وضاح صائبكذبة «السامية» في التوراة ما زالت فاعلة!
تحدّد التوراة سلسلة نسب نوح، منذ آدم، بعشرة أفراد، مع الأعمار التي عاشها كل فرد منها:
آدم 930 سنة – شيث 912 – أنوش 965 – قينان 910 – مهلئيل 895 – يارد 962 – أخنوخ 365 – متوشالح 969 – لامك 777 – نوح 950 = 600 قبل الطوفان + 350 بعده .
وهي تتشابه مع الأسطورة السومريّة، السابقة للتوراة، والتي حدّدت عشرة ملوك حكموا سومر قبل الطوفان السومري، كان آخرهم شمس نفاشتا الذي حصل الطوفان السومري في عهده، وأنّ الثمانية الأوائل طالت مدد حكمهم 34620 سنة، بمعدّل وسطي أربعة آلاف وثلاثمئة سنة لكلّ منهم.
الأرقام الكبيرة، غير المعقولة، لأعمار الأشخاص، استقاها أحبار اليهود الذين كتبوا التوراة، إبّان السبي البابلي، عزرا وصحبه، لا من الأسطورة السومريّة فحسب، ولكن من الأساطير الأكاديّة والبابليّة والكنعانيّة والأوغاريتيّة أيضاً، التي كانت منتشرة ومعروفة في بلاد الشام والعراق، بعد تحويرها والتلاعب بها ومطّ الأعمار لتغطية فجوات زمنيّة كبيرة استلزمتها عمليّة التزوير والتلفيق.
لا تتبدّى الخطورة في مجرّد سرقة تراث الشعوب السابقة وأساطيرها، من قبل أحبار اليهود، وتوليف أسطورة يهوديّة مزيفة لا يسندها التاريخ، ولكن في تحويل هذه الأسطورة المسروقة إلى كتاب مقدّس لا يزال يحكم عقول أكثر من نصف سكان العالم منذ حوالي خمسة وعشرين قرناً، ويكرّس وعداً إلهيّاً بحق اليهود في أرض لم تكن يوماً لهم..
حين يقرأ مواطنو العالم الغربي، يهودٌ ومسيحيّون، كتابهم المقدّس، فمن الغريب أن لا تثير الأرقام العجيبة لديهم أسئلة تحتاج إلى مراجعة وتدقيق ونظر، وصولاً إلى التحقق من مصداقيّة هذا الكتاب المقدّس، فإذا كان مطّ الأعمار والمبالغة فيها صالحاً لروايات أساطير الشعوب، فليس الأمر كذلك في كتاب مقدّس يدّعي مزوّروه إلهيّةَ مصدره.
وإذا كان المتنوّرون منهم قد فعلوا، وكتبوا، فإنّ تأثيرهم بقي نخبويّاً، ودون أن يمتد إلى عقول الجموع والعامّة، وإن لعب دوراً هامّاً في حركة التنوير، وصولاً إلى فصل الكنيسة عن الدولة.
دعونا نتحقق من أحد جوانب الأمر، مستندين إلى أرقام التوراة وأعمار أشخاصها، على اعتبار أنّ خلق آدم هو السنة الأولى في تقويم الخليقة، تبعاً للكتاب المقدّس، وأنّ عمر الجيل الواحد هو ثلاثون سنة، كما حدّدته التوراة ذاتها حين ذكرت سلسلة أبناء نوح وأحفاده حتى إبراهيم أنجب سام أرفخشد، ولمّا بلغ أرفخشد خمساً وثلاثين سنة أنجب شالخ، فلمّا بلغ ثلاثين سنة أنجب عابر، فلمّا بلغ أربعاً وثلاثين سنة أنجب فالغ، فلمّا بلغ ثلاثين سنة أنجب أرغو، فلّما بلغ اثنتين وثلاثين سنة أنجب شاروغ، فلمّا بلغ ثلاثين سنة أنجب ناحور، فلمّا بلغ تسعاً وعشرين سنة أنجب تارح، وبلغ تارح خمساً وسبعين سنة فأنجب إبراهيم، وجملة هذه السنين من الطوفان إلى ولادة إبراهيم مئتان وسبع وتسعون سنة ..
والتحقق يبدأ بإعداد جدول زمني بولادات ووفيّات أفراد سلسلة النسب، تبعاً للتوراة، وباعتبار أنّ كل فرد في السلسلة أنجب خلَفَه وهو وسطيّاً في الثلاثين من عمره، وليس كما ادّعى مولّفو التوراة من أعمار مختلفة متضاربة لأجيال السلسلة السابقة لنوح، فجعلوا آدم ينجب شيثاً بعد 130 سنة مثلاً، ومتوشالح ينجب لامك وهو في سن 187 سنة، ولامك ينجب نوحاً في سن 182 سنة، أمّا نوح فينجب سام وعمره 500 سنة، ليقفزوا قفزة غريبة إلى الأرقام الصغيرة مع أبناء سام وأحفاده، كما بيّنا أعلاه.
السلسلة
العمر
سنة الولادة
سنة الوفاة
آدم
930
1
930
شيث
912
30
942
أنوش
965
60
1025
قينان
910
90
1000
مهلئيل
895
120
1015
يارد
962
150
1112
أخنوخ
365
180
545
متوشالح
969
210
1179
لامك
777
240
1017
نوح
950
الطوفان سنة 870
270
1220
أخطر ما يفصح عنه هذا الجدول الزمني، أنّ الطوفان، حسب التوراة، حصل في العام 870 من بدء الخليقة، قبل وفاة جميع أفراد السلسلة، عدا أخنوخ..
هل حصل الطوفان في زمن كان آدم ونسله لا يزالون على قيد الحياة؟ إذ يشير الجدول أنّ آدم عاش 60 سنة بعد الطوفان، وشيث 72 سنة، وأنوش 155 سنة، وقينان 130 سنة، ومهلئيل 145 سنة، ويارد 242 سنة، ومتوشالح 309 سنوات، ولامك 147 سنة.
أين كان هؤلاء حين حصول الطوفان؟
هل ركبوا السفينة مع نوح؟ والتوراة ذكرت الناجين دون أن تشمل هؤلاء «وفي ذلك اليوم ذاته دخل نوح السفينة، هو وامرأته وبنوه سام وحام ويافث، ومعهم جميع أصناف الوحوش والبهائم..»..
وأين عاشوا؟ وماذا كانت أدوارهم؟
أم غرقوا جميعهم مع الكافرين؟
أم أنّ كاتبي التوراة قد خرّفوا واعتمدوا على جهل الشعوب؟
أكثر من ذلك، يحدّد بعض الباحثين في تأريخ التوراة أنّ عصر إبراهيم المزعوم كان بين 1800 1850 قبل الميلاد، وأن الطوفان حدث قبل إبراهيم بحوالي ثلاثة قرون 297 سنة من سام حتى إبراهيم حسب التوراة ، أي في القرن 22 21 قبل الميلاد، فإذا كان الطوفان، حسب التوراة، قد حدث في العام 870 من بدء الخليقة، فإن عمر الخليقة سيكون في حدود أقل من ثلاثة آلاف من السنين قبل الميلاد، وهذا مخالف لكلّ معطيات التاريخ وسيرورته وتدوينه، ناهيك عن مكتشفات الهياكل البشرية التي تعود لمئات الآلاف، بل والملايين من السنين..
يذهب الباحث الجاد د. إسماعيل ناصر الصمادي في كتابه «نقد النص التوراتي، التأريخ التوراتي المزيّف» إلى الاستنتاج بأنّ «التأريخ التوراتي ليس تاريخيّاً، أي أنّه ليس بزمان تاريخي كرونولوجي، ولو حاولنا اعتبار الزمان التوراتي تاريخيّاً فعلينا أن نقبل أنّ أوّل إنسان وُجد على وجه الأرض آدم كان سنة 3903 قبل الميلاد، أي منذ 5900 سنة فقط، وأنّ طوفان نوح حصل سنة 2247 قبل الميلاد، أي قبل 4250 سنة فقط»..؟؟
والغريب أنّ الكنيسة كانت تأخذ بالنص الحرفي للتوراة، فتعتبر أنّ عمر العالم هو 6000 سنة، وأنه قد خُلق بيد الله في 23 تشرين الأول 4004 ق.م. كما أشار رجل الدين صامويل ويلبر فورس في محاضرة في جامعة أكسفورد في الثلاثين من حزيران عام 1860 .
ثمّة ما هو أكثر غرابة بعد، فإذا كان نوح قد عاش 350 سنة بعد الطوفان، وتقول التوراة أنّ جملة الفترة من سام حتى إبراهيم كانت 297 سنة، فذلك يعني أنّ نوحاً عاصر إبراهيم لحوالي 53 سنة. فأين كان نوح خلال هذه الفترة؟ وهل التقيا؟ وهل…؟.
قد يجادل المدافعون عن التوراة أنّ تقديرات الأولّين، قبل إبراهيم، لأيّام السنة الواحدة ليست التقديرات ذاتها بعد إبراهيم، وبالتالي فليس مدار الخلاف هو عدد السنوات، ولكن عدد أيّامها، غيرَ أنّ أحداً لم يذكر لنا ما هي هذه التقديرات، ولا جاءت مدوّنات المكتشفات الآثاريّة بما يُجلي المسألة، لتبقى غامضةً مبهمة..
يبقى أن نطلب من كلّ يهود العالم، ومن مسيحييه الذين استسلموا للمؤامرة الكبرى على دينهم، حين قبلوا باعتبار التوراة الركن الأساسي في كتابهم المقدّس، ومن مفسّري القرآن استناداً لمقولات التوراة، أن يقدّموا لنا توضيحاً للأمر، إن كان ثمّة طوفان قد حدث فعلاً، كما روَت التوراة، أم أنّ الأمر كذبة كبرى ولّفها عزرا وأتباعه، لتمرير ما أرادوا، وابتلعها الآخرون.
وإلاّ… فليعترفوا، وليعيدوا النظر، دون مكابرة ومداورة..
إنّ نقض هذه الكذبة سيقودنا إلى نتيجة خطيرة، هي نقض مفهوم «السّاميّة» الذي استحكم بعقول العالم على امتداد آلاف السنين، وجرى توظيفه من قبل اليهود، منذ القرن التاسع عشر، توظيفاً سياسيّاً قبيحاً، بحيث بات اليوم أحد المفاهيم الأساسيّة التي تُبنى عليها سياسات الدول، كحقيقةٍ ناجزة لا جدال فيها، وتصدر استناداً إليها قوانين «محاربة العداء للساميّة» التي طالت الكثير من المثقفين، غربيين قبل العرب.
ولم يكن العالم الغربي وحده مّن ابتلع هذه الكذبة، فقد ابتلعها العرب والمسلمون وتحمّسوا لها، وأفاض الكتّاب والمثقفون منهم في استخدام تعبير «العرق السامي» كجذر تاريخي لأسلافهم و«اللغات الساميّة» للغتهم، مساهمين عن جهل في تكريس إحدى أكبر خدع التاريخ.
كيف ذلك؟
تقول التوراة إنّ الطوفان عمّ الأرض كلّها، وأفنى الحياة عليها، ولم يبقِ على مخلوق أو كائن على وجهها، سوى مَن ركب السفينة مع نوح، «خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع، تعاظمت المياه فغطّت الجبال، فمات كلّ ذي جسدٍ يدبّ على الأرض، من الطيور والبهائم والوحوش وكلّ الزّحافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح حياة من كلّ ما في اليابسة قد مات، فمحا الله كلّ قائم كان على وجه الأرض»، ولم ينجُ سوى نوح وأبنائه الثلاثة وزوجاتهم، لتصل إلى أنّ سلالات البشر التي عاشت لاحقاً على الأرض، جاءت كلّها من صلب أبناء نوح الثلاثة، سام وحام ويافث.
ومع أنّ تعبير «وجه الأرض» قد عنى مرّات عديدة في التوراة ذاتها «الأرض في المنطقة المرتبطة بالحدث المعني فقط»، وتعبير «كلّ الناس» عنى مراراً «كلّ الناس الذين يعيشون في منطقة الحدث فقط»، إلاّ أنّ أحبار اليهود عمّموا التعبيرين ليعنيا سطح الكرة الأرضيّة كلّه، والبشريّة كلّها، عدا أبناء نوح الثلاثة، لتحقيق غاياتهم والانتقال إلى تكريس الكذبة الأكبر في التاريخ، الرفع من قدر سام، وتصغير قدر حام، لتجعل من ابنه كنعان عبداً لسام وخادماً له ولأبنائه عبر التاريخ، وتسوّغ بالتالي سيطرة اليهود على أرض الكنعانيين، يقول الإصحاح التاسع 20-27 : «وكان نوح أوّل فلاّح غرس كرماً. وشرب نوح من الخمر، فسكر وتعرّى في خيمته. فرأى حام أبو كنعان عورة أبيه، فأخبر أخويه وهما خارجاً. فأخذ سام ويافث ثوباً وألقياه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء ليسترا عورة أبيهما، وكان وجهاهما إلى الخلف، فما أبصرا عورة أبيهما. فلمّا أفاق نوحٌ من سكره علم بما فعل به ابنه الصغير، فقال: «ملعونٌ كنعان! عبداً ذليلاً يكون لأخوته»، وقال: «تبارك الربّ إله سام، ويكون كنعان عبداً لسام. ويزيد الله يافث، فيسكن في خيام سام، ويكون كنعان عبداً له!»…
قصّة سفيهة مهلهلة سيّئة الإخراج، تنطلي على البشريّة آلاف السنين، ودون أن يسأل أحدٌ عن علاقة كنعان بالأمر وحمله وزر أبيه، إن كان ثمّة وزر في هذه المسرحيّة الركيكة.
والتوراة حسمت لنا أنّ هذا الطوفان المزعوم قد حدث في فترة بين القرنين 22 21 قبل الميلاد.
هنا، لا بدّ من العودة إلى مجريات التاريخ الموثّقة والمعروفة، والتي ساهمت المكتشفات الآثاريّة في حسمها، فيما يتعلّق على الأقل بشعوب بلاد الشام والرافدين ومصر.
في مصر أولاً، والتي بات تاريخها واضحاً ومحدّداً بتفاصيله، منذ البدايات، نجد أنّ هناك عشر أسر حاكمة تتالت على حكم مصر قبل العام 2100، وهي الفترة المسماة «الإمبراطورية القديمة»، وفي هذا التاريخ بدأت المرحلة الأولى المتوسطة بحكم الأسرة الحادية عشرة، وتتابعت المراحل دون انقطاع، حتى أنهاها الاسكندر المقدوني، بعد 1800 سنة، في القرن الثالث قبل الميلاد، ودون أن يمرّ عليها طوفان، وتُباد البشريّة فيها كما خرّف مولِّفو التوراة، فلا علاقة في نهاية الأمر لنَسَب المصريين وباقي الأفارقة بحام التوراة ولا بنوحها، ولا بهذه الكذبة التاريخيّة التوراتيّة برمّتها.
أمّا في بلاد الرافدين، وفي مدينة أور بالذات، جنوب العراق، التي ولد فيها النبي إبراهيم، بحسب التوراة، وبالضرورة أسلافه، فقد خضعت المنطقة لحكم السومريين منذ ألفي سنة قبل التاريخ المزعوم للطوفان، ثم لحكم الأكاديين، وفي القرنين الحادي والعشرين والثاني والعشرين قبل الميلاد كانت تحت حكم الأسرة الثالثة التي أسّسها الملك «أور نمّو» واضع التشريعات القانونيّة الأولى، والتي دامت من عام 2113 ق.م حتى 2006 ق.م، لتتوالى الأحداث ويتبدّل الحكام حتى يومنا هذا، مروراً بالدولة الآشوريّة، ثم البابليّة وحكم حمورابي في العام 1970 قبل الميلاد، ودون أن يحصل انقطاع تاريخي، لا بسبب طوفان مزعوم، ولا بغيره.
فكيف يكون كلّ سكان بلاد الشام والعراق والجزيرة العربيّة واليمن من نسل سام بن نوح إن كان الطوفان قد حصل في هذا التاريخ؟
كيف يكون العرب كلّهم، كما اليهود، من نسل هذا الـ سام المزعوم؟
ولكن، ما رأي القرآن في الأمر؟
هل صادق على الرواية التوراتيّة، كما يتوهّم الكثير من المسلمين استناداً لتفاسير مضلّلة ركنت إلى التوراة، أم لم يفعل؟
القرآن لا يذكر طوفاناً شاملاً عمّ كلّ أصقاع الكرة الأرضيّة، وأفنى سائر الجنس البشري، بل تحدّث عن طوفان محلّي طال قوم نوح فقط، الذين رفضوا دعوته و«استكبروا استكباراً».
والقرآن لم يذكر تواريخ للحدث، بما يوقعه في خلط كذّبته شواهد التاريخ والمكتشفات الآثاريّة، ولا أسماء الأبناء، فليس لـ سام المزعوم ذكرٌ فيه، ولا لحام ولا ليافث، بقدر ما أورد الحادثة كإحدى سيَر الأوّلين، من باب العظة، كما فعل في قصصه حول أقوام أخرى، كعادٍ وثمود وغيرهم الذين عاقبهم بطرق مختلفة، طالت كلاً منهم على حدة، في أرضه، كالصواعق والزلازل والفيضان، ودون أن تعمّ البشريّة كلّها.
والقرآن لم يحصر الناجين من الطوفان بنوح وزوجته وأبنائه الثلاثة وزوجاتهم، وإنّما أشار إلى أمم وجماعات أخرى «قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أمم ممّن معك و أمم سنمتّعهم ثم يمسّهم منا عذاب أليم» هود 48، بما يشير أنّ قصّة نوح القرآن تتناقض مع قصّة نوح التوراة.
رغم كلّ هذا، فقد جنى مفسّرو القرآن على النص القرآني، وألبسوه عنوةً مفاهيم ومقولات التوراة، عن جهل أو عن سوء نيّة وقصد، وهم تبنّوا ما سبق أن ولّفه مزوّرو الأحاديث النبويّة من تخاريف وضعوها على لسان النبي الكريم، الذي لا يمكن أن يخلط بين ما جاءه به الوحي وما خرّفه أحبار اليهود.
دعونا نستعرض نموذجين اثنين، رغم وفرة النماذج والأمثلة، عما جاء به مفسّران معتبران من مفسّري القرآن من تخاريف…
جاء في تفسير ابن كثير، ج 2، ص. 397، حديث بسنده أنّ رسول الله ص قال: «لمّا حمل نوحٌ في السفينة من كلّ زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف تطمئن المواشي ومعها الأسد؟ فسلّط الله عليه الحمّى، فكانت أول حمّى نزلت في الأرض، ثمّ شكوا الفارة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا، فأوحى الله إلى الأسد فعطس فخرجت الهرّة منه فتخبّأت الفأرة منها»!!
هل يمكن أن يصدر مثل هذا التخريف عن الرسول الكريم؟ حاشاه..
أمّا القرطبي، في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» ج. 9، ص. 37، فيورد حديثاً عن ابن عبّاس أنّه قال: «لمّا كثرت الأرواث والأقذار في السفينة أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، فقال نوح: لو غمزتُ ذنب هذا الخنزير، ففعل، فخرج منه فأر وفأرة، فلّما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها، وتقرض الأمتعة والأزواد، حتّى خافوا على حبال السفينة، فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد، فمسحها فخرج منها سنّوران فأكلا الفأرة، ولمّا حمل الأسد في السفينة، قال: يا ربّ من أين أطعمه، قال: سوف أشغله، فأخذته الحمّى، فهو الدهر محموم»..
والأمثلة كثيرة، تعجّ بها تفاسيرنا، دون أن تثير لدى معظمنا الدهشة والاستغراب، وتدعونا إلى تكذيبها وإعادة النظر في اعتمادها والقبول بما ورد فيها من تخاريف لا تقلّ عن تخاريف أحبار اليهود، بقدر ما تؤكّدها كمرجعيّة للكثير من مفاهيمنا الساذجة.
في الخلاصة، لسنا ساميّين بالمفهوم الذي جاءت به رواية التوراة، ولا بغيره، وعلى الذين يتمسّكون بساميّتهم البحث في التاريخ عن سام آخر غير سام التوراة المزعوم..
علينا إعادة النظر في الأمر برمّته، ونشر الحقائق أمام العالم الذي انطلت عليه أكاذيب التوراة، وأمام مثقفينا المضلّلين والمنساقين وراء هذه الأكاذيب..
ولنتوقّف عن استخدام تعبيري «العرق السامي» و«اللغة الساميّة» في أدبيّاتنا، ولنطالب منظمة الأمم المتحدة، بأذرعها المختلفة، بإسقاط مفهوم «الساميّة»، وكل التداعيات والقرارات التي انبنت عليه.
السكوت جريمة.