التكفير… مدرسة وثقافة
عصام الحسيني
في تطوّر الحضارات عبر التاريخ، انتقل الإنسان بثقافته المكتسبة، من مفهوم الحياة الفردية، التي تقوم على إشباع حاجاته الحياتية الأولية، المادية والمعنوية، إلى مفهوم حياة الجماعة، ثم إلى مفهوم الإنسان الاجتماعي، في صيرورة تاريخية، اختزلت في باطنها، كلّ المعارف والتجارب والنظريات والعلوم، لتصل به إلى حياة أكثر سعادة، ولتؤمّن له الأمن والسلام.
ولطبيعة التطوّر وضروراته، كانت الكثير من المفاهيم الملتبسة، والنظريات العابرة، تخضع للدراسة والتحليل والمناقشة والتجربة وإعادة التجربة، لتصبح علماً ينتفع به، وقاعدة من قواعد النظم العلمية والاجتماعية، يستفيد منها دائماً، في رحلة الإنسان الحضارية، اللامتناهية.
وكانت للفلسفات الإنسانية منذ وجودها، وظيفة فهم صراع النفس البشرية، ونقلها إلى عالم أفضل، عالم من المعرفة بعالم نعيشه، ولا ندركه.
لقد كانت لفلسفة الإغريق، ولكلّ الفلسفات التي عاصرتها، الخطوة الإنسانية الأولى، في فلسفة رؤية إنسانية أكثر عدالة، وأكثر تسامحاً…
فمن نظرية أفلاطون المثالية، حيث أنّ العالم يمكن أن يعيش انعكاساً لسعادة لا تفنى، سعادة حقيقية تشعّ من عالم المثل، إلى نظرية أرسطو المنطقية، في عالم يمكن أن يعيش ليس بسلام فقط، بل يعيش عيشاً سعيداً، إلى نظرية بوذا الهندية الإنسانية الراقية حيث أوصى تلامذته يقول: «اذهبوا إلى كلّ بقاع الأرض، ولقنوا الجميع هذا الدرس، أكدوا لهم أنّ الفقراء والوضعاء والأغنياء وعلية القوم كلهم سواء، وانّ المخلوقات جميعها متحدة مرتبطة في هذا العالم، كما تتحد قطرات الماء جميعها في البحر».
ثم أتت الفلسفات الدينية، التي أسّست لثقافة السلام والمحبة والرحمة، ثقافة الإنسان الحضاري، صاحب الفكر والقيم الراقية، لتجعل الإنسان أكثر فهماً لطبيعة الوجود والحياة، ما قبلها وما بعدها، وأكثر تقبّلاً لوجود الآخر، والـ»أنا» الآخر، وأكثر سعادة بعالم يقوم على العدالة والمساواة، وعلى اعتناق مفهوم الأخوة الإنسانية.
ومن الطبيعي، أن تكون الثقافة الدينية، مدخلاً إلى عالم من القيم الاجتماعية، التي تدعو إلى السلام العالمي، وهو ما ورد في معظم النصوص الدينية، حيث أنّ «السلام» كان المفهوم الأكثر إشراقاً ووضوحاً.
غير أنّ التفسير للنص الديني، كان يمرّ في بعض الأحيان، في مراحل ملتبسة، في معظم الكتب للديانات المنّزلة، حيث رأينا مثال ذلك:
في تفسير حاخامات اليهود للتوراة، وجعل التلمود هو كتاب الله الناطق حسب زعمهم، والذي يعبّر عن رغبات الحاخامات الشخصية الخاصة، وليس تفسيراً حقيقياً لما ورد في الكتاب.
وفي المسيحية، رأينا العديد من وجهات النظر اللاهوتية، التي تفسّر آيات الإنجيل والأحداث والمشاهد بتصرّف، وكما يراها الاجتهاد لفقهاء اللاهوت، فكانت المذاهب المتعدّدة، والكنائس المتعدّدة، انطلاقاً من هذا الفهم المتعدّد، والقراءة المتعدّدة.
وفي الإسلام، رأينا الاجتهاد، وولادة الفرق والمذاهب الفقهية، المتسامحة والمتشدّدة، والتي ترى في تفسير النص الديني المتعدّد، رؤية متعدّدة، قد تصل في بعض الأحيان إلى مرحلة التناقض والصراع غير المفهوم.
وحيث أنّ الله محبة، في جميع الثقافات الدينية، كان من المفترض أن يعمّم هذا المفهوم، على جميع من يؤمن بالديانات المُنزلة وكتبها، كنتيجة منطقية حتمية، لا تحتمل الشكّ ولا الإلتباس.
لكن الواقع، أنّ التفسير الملتبس لجوهر ثقافة الدين، في بعض الأحيان، ولأسباب محض خاصة بأشخاص المفسّرين، من فقهاء وعلماء ومبلّغين ورجال دين، جعل هذا الجوهر الثقافي، يضيع في آتون الرغبات والإجتهادات والطموحات والنزاعات، وينتج صراعات هي أبعد ما تكون إنسانية، قبل أن تكون دينية.
وقد وصلت هذه الصراعات في بعض الأحيان، إلى حدّ التكفير، وهي من أخطر البدع التي ابتلي بها بعض المسلمين، والتي تترتب عليها لمن كان على الإسلام، عقوبة القتل، وهي مخالفة للمنهج الإسلامي الصحيح، ولجوهر ثقافته.
ثقافة التكفير في الإسلام تاريخياً
وفي مراجعة تاريخية، لمفهوم الصراع الفقهي، حول تفسير النص الديني الإسلامي، وما أنتج ذلك من بدع «التكفير»، نرى أنّ هذا المفهوم قد مرّ بمراحل متعدّدة، ولأسباب مختلفة، من حيث الطبيعة والأهداف وهي:
أولاً: في زمن فجر الإسلام، بعد قضية التحكيم، بين الإمام علي ابن أبي طالب، وبين معاوية ابن أبي سفيان، حيث رفض قسم من المسلمين نتيجة هذا التحكيم، وسمّوا بـ«الخوارج».
وقد كفّرَ «الخوارج»، إمامهم علي بن أبي طالب بعد واقعة «التحكيم»، ولم يعترفوا بحكم معاوية، وسيتبنّون وجوب الثورة على أئمة الجور والفسق والضعف.
وبذلك يكون الخوارج هم أول من أسّس لأول فكر متشدّد في تاريخ الإسلام، وأول من نادى بالتكفير بين المسلمين.
ثانياً: مع الإمام أحمد بن حنبل، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، والذي يُعتبر مؤسس الفكر التكفيري فقهياً، بمذهبه السني المحافظ، الذي يعتمد على النص الديني، والابتعاد عن الاجتهاد والتأويل، رغم أنه لم يكفّر في حياته، من عارضه من الفرق الإسلامية الأخرى.
ثالثا: مع أحمد ابن تيمية 661- 728 ، ويوصف بـ«شيخ الإسلام»، وهو صاحب فكر متشدّد، ينتصر للنص على حساب العقل.
نهى عن زيارة قبور الأنبياء، وزيارة قبور الأولياء، والتوسّل بأصحابها.
من فتاوى ابن تيمية:
«إذا أقمت في دار الكفر للتطبّب أو التعلم، أو التجارة، فأقم بينهم وأنت تضمر العداوة لهم».
«من لم يبغض النصارى والكفار ليس مسلماً».
«من شكّ في كفر الشيعة فقد كفر».
«من تمنطق فقد تزندق».
فتوى التتار، وفتوى ماردين، وفتوى التترس، وهي المرجع الفقهي للحركات التكفيرية، التي تُشرعن لحربها على الآخرين.
كان من مذهبه التوفيق بين المعقول والمنقول، وكان مقترحاً متحّمساً للجهاد للحكم الشرعي.
رابعاً: مع محمد بن عبد الوهاب 1703- 1791 ، ويتبنّى فكرة الجهاد كأسلوب لإعادة إقامة دولة الإسلام أو دولة الخلافة.
كان صاحب فكر متشدّد لتفسير الإسلام، حيث ضخم المسائل الفرعية المختلف فيها، إلى درجة التكفير.
من فتاوى محمد بن عبد الوهاب:
«الفكر والكفر سيان، لأنهما من نفس الحروف».
«انّ المسلم لا تنفعه شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله ما دام يعتقد بالتبرك بمسجد الرسول».
من أفكاره:
كان يكفّر أئمة الشيعة الإمامة، وأكثر الصوفية، وكان يفرط في تكفير وتضليل كلّ من هو على اختلاف معه.
أمر بهدم الشواهد والآثار النبوية المتبقية، وهدم الأضرحة والقباب، وقبور الصحابة وآل البيت.
حرّم: الاحتفال بالأعياد والمناسبات من ذكرى مولد ونحوه، باعتبار ذلك عبادة لمن يحتفل بمناسبته، وتعظيم له.
ولادة دولة الإسلام السياسي
تعتبر الدولة السعودية الأولى، التي تأسّست عام 1744 هي النموذج الإسلامي السياسي الأول، والتي كانت تقوم على حلف تاريخي مقدّس، قائم على ركيزتين أساسيتين هما: ركيزة دينية متمثلة في فتاوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وركيزة سياسية متمثلة في حاكم الدرعية محمد بن سعود.
هذا التحالف مكّنَ بن سعود من بسط نفوذه، مقابل دعمه لأتباع الشيخ عبد الوهاب في رسالتهم «تطهير الأرض من الكفار».
لقد بايع محمد بن عبد الوهاب الأمير محمد بن سعود على السمع والطاعة، وبايعه الأمير محمد على نشر دعوته إذا استتبّ له الأمر.
وبعد أن استقرّ الأمر لمحمد بن عبد الوهاب بالدرعية، أمر أتباعه بالجهاد، وبدأت سلسلة طويلة من الغارات على السكان المخالفين لفكره، بوصفهم مشركين، وخارجين عن الدين، ولا يتعبّدون على الطريقة الوهابية، التي تصوّر الإيمان الحقيقي بالله، ومن تلك الغارات:
1 عام 1212 هجري غزوة عرب الشام: حيث تمّ قتل أعداد كبيرة من عرب الشرارات، وأخذوا جميع محلتهم وأمتعتهم وأزوادهم من الإبل والأغنام، ووزعت على الجيش.
2 -عام 1216 هجري غزوة كربلاء: حيث قتلوا معظم أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الإمام الحسين، واخذوا ما في القبة وحولها، وأخذوا النصية التي وضعوها على القبر، وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا في طريقهم.
3 عام 1217 هجري غزوة الطائف: وفتحوها بغير قتال، وقتلوا من أهلها المائتين، وصادروا كلّ ما عثروا عليه.
4 عام 1271 هجري غزوة مكة المكرمة: عندما دخلوا المدينة، قاموا بهدم القباب التي بنيت على القبور، مدة بضعة عشر يوماً.
5 عام 1220 هجري غزوة المدينة المنورة: وعندما دخلوها، هدموا جميع القباب التي وضعت على القبور.
6 عام 1220 هجري غزوة بلدة المشهد العراقية: ولم يستطيعوا الوصول اليها، فأغاروا على الرملات من عربان غزية، واخذوا مواشيهم.
7 عام 1222 هجري غزوة البصرة: عندما دخلوا المدينة، قتلوا الكثير من أهلها، ونهبوا ما صادفوه.
8 عام 1225 هجري غزوة عمان: عندما دخلوا المدينة، قتلوا الكثير من أهلها، ونهبوا أموالاً عظيمة.
وفي النهاية نتج عن هذه الغزوات والحروب، قيام الدولة السعودية الأولى، التي امتدّت من دمشق شمالاً، إلى عُمان جنوباً.
لقد جعل محمد بن سعود، الوهابية مذهب دولته وقانونها، ويظهر ذلك في ما بعد، في «علم» الدولة الذي يحتوي على الشهادة مقترنة بالسيف.
وكان من أسباب انتصار الحلف المقدّس، للدولة الجديدة، إملاءات ابن عبد الوهاب، التي اعتبرت أنّ نجد هي دار هجرة، فشرعت مجموعة من المسلمين بالهجرة اليها، حيث حظي هؤلاء على قيمة دينية واسعة، وأطلق عليهم مسمّى «المهاجرين».
وبذلك ارتبط مفهوم الهجرة بالجهاد، ارتباطاً مؤسساً للقول: لا جهاد بدون هجرة. والهجرة في المصطلح، تشير إلى الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.
وتشرح الوهابية ذلك عبر شيخها عبد الرحمن آل الشيخ بالقول:
«إنّ الله سبحانه وتعالى قد أمر بالهجرة من أجل حفظ هذا الدين، وصون أرواح المؤمنين. فبدون هجرة لا تقوم لهذا الدين قائمة، ولا يعبد الله، ومن المستحيل بدون هجرة أن يجحد بالشرك والظلم والشر».
ومن واضح القول، إنّ «التكفير» متداخل في مفهوم الغزو والجهاد، وأصبح شعار «الجهاد» مبرّراً عبر تكفير المجتمعات المستهدفة.
وفي النتائج، قامت الدولة السعودية الأولى، عبر تحقق مصلحة مشتركة… مصلحة الوهابية التي حصلت على حماية الدولة. ومصلحة آل سعود الذين حصلوا على أيديولوجية مشرعنة لدولتهم.
وهذه الرؤية، هي ما قال به ابن تيمية، الذي كان يعتبر أنّ الدين لا بدّ له من دولة تحميه، وانّ الدولة لا بدّ لها من دين يبرّر وجودها وشرعيتها.
والوهابية في جوهرها، هي حركة موجهة للمجتمع وليس للحكومة. ولذلك عندما سقطت الدولة السعودية الأولى، على يد حاكم مصر محمد علي باشا لم تسقط الوهابية معها، بل كانت تنمو وتكتسب المزيد من التأييد الأيديولوجي لها.
وينسب مؤرّخو الدولة العثمانية، أصول الفكر الوهابي إلى مؤامرة بريطانية، دبّرت بتنفيذ من جاسوس بريطاني يُدعى «المستر همفر»، حيث هدف إلى زرع هذه الحركة في داخل الدولة العثمانية، لأهداف متعدّدة منها:
1 نزع سلطة العثمانيين على إدارة المقدسات الإسلامية، في مكة والمدينة والقدس.
2 إضعاف الداخل الإسلامي عن طريق زرع الفتن بين المسلمين، مثل مهاجمة الصوفية ، التي كانت الإمبراطورية العثمانية تمارسها وتشجعها.
3 محاربة التشيّع القادم من بلاد فارس، التي كانت محكومة من قبل القاجار، وهم الإمبراطورية الإسلامية الأخرى المنافسة للبريطانيين في المنطقة، وعلى مقربة من الهند.
والوهابية، لم تكن الحركة الوحيدة التي زرعها البريطانيون في العالم الإسلامي، وتعمل لمصالحهم، بل أنشأوا غيرها مثل:
1 – الأحمدية: أو ما يُعرف بالقاديانية، التي ظهرت بين مسلمي الهند في القرن الثامن عشر.
2 البهائية: التي ظهرت في بلاد فارس في القرن الثامن عشر.
ولادة المملكة العربية السعودية
وحول كيفية وظروف قيام وتشكل، الدولة السعودية الثانية، المملكة العربية السعودية فإنه: بعد التحالف العثماني الألماني، بعد توحيد ألمانيا على يد بسمارك، أحسّ البريطانيون بخطر محاصرتهم في مصالحهم في الهند، وخاصة بعد كشف مخطط مدّ السكة الحديدية، التي تبدأ من برلين، مروراً بأوروبا الشرقية، واسطنبول والأناضول، إلى الموصل فبغداد والبصرة، وتنتهي بالكويت على ساحل الخليج العربي، على مقربة من الهند.
وعليه، وبعد صدق الشكوك البريطانية، وكشف مخطط السكة الحديدية، قام البريطانيون بعمل خطوتين مهمتين لإبعاد العثمانيين من الخليج وهي:
1 توقيع اتفاقية حماية مع الشيخ «مبارك الكبير»، أمير الكويت عام 1897 ، والتي كانت آنذاك قرية تابعة لقضاء البصرة، وتحت حكمها، وظلت ترفع علم الحماية حتى عام 1962 .
2 دعم «عبد العزيز آل سعود»، الذي كان لاجئاً في الكويت حينها، وإمداده بالسلاح والمال والرجال، لطرد ابن الرشيد، عامل العثمانيين في نجد، والاستيلاء على نجد ثانية، تلتها الإحساء على ساحل الخليج، والتي أسّست لولادة المملكة العربية السعودية.
وكانت الوهابية، هي السلاح الايديولوجي لمحاربة العثمانيين، وفي خدمة المشروع البريطاني، مما يدلل على أنه أمكن استخدامها لغايات سياسية إمبريالية، لأكثر من مرة، ولو كانت ذات طابع أيديولوجي ديني.
الفكر التكفيري المعاصر
بعد سقوط «النظام القومي العربي»، و«المنظومة الاشتراكية الدولية»، برز مفهوم نظام الإسلام السياسي، كبديل عن فشل خيارات الأنظمة القائمة، في السياسة وفي الاقتصاد، الإسلام الذي يتبنّى ايديولوجية التكفير، كمنهج في الفكر وفي السلوك.
وقد ارتكز قيام هذا التيار التكفيري، على عوامل متنوّعة متعدّدة، ساهمت وأسّست لبروزه وتشكّله، حيث أصبح ثقافة مُعمّمة، في الكثير من المجتمعات الإسلامية، ومن هذه العوامل:
1 الخلفية الثقافية الدينية، والدعم السعودي غير المحدود، وتستمدّ شرعيتها قياساً، مما ورد من فتاوى مشايخ التكفير، ابن تيمية، وابن عبد الوهاب، معمّمة بأسلوب أبعد ما يكون عن الإسلام الحضاري، حيث ثقافة الكراهية والحقد على كلّ الـ»أنا» الآخر.
وتنتشر المدارس الوهابية التكفيرية، المعمِّمة لهذه الثقافة، في العديد من دول العالم الإسلامي، والتي تغذي هذا الفكر، وذلك بدعم مباشر من راعي هذا التوجه، والقيّم عليه.
وتقوم المملكة العربية السعودية، برصد أموال طائلة، لنشر التعاليم الوهابية التكفيرية، بدليل ما يقول به السفير الأميركي السابق لدى كوستاريكا كورتين وينزر على لسان اليكسي اليكسيف أثناء جلسة الاستماع أمام لجنة العدل التابعة لمجلس الشيوخ في 26 أيار 2003 بأنّ
«السعودية أنفقت 87 مليار دولار خلال العقدين الماضيين لنشر الوهابية في العالم.
ويلاحظ وينزر، في دراسته حول تاريخ نشأة الحركة الوهابية، جهود نشر الوهابية في عدد من بلدان جنوب شرق آسيا، وأفريقيا، والدول الغربية، من خلال بناء المساجد والمدارس الدينية، والمشروعات الخيرية، واستقطاب الشباب العاطل والمهاجر في هذه البلدان.
وتقول هذه الدراسة، إنّ خريجي المدارس الوهابية، كانوا وراء بعض الأعمال الإرهابية، مثل اغتيال الفنان الهولندي تيودور فان غوغ عام 2004، وتفجيرات لندن عام 2005.
2 فشل النظام العربي السياسي والاقتصادي: كان لفشل معظم النظام العربي، في خلق مجتمعات سياسية مستقرّة، تنتج ثقافة وطنية، بعد خروجه من مرحلة الاستعمار المباشر، مع فشله في خلق تنمية اجتماعية اقتصادية، أحد الأسباب المساعدة في وجود فكر إسلامي تكفيري، كردّ على واقع مأزوم، وفشل مزدوج.
ولم يستطع المال العربي النفطي الريعي، في خلق هذه الحاضنة الاجتماعية، لا على المستوى القطري، ولا على المستوى القومي، مما ساعد في خلق مناخ فكري متطرف، تحت عنوان الحاجة إلى دولة «ثيوقراطية» يكون الحلّ معها.
وما المظهر السياسي، في ظاهرة «الربيع العربي»، إلا أحد تجليات هذا الواقع المأزوم، لكنه غير مرفود بفكر بديل، يقود نحو بناء مجتمع أفضل، بديل ينتج مواطنية ومواطن، فكان انهيار ما تبقى من نظام، مع بديل الفوضى، والتكفير، واللانظام.
3 استغلال الاستعمار الغربي لظاهرة التكفير: لقد استغلّ الاستعمار الغربي ظاهرة التكفير، في خدمة مصالحه الاستراتيجية، قديماً وحديثاً.
فالاستعمار القديم وعلى رأسه إنكلترا، استفاد من الفكر التكفيري في حربه ضدّ السلطنة العثمانية، وألمانيا النازية، لقاء دعمه في بيئته، وتمكينه من أعدائه، وتزويده بما يحتاج لقهر خصومه، لوصوله إلى السلطة، ولحماية هذه السلطة مستقبلياً، كونها تفتقر إلى المشروعية الشعبية، وهي وليدة تحالف قوى الاستعمار الغربية، والقوى الرجعية العربية.
وجاء الاستعمار الجديد، المتمثل في القوة الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الأميركية، ليكمل هذا المشروع، بتكتيك مختلف، لكن تبقى الأهداف واحدة، في الاستلاب، وتكريس التبعية.
لقد استفاد الاستعمار الغربي القديم والحديث، من الفكر التكفيري، في النقاط التالية:
1 تأمين سيطرة غربية استعمارية، على موارد المنطقة الطبيعية، من خلال دعم النظام الرجعي الحاكم، المتحالف مع الفكر التكفيري الوهابي.
2 تكريس القطرية، بدل القومية، والوقوف في وجه قيام قومية عربية، على قاعدة «أنا أو لا أحد».
3 ولادة شرق أوسط جديد بلا فلسطين، مع «وجود» كيان العدو الصهيوني ليكون بديلاً عنها.
4 الإساءة إلى الدين الإسلامي ومحاولة تشويهه، من خلال إبراز الوجه العنفي غير الإنساني وربطه به، خدمة للوجود الصهيوني في المنطقة، وإسقاطاً للقيم المحصّنة للمجتمع القائم، ليصبح خرقه متاحاً ومتيسّراً، لأهداف الاستعمار.
5 القضاء على الجيوش العربية، التي قد تشكل خطراً على العدو الصهيوني، أو التي من الممكن أن تشكل عليه خطراً مستقبلياً، أو التي من الممكن أن تتصدّى لمشاريع الاستعمار، وذلك بضربها عبر تنفيذ مؤامرات من الداخل الوطني، أو ضربها عبر تنفيذ مؤامرات خارجية مستترة.
6 اكتشف الاستعمار أنّ المواجهات المباشرة تنهكه وتكلفه مادياً ومعنوياً، وانه يمكن للفكر التكفيري، أن يحقق له بعضاً من أهدافه، وهو بذلك يصحّ عليه لقب «المرتزق الايديولوجي».
كلّ هذه الأسباب، أدّت إلى بروز فكر تكفيري معاصر، والى ظهور ما يسمّى «السياسة الإسلاموية»، القائمة على شرعية تكفير الآخر.
إشكالية التكفير مع الاستعمار والرجعية
لكن وفي لحظة الاستفادة المتبادلة، والمصالح المشتركة، برز العنصر الراديكالي التكفيري، ليحاول أن يضع قواعد جديدة للعبة، أدّت إلى بروز إشكالية مع الاستعمار الغربي، ومع الرجعية العربية.
لقد قامت الفرق التكفيرية بجميع فروعها، بممارسات عنفية لا إنسانية موثقة، في غزواتها وحروبها الإرهابية في سورية والعراق، وفي العديد من دول العالم، وهي في خلفيتها الثقافية، تمارس واجب الجهاد الذي يوصل إلى الجنة.
وكانت الفتوى الشرعية حاضرة في طقوس القتل، بحسب ما قال به مشايخ التكفير، وخاصة المثال الذي مارسه تحالف الدولة السعودية الأولى، في حربها وغزواتها على محيطها الإسلامي، بتهمة الكفر والشرك والخروج عما أمر به الله.
وكذلك مارست الفرق التكفيرية، الهجرة إلى بلاد الشام والرافدين لإقامة الدين، والذي لا يقوم إلا بالهجرة والجهاد وتكفير الآخر، عبر ما أفتى به الفكر التكفيري الوهابي، والذي تمّ تأريخه من:
هجرة المسلمين الأولى إلى المدينة المنورة، مع الرسول، ثم الهجرة الثانية لنصرة الدين، مع محمد بن عبد الوهاب، إلى الدار الجديدة في نجد، ثم الهجرة الثالثة، إلى لحظتنا المعاصرة، حيث تقاطر إلى بلادنا في «واجب شرعي»، كلّ تكفيريّي العالم، في مهمة جهادية، وهي إقامة الدولة الثيوقراطية، التي أمر بها الله، وليس لرفع لواء الحرية والديمقراطية.
وفي ممارساتها الإرهابية الموثقة، والتي بلغت درجات غير مسبوقة في تاريخ الإجرام، وأمام اهتزاز الرأي العام العالمي، لهول ما شاهده من جرائم مروّعة بحق الإنسانية، وجرائم الإبادة، مما يحتّم التدخل الدولي، لمحاسبته وردعه وتقديمه للعدالة الدولية المفترضة.
وأمام هذا الواقع، وجد الفكر التكفيري نفسه في مواجهة مباشرة مع، الاستعمار الغربي من جهة، والرجعية العربية من جهة ثانية، وهي:
أولاً: إشكالية الاستعمار
إنّ الأسباب الموجبة، لبقاء وظيفة الفكر التكفيري وممارساته لما تزل موجودة، وهي تأمين مصالح الاستعمار الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وفي العديد من دول العالم الإسلامي، بحسب رؤية «المستر همفر» مع الدولة السعودية الأولى، إلى محاربة المشروع العثماني الألماني مع الدولة الثانية المملكة ، إلى المراحل اللاحقة المتتابعة والمستمرة.
وخروج الفكر التكفيري، عن الأهداف الاستعمارية المرسومة له، يحتم ضرورة التحكم به، والسيطرة عليه، كون أنّ وظيفته الاستعمارية لم تنته بعد، ولم يجهز بديل ينوب عنه.
إنّ خروج الفرق التكفيرية عن السيطرة، كان أولاً:
1 – في أفغانستان: حيث تحوّل هذا الفكر التكفيري، من فرق في يد الاستعمار الغربي، بعد انسحاب الجيش الأحمر السوفياتي، إلى فرق تفتش عن وجودها السياسي في النظام الدولي الجديد، معرّضة نفسها وفريقها التكفيري، لخطر مواجهة الراعي الدولي، والذي كانت نتائجه دخول الاستعمار إلى أفغانستان في عملية تأديبه مستمرة.
لقد ساهمت إمبريالية الولايات المتحدة، في دعم وتسليح وتدريب ونقل تنظيم «القاعدة» التكفيري، واستعملته في حربها الباردة ضدّ الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وكسبت الجولة من خلال ورقتها التكفيرية الرابحة.
لكن الإرهاب ارتدّ على صانعيه، من خلال وجود عناصر راديكالية اسلاموية تكفيرية، وكانت أحداث 11 أيلول/سبتمبر، التي أدّت إلى تحويل مسار التاريخ الاستعماري، وحرق ورقة «القاعدة» و«طالبان» باكراً، والتفتيش عن بديل تكفيري آخر، يحمل اسما آخر، لكن بنفس الوظيفة الاستعمارية.
2 في العراق: حيث وصل الفكر التكفيري، إلى تخطي الخط الأحمر المرسوم له، من الاستعمار الغربي، بتهديده المنطقة الكردية، حيث الحماية الأميركية المباشرة لإقليم الأكراد، وحيث وجود المصالح الاستراتيجية الصهيو -أميركية.
وعندها، اضطر الراعي الأميركي للتدخل، وإعلانه حرباً على الإرهاب الداعشي، والتي وصفها الرئيس الأميركي أوباما، بأنها حرب ستمتدّ لفترة زمنية طويلة، قد تستغرق عشر سنوات.
وهذا يعني، أنّ الرئيس الأميركي يعِدُ مصانع الأسلحة الأميركية، بأنها ستعمل لسنين متواصلة، وأنّ وظائفها المدفوعة الرواتب، ستحرك عجلة الاقتصاد الراكدة، من خزينة عرب الرجعية.
ثانياً: إشكالية عرب الرجعية
إنّ الحلف التاريخي، الذي قام بين مؤسس الدولة السعودية الأولى، محمد بن سعود، وبين الداعية التكفيري محمد بن عبد الوهاب، ظلّ حلفاً «مقدساً» لتاريخه، ولو أنه تعرّض في بعض المراحل لبعض الإشكاليات.
فالوهابية، هي ايديولوجية النظام الرجعي القائم، وهي ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها استغناء عن الشرعية المؤسسة لدستور النظام.
لكن ممارسات التكفير الإرهابية الموثقة، أدخلت النظام السعودي القائم، في مواجهة غير معلنة مع المجتمع الدولي، من خلال التلميح والاتهام، بأنه يغذي ويدعم ويموّل الحركات التكفيرية الإرهابية، والأمثلة على ذلك لا تعدّ ولا تحصى، ولا يمكن للنظام السعودي أن ينفيها، لأنها حقائق دامغة.
لقد أدخلت ممارسات الفرق التكفيرية الوهابية، النظام السعودي في إشكالية مع القانون الدولي، وفي إشكالية دعمه لتمويل مصادر الإرهاب، وهي اتفاقيات دولية ملزمة، تجعل من النظام السعودي عرضة للمسألة القانونية وللملاحقة، وهذا محرج ومهدّد لشرعية النظام، ولا يمكن أن تتخطاه.
لقد استعمل النظام السعودي، الفكر التكفيري في العديد من المناطق، لأسباب متعدّدة ومختلفة، منها:
1 في أفغانستان: لمحاربة الجيش الأحمر السوفياتي، ودعمه بكلّ ما يلزمه ويحتاجه، وأظهر نفسه كمدافع عن الإيمان بالله في وجه الكفر والإلحاد.
وما زالت حتى تاريخه، تتلقّى الفرق التكفيرية الأفغانية، الدعم المادي من خزينة النظام السعودي، في ظلّ وجود إشكالية ارتباطه بقضايا الإرهاب.
2 في سورية: حيث دعم الفصائل الوهابية التكفيرية، من تنظيم «القاعدة» وتفرّعاته الإرهابية، في مواجهة النظام السوري العلماني القومي العربي ، وفاءً لالتزاماته التاريخية مع الاستعمار الغربي، في محاربته لظاهرة القومية العربية، والوقوف في وجهها.
وتقف المملكة حالياً، في وجه أيّ حلول سياسية ممكنة للأزمة السورية، مستعملة فصائلها التكفيرية، كأدوات تخريب للحلول، وكأسلوب للتأثير السلبي.
وللدلالة على الفكر التكفيري المنحرف، ما أورده أحد قادة التكفير الوهابي في سورية، وأحد أذرع النظام السعودي، الإرهابي المقتول زهران علوش في مخاطبته لوجود ضريح السيدة زينب في دمشق: «سترحلين يا زينب مع النظام».
3 في اليمن: حيث يقوم النظام السعودي، باستعمال الفصائل الوهابية التكفيرية، في العدوان على الشعب اليمني المظلوم، في ارتكابها للمجازر المروّعة بحقه، إضافة إلى تدخله العسكري المباشر، خلافاً لأيّ مستند قانوني.
4 في العراق: التدخل السعودي، عبر الفصائل التكفيرية، أدخل العراق في بحر من الدماء، وفي مجازر مروّعة يومياً، كلفت الشعب العراقي مآسي كبيرة.
وقد وجهت الاتهامات المباشرة للنظام السعودي، بإدارة الجرائم الإنسانية بحق الشعب والدولة العراقية، وهو الدور نفسه الذي تمارسه في معظم الوطن العربي.
وقد ترافق دعم الفرق الوهابية التكفيرية:
1 – مع دخول النظام السعودي، في أزمات ومواجهات إقليمية ودولية غير محسوبة النتائج الاستراتيجية، عبر التورّط في الحروب السورية واليمنية والعراقية، وفي المواجهة غير المعلنة، مع إيران والاتحاد الروسي.
2 – ومع انخفاض أسعار النفط عالمياً، باتفاقية بين النظام السعودي وبين الاستعمار الأميركي، كورقة ضغط استراتيجية، في وجه إيران والاتحاد الروسي، مما انعكس سلباً على خزانة المملكة، المنهكة في الحروب والفساد والصراع على السلطة.
هذه هي إشكالية المواجهة القائمة، بين الفكر التكفيري الإرهابي من جهة، وبين مشغّله الاستعمار الغربي، والراعي الرجعي العربي من جهة ثانية، وهي إشكالية شائكة، لا يمكن حلها إلا على الشكل التالي:
إنّ نظرية محاربة الإرهاب التكفيري، من المنظور الاستعماري، الرجعي ، نظرية تخلو من الواقعية، لعدم انتفاء الحاجة الاستعمارية الغربية لها، ولأنها تشكل ايديولوجية النظام السعودي القائم، ومصدر شرعيته.
وبالتالي، فإنّ المصلحة المشتركة لأفرقاء النزاع ما زالت قائمة، أقله على المستوى المنظور القريب والمتوسط لكنها تحتاج إلى إعادة ضبط وسيطرة، وإلى عملية قيصرية ضرورية، لتأديب وتهذيب العناصر الراديكالية، وإعادتهم إلى بيت الطاعة التاريخي.
إنّ نظرية محاربة الإرهاب التكفيري، تحتاج إلى عملية فكّ الارتباط، بين جميع مكوّنات الحلف الاستعماري المقدّس، وحينها يكون هذا الحلف، قد أمّنَ البديل الوظيفي، الذي يحقق له مصالحه الاستراتيجية.
إنّ نظرية محاربة الإرهاب التكفيري، هي نظرية ممكنة التحقق، مع الحلف الآخر، الحلف المتحرّر من قيود التكفير والرجعية والتبعية.
هي ممكنة التحقق، مع الفكر الذي يحترم ويعترف بـ«أنا» الآخر، «أنا» الإنسان الطبيعي الموجود في الواقع، في تشكله الاجتماعي، صاحب الحقوق السياسية والمدنية، صاحب الحق بالمواطنية، إنسان بما له حقوق، وبما عليه من واجبات.
يقول بوذا: «لماذا لا تحلّ الرحمة والرأفة، محلّ القسوة، التي تشوّه جمال الحياة في هذا العالم».