«الهايكو» في معادلات القبض على باسكال… أصابع قطعوها ونهراً أكلوا ثيابه!

النمسا ـ طلال مرتضى

أنهكتها قصص «تفاصيل» كتابها الأول، خرجت من صوتها لتقف عند زيح الهامش المنفيّ من دفتر حسابها، وبين جملتين معترضتين وضعت «فاصلة» لكل ما تقدّم وتأخّر..

لم تكن لترتضي الاستكانة، تيقنت بحواسها كلّها أن «أنجلو» القادم من حبر القصيد، سوف يُسقط عنها شبهة التأويل، حينما رآها تلوذ وراء بيوت الشعر لتواري حيض حبكتها المنتقاة.

الذين يعرفون باسكال صوما يعون تماماً أنها تعمل على تشكيل صوت شعريّ يخصّها هي لا سواها. من هنا ذهبت نحو الجغرافيا القصية، لتفتعل ما تريد من دون تحيّز إلا لذاتها، حين انتهجت من مقولة «الهايكو» سبيلاً للخلاص من هوج عصف شعري وابل يفور داخل أوردتها.

تعريفاً: «الهايكو» فنّ أدبي من فنون الإيجاز، يعود الفضل في ازدهاره إلى المعلّم الياباني «باشو الكبير»، ومن أعمدة هذا الفن الشاعر «بوسون»، و«ماسا رأوكا شيكي» و«ناتسومي سوسيكي». وكفنّ أدبي له علائقه الخاصة، فإنه نحى نحو مواضيع الطبيعة ليشي بأصالة معطاه، حين حُملت قصائده بمفردات موسمية تحمل إحساساً بالغ الرهافة باعتمادها على بلاغة البديع، مثل الجناس وغيره، من دون الاهتمام بالبيانية كالتشابيه والاستعارات.

ويعزى لـ«الهايكو» أنه كان السبب الرئيس في تجلّي المدرسة أو النظرية «الصورية» الإنكلو ـ أميركية، التي راجت مؤخراً وتأثر بها الكثيرون أمثال، إيمي لويل، كونراد آيكن وآخرون.

استطاعت باسكال صوما من خلال تناولها ألفاظاً بسيطة بعيدة عن التأنق الموشى بكلمات مزخرفة، أن ترسم بصمتها الخاصة بدفق عفوي فياض:

في الظهيرة التي خلف بيتنا

نهرٌ أكلوا ثيابه

ثم قالوا إن وحشاً يجول في القرية!

هذا الانسياب اللافت لدى صوما أسس أصواتاً داخل النصوص، محسوسة من خلال حواريتها مع ذاتها ومع الآخر في آن:

الفراغ

ماذا تعرف عن الوحدة

قل لي؟

هل سبق أن حضّرت فنجانَي قهوة

واحدٌ لك

والآخر لك أيضاً؟

الدكتور رامز الطويلة، مؤسس مشروع «الهايكو العربي» يقول: إن التعبير عن مشاعر جياشة وأحاسيس عميقة بنظرة تأملية يُظهر «الهايكيست» فيها عنصر الدهشة، لتصل إلى المتلقي مسببةً له لحظة من الذهول.

الخاتم ضيّقٌ على حزني

أهدني ابتسامة!

ثم تقول:

مذ لم يعد موت الآخرين

يحزنني

أدركت أنني متُّ ولم أنتبه!

أمام هذا الإيغال في الجمال المتكاثف من المعاني العميقة والمنجزة بحركات بسيطة سهلة ممتعنة، تضعنا أمام إدهاش حقيقي، لربما لم ننتبه له خلال تعاطينا اليومي:

السر أننا

نأكل أظافر اللُّعب

التي فينا

وأننا لسنا أطفالاً

بما يكفي

حتى نبكي ألم اللعب

التي فينا!

وفي موضع ما، تسقط الأمثولة بحساسية سلسة بعيداً عن التصنع:

هذه الأصابع التي غادروها

بالسذاجة ذاتها

عادوا إليها بآلاف الأقدام

وحين لم تعرفهم

قطعوها!

ثم تنزح نحو عمق الدلالات لتناصّ القول البياني:

لعلّك تقول

حبيبتي هزّي بابك حتّى نقفل العالم.

ذات مقال، سألها الإعلاميّ طلال سلمان: أين تختزنين كل هذا الشغف، كل هذا العشق للحياة، كل هذه التجربة المريرة والقدرة على صوغها شعراً، أيتها المرأة التي كنت أظنك طفلة فإذا أنتِ غارقة في لجة العشق.

دأبت الشاعرة إلى تفعيل مضمرات مقولتها ببثها النفس الواقعية الصادمة في كثير من الأحيان وذلك لتنجو من الكنايات المواربة التي تنطوي تحت شبهات التأويل: أحاول أن أفهم العالم بلا نظارتين.

لم تستكن لبرهة لتوقف الجدل الدائر بين أناها الدائمة المتوثبة والعامي المحسوس المكتظ بالمتناقضات، ليثير المفرز المدلول الكثير من الأسئلة المستباحة:

لا أحد يعلم

كم يتقاضى البحر

مقابل كلّ هذا الصمت.

وفي لحظة تجلّ، تنظر بعين الناقد العليم لتثري المقام:

تخيّل شكل الكلمة الأخيرة

وهي تخرج عن القافية

تخيّل كيف تقف لها كل القوافي المتوازية

عند قارعة المعنى

المعنى قافية مكسورة.

من علمها فنّ الغواية، باسكال صوما تطوي بنا ضفّتَي منجزها الأخير، للتوّ تركتني ألوك ريق دهشتي من دون ارتواء:

أنا مغادرة الآن

تركت لك قلباً في الثلاجة

كويت ملابسك وعلّقتها

مكان الصورة الكبيرة

التي كسرتها لتوّي

ملاحظة أخيرة!

يذكر أنّ مجموعة «فاصلة» للشاعرة باسكال صوما، صدرت عن «دار الروسم» العراقية ـ 2016.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى