«طيف بلا ظلّ»… جردة حساب مفتعلة للهروب من شبهة التأويل

النمسا ـ طلال مرتضى

بوصفها ـ الفكرة ـ اجتراعاً المدخل إلى أقانيم الكلام الفسيحة الثيمات والعلائق، لا بدّ من التفكر للحظة بكل حيواتها لتبرير أسئلتها العبثية التي استوطنت ذواتنا. وكونه حالة بدع مفتعل أبعد إلى حال معمار وسبك، هو الشعر وليس سواه، يبدو مترفعاً بذاته عن شبهة التأويل، حين ينتفض الضمير المستتر بعباءة البلاغة وسيف المعنى ليحرّك النقد اللئيم لتعريته من دانيات قطوفه. قبل أن نسهب نحو الاستهلال ضياعاً في صحارى الإيهام لاهثين وراء الضوء النائي الوميض ـ خواء المدلول ـ غير مدركين أن الصوت دلالة أقرب، بل هو تأكيد لوجود السؤال: «إلى أين تأخذنا أيها الشعر؟»، افتعالاً إلى ما يومئ الشاعر اللبناني شوقي بزيع، كعتبة لمنجزه الجديد.

الجواب يكمن في السؤال، الشعر حامل لمن استطاع ترويضه، إذاً الأجدر أن نعود إلينا بفطرية السؤال، كيف يبتدع الشعر؟ ولأنه ليس ترفاً بل ملح لزاد المستضعفين، فهو بالمحصلة عملية حسابية لذيذة يتركها طالب مُجدّ على هامش دفتر الحساب. وتلك الثيمة الكبرى التي توقعه في المساءلة، لأن الحساب بالمحصلة قانون ونتيجة.

بياناً، نسقط ما تقدم على تجريب جديد افتعلته فتاة الشعر اللبنانية ليندا نصار في منجزها الأخير «طيف بلا ظلّ»، بعد «إيقاعات متمردة» و«أكتب بالعربية» والكثير، الصادر عن منشورات «دار النهضة العربية» 2016 بيروت. في إيقاعاتها المتمردة دأبت نصار على إخراج نصوصها من حيز الورق إلى الفضاء المحسوس، عندما أسكنتها طيّ قيثارتها كألحان تشجي.

«طيف بلا ظل»، رياضياً شيّد على خمسة قوائم: العري، المرايا، الغياب، اليتم، والرصاصة. اجترعتها الشاعرة في رحلة البحث عن أناها. العري ويعود إلى تعرية الشيء أي مكاشفته من دون انحياز، وقد تردّد كصدى في جلّ النصوص العابرة: في الدرب عري، أن تتعرّى من قميص الحزن، تتعرّى أجسادنا تخلع شعورها. والمرايا التي جاءت من المواجهة المؤلمة لتسقط كل أقنعة الزيف التي سكنتها في أضغاث أحلامها: مرآتي لا تخطئ، حكايا المرايا، يرمي مرآة مرتجفة الأطراف، حفرت أنفاسها مرآة، عبثًا تجذّف في مرآتك، تمسك مرايا الانهيار. وفي حضرة الغياب/ الفراغ الذي حملته الشاعرة بكلّ حواسها لتصنع من خوائها ديناميكية وجود في الفراغ: أراك بآخر وقد لا أراك، ألامس فجراً، وأخلع ليلاً، أعانق ثيابك، وألثم روحك، أشمّ غيابك. كل هذا التراكم أشاح عن يُتم مقطّع استوطن حواس الشاعرة حين بدأت رحلة إبحارها نحو الضوء في محاولة أخيرة للقبض على الطيف الذي سفح حواسها على مذبح الانتظار: هناك تركت الصّور على مقعد يتيم، وفي مفاز آخر تدافع عنه: اتركوه لا تذبحوه: نَبَضَ صارخاً، إنّه الأخير، إنّه اليتيم وسط فكري اليتيم. وسط ضجيج الانكشاف والمواجهة ولوثة الغياب واليتم، تتلقى رصاصتها المتوقعة، كحصان زين صدر مالكه بثمين الأوشحة، إلى أن أنهكته المضامير، فكانت المكافأة: في المحطّة الأخيرة، هناك مَن مرَّ على قلبي تاركاً عتاده، وعند المحطّة نفسها، انتظرته ليغيب، لأصنع منه تمثالاً أجسّده بكلمة. وتقول: نصوّب نحونا رصاصة بلا هويّة. إلى أن تسدل ستارة الغناء من دون تصفيق، لتستعيد كل ما تقدم في محاولة عبثية للملمت روحها، كان ذلك قبل أن تسقط في رمادها قائلة: وتسلّلت الرّصاصة الأخيرة. الشعراء يتلقون الرصاص وقوفاً في ظهورهم، لا يهيلهم نزفهم دائماً منشغلون في تشكيل الدوي: تلك الرصاصة، حملت الكثير، دربها مشحون بالحيرة بين النار والرماد، أبت أن تفرغ داخلها. تلك الرصاصة قاسية، وقلبها غبار رماد جفّف الزمن، حائرة في رحلتها في سفر الترقّب، تخاف من نفسها، أمنيتها خروجها عن ذاتها.

الشعراء أول من ابتدع: نشيد الغياب. شقي أنت أيها المطر، ظل وركام، أغادرك بين الجرح والصرير، بين رماد الكؤوس المشتعلة، أحفر في صمتك بوح، وظلي غريب رصاصة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى