مَثَلُ دي ميستورا عن «لبنان المدهش» ورقة دليل ترفع أمام المنابر والمحافل الدولية والإقليمية، أو حتى تدرّس في مناهج الفكر السياسي والتقلبات التي تفرضها الظروف، فتصبح شرعنة الميليشيات أمراً عادياً طالما أنّ لبنان عاشه، وهذا لا يعني أنه ينطبق فقط على جعجع بل ينطبق على كلّ الأفرقاء الذين شاركوا في الحرب الأهلية، ومن بينهم جنبلاط مثلاً.
الحساسية تجاه جعجع يعيشها بعض اللبنانيين كحساسيـة بعض الضمائر التي قلّ نظيرها، ولم يبق منها إلا صوت حريص، لكنه ليس صاخباً كصخب التطورات السياسية، وحده الرئيس سليم الحص ممتعض مما يجري ومتفاجئ، ربما من أن يأتي الترشيح على لسان جعجع بالتحديد، ربما أراد الحص أن يذكر اللبنانيين بحساسية الموضوع جملة وتفصيلاً، لكنهم أرادوا أيضاً أن يقولـوا إننـا تعوّدنـا على تقبـل الكلّ رغـم ارتكاباتهـم.
خصوصية جعجع تنبع إذاً من كونه أحد أبرز من تعاطى حزبه مع «الإسرائيليين»، واستخدم سلاحهم أيضاً، ولا شك في أنّ دعمه لترشيح عون فيه إحراج لحزب الله، حتى لو لم يقرّ بذلك، رغبة منه في إيصال عون الذي لم ينشئ علاقة طبيعية مع القوات اللبنانية حتى الساعة، أيّ أنه لم يُعْفِ عما مضى.
بالانتظار، يقدّم لبنان نموذجاً خطيراً للشعب السوري يخدم فيه رغبات الولايات المتحدة في تسهيل وتبسيط شرعنة بعض الأطياف المعارضة المسلحة والإرهابية وتقديمها على طاولة المفاوضة من بوابة «الجار» لبنان الذي يقدّم جعجع اليوم كواحد من صانعي الرؤساء، بعد قيادته ميليشيا حارب بها أهله…
لمَ لا؟ فبعض التلطيف للمخاطر لا يشكو من شيء!